منذ نعومة أظافري و أنا أقلب عيناي يمنة ويسرة, أنهل من جماليات واجهات تلك العمارات الشاهقة قدر ما يمكن, وهي التي بناها أجدادي و آبائي حين كنت صغيراً, باحثا عن الإبداع ومحاولاً استشعار الجمال والفن في عناصر تلك العمائر المنتشرة في ربوع مصر,, فلم أجد في الأغلب فيها إلا كلمات غير منتظمة في سياق لغوي معماري يشكو كثيرا.
وحين كبرت ودرست العمارة ومدارسها و فنونها و نقدها , وجمالياتها و إنسانيتها واحتياجها للترابط مع البيئة التي فيها نعيش, وكيف هي الحضارات الأخرى قد ركزت على الفن المعماري لإبراز قوة تلك الحضارة وقيمتها وقدرها.
حينها, أحسست بغربة الهوية والبعد عن جذور المصرية المحلية, وعلمت كيف هي تلك العمارات في بيئتنا ليست إلا مسخا من نقل جاء به من قام على صناعة التشييد في بلادي دونما اهتمام بمفهوم العمارة ومتطلباتها الوظيفية والجمالية التي تشكل الإنسان الذي يعيش فيها, وتشكل وجدانه قبل أن يشكلها.
وعلى مر العصور, فإن العمارة والمباني المعمارية هي الشاهد الأقوى والكائن الأعظم الذي يشهد على مستوى حضارة المكان عبر الأزمان, وهي التي نتعرف من خلالها على قيمة وقدر تحضر الإنسان في حقبة من الزمان, كما هو الحال في حضارة الفراعنة بمصر القديمة وفي الرومانية واليونانية وغيرها.
وحيث أن الأمر كذلك, فقد كان لزاماً على معماريي كل زمان في أي مكان, أن يؤسسوا إلى تأصيل فني معماري يعرّفون من خلاله الأحفادَ مستوى حضارة الأجداد, عبر تفاعل متكامل مع البيئة بتناغمٍ بين الشجر والحجر , بين الطبيعة والبناء , بين المكان والإنسان ليشكلوا من هذه العلوم الإنسانية عمارةً تبوح عن مكنون هذا العصر في كل زمان.
ولا أعظم للمعماريين من أن يتعلموا من الإنسان, الذي تعلم أساليب البناء بدافع حاجاته الوظيفية وبيئته المحيطة, فأنتج مساكن تلبي طلباته مباشرة, وفي نفس الوقت بها من الإبداع الجمالي ما استقاه من الطبيعة,, وهي التي يمكن أن نسميها بالعمارة المحلية في أي مكان في العالم.
ومن هنا نجد احتياجنا و افتقارنا إلى عمارة تعبر عن شخصية مصرية, وهوية تعبر عنا كمصريين وتُنصتُ إلى بيئتنا بما تبوح به لنا وتحاكي بعمارتنا طبيعة بلادنا, وهي مسئولية لا تقتصر على معماريي الوطن بل على دائرة أكثر اتساعا من ذلك رغم أني لا استثني المعماريين.
وبلاشك فإن على كل مصري أن يساعد و يساند في هذا النهج, عن طريق المطالبة بالتصميمات التي تعبر عنا وعن وطننا بما يزخر به من جمال ومناخ و بيئة مصرية, حين يقومون بالإسهام في إنتاج تلك العمائر.
وأدعو الجميع إلى البحث عن تلك الأنماط المعمارية المصرية المحلية مع المطورين العقاريين والعمل بشكل جماعي على تحفيزهم على الإقبال على تلك النماذج المعمارية التي تم تنفيذها على استحياء في الكثير من ربوع مصر مما قام به شيخ المعماريين/ حسن بك فتحي رحمه الله, ومن تابَعَه في التأصيل العلمي لتلك العمارة المحلية مثل الرائد المعماري المعلم/ عصام صفي الدين.
ولا أنسى أهمية النظم واللوائح المنظمة للبناء, والتي يجب أن تكون محددا فارقا لتسكين وتمكين الأنماط المعمارية المصرية المحلية في تصميماتنا التي تعتمدها الأجهزة الحكومية.
ولنعمل جميعنا على إقامة إعلام معماري عن حضارتنا اليوم, وعن مستوانا الحضاري الذي لن نجد إعلاما عنه أفضل من عمائرنا التي نبنيها بأيادينا اليوم, والتي ستكون رسائل حضارية من أجيالنا الحالية تستمر على مر السنين.