تصرخ ولا يسمعها أحد، تبكي في حزنٍ شديد ولا ينتبه لحزنها منتبِه، وتستنجد بنا نحن المعماريين ولا تجد لنا جسارة،
فهي تقف شامخه لكنها جريحة تشوهها أيدي من يعبثون بها من غير المتخصصين، تنظر لما سبقها من العمائر والمباني العتيدة، والتي تمثل حضارة الحُقَب الزمنية المتعاقبة في العصور الماضية، لتجد نفسها خارج المنافسة وبعيدةً عن المقارنةِ بينها وبين تلك المنشآت في الآثار المصرية في الزمن البعيد.
إنها العمارة المصرية يا سادة، إنها الشاهد على العصر في أي عصر، وهي موسيقى المكان التي تعزف عبر الأزمان، يسمع جلال ألحانها مَن يتذوق الجمال، ومن يفهم أهمية هذا العزف المعماري الذي ستستمع إليه الأجيال عبر الزمان، لتحكم علينا من خلال الأبيَات المعمارية المنثورة في واجهات المباني وفي الإبداع الفني والجمالي، في المدن التي نبنيها اليوم لتكون شاهدةً علينا غدًا في كل يوم.
أسمع صرخات العمارة المصرية حين أنظر إلى الواقع العمراني والمعماري في شوارع مصر المحروسة، المتمثلة في المدن الجديدة، والتي تئن من الاشتراطات البنائية الجامدة، مما تُنتِج لنا عمائر القص واللصق في التصميم المعماري وفي الواجهات بحيث لا يستطيع المعماري الحالي الإبداع أو إنتاج الجمال في الفراغات الداخلية للمساكن أو في واجهاتها،
وفي الحقيقة حين أتكلم عن العمارة فأنا أقصد بها عمائر المساكن، لأنها العنصر الغالب بالنسبة الكاسحة من صناعة التشييد والبناء، من حيث الطلب ومن حيث الواقع في منظومة البناء، واؤمن كثيرًا بأن الاشتراطات البنائيه قد كبلت الفن المعماري وجعلته شيئًا لا ينتبه إليه أحد، وجعلت المعماريين يتسابقون في كيفية التماشي مع الاشتراطات البنائية الجامدة، والتي لا تؤمن بإبداع ولا تنتبه لجماليات، لدرجة أن تراخيص البناء لا يهمها إلا أن تكون النسبة البنائية سليمة، والارتدادات الجانبية صحيحة حسب اللوائح، وليس أن تكون المنشأه على مستوى جمالي يليق بمدينة جديدة من مدن هيئة المجتمعات الجديدة.
ودومًا كنت أتمنى -على سبيل المثال- أن يكون في أجهزة تنمية المدن الجديدة هيئة استشارية، لتوحيد المستوى الجمالي للواجهات التي يقوم بتصميمها الكثيرين من متواضعي الخبرة التصميمية، لتقوم هذه الجهة بترقية المستوى المعماري الوظيفي والجمالي المناسب للتعبير عن حضارتنا اليوم.
وأيضا، أن يكون من بين الاشتراطات، التكامل والتعاون بين مجموعة عمارات متتالية، تتشارك في مشروعات استخدام الطاقة الشمسية فوق هذه العمائر، لتمدها بالطاقة التي تتوفر في بلادنا بالشكل الذي يكون اقتصاديا، ونوفر الضغط على الشبكة الموحدة للطاقة الكهربائية.
إلى غير ذلك من الكثير من تلك الأفكار، التي تتماشى مع النهضة العمرانية الحالية في الجمهورية الجديدة، التي تعمل في كل جنبات الدولة لنهضة حضارية حقيقية، لتكتمل بإضافة اشتراطات تساعد على استدامة المنشأة والحفاظ على المستوى الحضاري بمصر بما نقوم بإنتاجه من عمائر ستظل قائمة لمئات السنين.
أتمنى أن نستمع جميعًا لتلك الصرخات المعمارية لعمارة اليوم، والتعاون كإدارات حكومية وكأفراد، للوصول سويًا إلى تقديم شاهدٌ على عصرنا، سيتكلم بإسمنا غدًا في الأزمان القادمة عبر مئات السنين.