وبعدَ مرورِ ما يقربُ من أربعينَ عامًا على عرضِ رحلتِك شعرت بحنين لإعادة المُشاهدة، فمَا كَان مني إلا أن جئتُ إليكَ باعتذارٍ من الصغيرة التي كنتُها، أعتذرُ عن امتعاضِي من مثاليتِك الشديدة، كذلك لم أحبَّ أن تقفَ على كلِّ التصرُّفات العرضية، وكنتُ أتساءلُ: ما المشكلةُ في المكانِ الذي يُغنِّي فيهِ "محسن"؟ لم أكنْ أعلمُ في حقيقةِ الأمرِ معنى "كباريه".
وكطفلةٍ ممتلئة بالحَيوية لم أدرك ما المشكلةُ في جنونِ عمرو وهالة، أو في أنانيةِ ابنةِ الناظر، وفي الكثيرِ من المشاهدِ التي لم أرها حينها سوى بعينِ الطفلة، ثم جاءَ هذا العالمُ وأهلُهُ، ذلكَ الذي أعيشُ فيهِ الآن، وأصبحتُ أنظرُ إليهِ من خلالِ نظّارتِك، يا عم أبو العلا اقتص لك من الصغيرة التطور والتغير ؛ أقفُ كل يومٍ تمامًا بذاتِ وقفتِكَ الواجمة في يومِك الأولِ بالمدينة، وأنتَ ترى انهيارَ المثلِ والخطواتِ الأولى في تهاوي سقفِ الإنسانية، وأُخبرُك أنَّهُ قد انهارَ الآن، والظلمُ وغيابُ الحياءِ، والقيم – بتفخيمِ القافِ من حلقٍ غَصَّ – لم يَبقَ منها سوى فتات.
في سورة العصر قالَ تعالى:
"وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)"
صدقَ اللهُ العظيم.
عرفتُ الآنَ لماذا لحَقَ اللهُ الصبرَ بالحقِّ والصالحات، لأنَّ مسيرةَ الحقِّ اليومَ شاقةٌ، وأمرُهُ عسيرٌ، ولا يتحقّقُ إلا بشقِّ الأنفُس، ويحتاجُ إلى قلوبٍ صابرةٍ منيرةٍ مُلهمةٍ، كي تمرَّ بأقلِّ الخسائر وهي تبحث عن طرق الصالحات...
السيدُ العزيزُ أبو العلا البشري،
أودُّ أن أركبَ قطارَ العودةِ إلى الماضي، أن أختبئَ خلفَ الخيرِ والمحبَّةِ والوُدِّ من الظلامِ الذي اتَّسعتْ خطوتُهُ بأرضي، ولا أعدُكَ بأنَّهُ لن يطالَني، ولا أعدُ نفسي بقوَّةِ صبري كي لا أفلتَ زمامَ الحق...
لكنِّي أحاولُ أن أفعلَ ما بوسعي، أُصلحُ نفسي، وأُهذِّبُها، أنا والقليلُ نحاولُ، يا عمي أبو العلا، نحاولُ...
كنْ بخيرٍ أينما كنتَ، فبالتأكيدِ أنتَ في مكانٍ أفضلَ من هُنا...
محبَّتي،
ابنتُكِ التي فهمَتْ الكثيرَ من المثلِ العُليا من عملٍ دراميٍّ، يهدمُها الآنَ – بذاتِ القوَّةِ – أعمالٌ أخرى أكثرُ دراميَّة و سخافة .