إنتهيت من تقديم عرضي أمام مجلس إدارة إحدى المؤسسات الدولية , فطلبوا مني أن أمنحهم دقائقا للتشاور ريثما أحتسي فنجانا من القهوة في غرفة الإنتظار , فجلست بين الشرود و القلق أفكر .. كيف أن بضع دقائق قد تحدد مصير إنسان .
أُدعى سالم .. و قد اتخذت حياتي منعطفا صعبا منذ بدايتها عندما وُلدت لأرملة محدودة التعليم و أربعة أشقاء ذوي فكرٍ محدود .. بالكاد كان أحدهم يتعلم و يتلعثم في الحديث قبل أن تجبره صعوبة مواجهة الحياة على ترك ما يفعل و الرحيل إلى حيث لا ندري .. أخبرتني أمي أنه قد التحق بعمالة في مكان ما .. ربما قد هاجر بعيدا .. أخبرها أنه يوما ما سيعود .. و لكنه لم يعد .
أما البقية فقد اكتفوا بقليل الدخل الذي يجلبه عملهم كعمال في مجال البناء .. و كانت أمي عظيمة القناعة و الرضا .. و لم يؤرق صفو هذه القناعة غير كونها قد أنجبتني .. الطفل الذكي الذي بدأ يزعجها بشأن كونه يريد الذهاب إلى المدرسة كالأطفال الذين يشاهدهم كل صباح .. يريد ذلك الزي و الأقلام و الأوراق .. يريد ما لا طاقة لها بتقديمه .
" لكي تتعلم يجب أن تعمل " كانت تلك صفقتها الوحيدة .. و كنت أكثر عنادا من أن أرفضها .. لذلك عملت في كل ما كان متاحا لي طول سنوات التعليم .. و إن انتابني شعور بالضعف يوما .. أرى إخوتي أمام ناظري .. لم أكن أريد أن ينتهي بي الحال مثلهم أبدا .
تخرجت من كلية التجارة لمعركة جديدة و من خلفي أمٌ هرمة و أخٌ مريض لا يعمل و يعول أسرته , و آخر سقط يوما ما في عمله من مرتفع فأصابه الشلل .. و لم يبق منهم من هو يعمل سوى أخٌ واحد قال لي يوما " وُلدنا هكذا .. ليس لدينا سوى القليل لنفعله في الدنيا ..و الدنيا لا تمنحنا إلا القليل .. أما أنت فقد خُلقت لقدر آخر .. فلا تجعلنا عقبة في طريقك فنحن سنتدبر أمرنا كما فعلنا دوما .. فقط إجعلنا فخورين بك .. و لا تجعلنا نأسى على أنفسنا لأننا لم نكن لك عونا كما ينبغي "
عندها عانقته بشدة و أخبرته أن أحدا منهم لم يقصر في شيء .. و أنني سأقوم بدوري مثلهم .. و كان علي أن أجد الطريق .
حاولت تأسيس عمل صغير في الصناعات اليدوية كالحلي و اللوحات الجبسية , و لكنني تعرضت للإحتيال و السرقة و من ناحية أخرى وجدت نفسي في منافسة غير عادلة بيني و بين مصانع صغيرة فأنهكني الأمر بلا جدوى . ثم قمت بشراكة أحد أصدقائي في تجارة صغيرة , رأس مالها صغير و يحتاج لكثير من الصبر و العمل ..و لكنه هدم كل شيء عندما قرر الإنسحاب و التخلي عن الأمر , فخسرت تلك المحاولة .
عملت في مجالات البيع و الشراء حتى امتلكت عربة للأطعمة السريعة و الشطائر ..و قد كان الأمر جيدا لفترة قبل أن أتعرض للضرب و تهشيم عربتي من قِبل بعض البلطجية , و قد خسرت تلك المعركة أيضا .
من آن لآخر كنت أعود بين صفوف العمالة اليومية لأعول نفسي و أهلي .. من آن لآخر كان يصيبني اليأس من كثرة الهزائم و كثرة المحاولات و كثرة الوظائف التي تقدمت لها دون جدوى .. و لكنني كنت أقرأ كثيرا عن الذين خاضوا معركة تلو أخرى حتى حققوا نصرا في نهاية الطريق .
ماتت أمي قبل أن أحقق شيئا , و قبل أن تفارق الحياة وضعت يدها على خدي و قالت " لا تدع شيئا يكسرك .. فأنت لم تُخلق للكسر " . فراقها كان طعنة أثرها لم يفارقني أبدا .. مثل كلماتها .
خلال سنوات من المحاولات المتتالية كنت أحب قراءة كتب في علم الإقتصاد , و كنت قد التحقت بوظيفة صغيرة بإحدى المؤسسات الدولية , كدخل ثابت قبل أن تبدأ بوادر لأزمة إقتصادية في البلاد .. و ذات يوم صادفت منشورا من الإدارة العليا يفتح الباب لمقترحات أو خطط أو دراسة لتقليل التكاليف أو زيادة الدخل للمؤسسة , سواء على المدى القريب أو البعيد .. و كانت فرصة تلوح في الأفق .
كان التحدي الذي أمامي هو كيفية تحقيق الإستفادة للجميع , فكانت دراستي تتلخص في أن تقوم المؤسسة بتوفير كل ما يتعلق بحياة العاملين من مأكل و مسكن و رعاية طبية و غيرها .. كل ما يضطر العامل للدفع مقابله .. عندما تقوم المؤسسة بتوفيره بقيمة أقل سيشعر العامل بالرضا و يتحقق الربح للمؤسسة بشكل مضمون و مستمر .. و هذا ما قدمته في عرضي بشكل مفصل .
بعد دقائق من الإنتظار قاموا باستدعائي .. نظر إليّ رئيس مجلس الإدارة و هو يقول " تفاصيل دراستك مثير للإهتمام .. كل ما تم تقديمه من قبل الآخرين كان يتلخص في الضغط على العاملين ..ربما اعتقد المتقدمون أنهم سيفوزوا بمقعد في الإدارة بهذه الصفة .. لكن إدارتنا تهتم بالإعتبارات الإنسانية كما تفعل أنت .. لذلك تم قبول دراستك و عليك أن تستعد لمنصبك الجديد.. لا تغرنك السعادة بهذه الكلمات .. فأنت على وشك تحمل مسئولية ضخمة "
قالها مبتسما .. و أنا لم أستطع إخفاء سعادتي .. لأنني أخيرا قد ربحت معركة .
** تمت **