في قصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، كانت الأجواء مشحونة بالقلق والخوف. القاهرة، التي كانت يومًا ما عاصمة للازدهار والعلم، أصبحت أشبه بمدينة أشباح. الشدة المستنصرية، تلك الأزمة التي عصفت بمصر لسبع سنوات، جعلت الناس يموتون جوعًا في الشوارع، والنيل الذي كان شريان الحياة تقلص حتى كاد أن يجف. الخليفة، الذي كان يومًا ما أقوى رجل في العالم الإسلامي، وجد نفسه عاجزًا أمام كارثة لم يستطع السيطرة عليها.
في أحد الأيام، بينما كان المستنصر جالسًا في قصره يتأخر في قراءة الرسائل التي تصف معاناة شعبه، دخل عليه وزيره الأفضل بن بدر الجمالي، الرجل القوي الذي كان يدير شؤون الدولة فعليًا. كان الأفضل يحمل في يده تقريرًا جديدًا عن حالة النيل، وكانت الأخبار أسوأ من أي وقت مضى.
"يا مولاي، النيل لم يعد يكفي حتى لشرب الناس، والمحاصيل تموت في الحقول. الناس يتحدثون عن ثورة، وعن أن الخليفة قد فقد بركته"، قال الأفضل بصوت هادئ لكنه يحمل تهديدًا خفيًا.
نظر المستنصر إلى وزيره بعيون مليئة باليأس وقال: "ماذا تريدني أن أفعل؟ لقد حاولت كل شيء. لقد بعثت بالرسائل إلى كل حاكم في العالم الإسلامي طالبًا المساعدة، ولكن لا أحد يستجيب."
ابتسم الأفضل وقال: "ربما حان الوقت لتغيير الاستراتيجية. الناس يحتاجون إلى أمل، حتى لو كان وهمًا. دعني أعلن أننا وجدنا حلًا سحريًا، وأن النيل سيعود إلى مجراه قريبًا."
رفض المستنصر الفكرة في البداية، لكنه كان يعلم أن وزيره قد يكون على حق. في اليوم التالي، أعلن الأفضل أن الخليفة قد تلقى وحيًا من السماء، وأن النيل سيعود إلى حياته إذا قدم الناس تضحية رمزية. تم جمع الناس في ساحة القصر، حيث أعلن الأفضل أن الخليفة سيقدم بعضًا من كنوزه الشخصية كتضحية.
لكن الأفضل كان يخطط لشيء آخر. في الليل، بينما كان الناس ينامون، أمر جنوده بفتح مخازن القمح التي كان قد خبأها منذ سنوات، ووزع جزءًا منها على الناس. في الصباح، استيقظ الناس ليجدوا أكياسًا من القمح أمام منازلهم، وبدأت الشائعات تنتشر بأن الخليفة قد حقق معجزة.
بعد أيام، بدأت الأمطار تهطل لأول مرة منذ سنوات، والنيل بدأ يمتلئ ببطء. الناس، الذين كانوا على وشك الثورة، بدأوا يسبحون بحمد الخليفة، معتقدين أنه قد أعاد البركة إلى مصر.
لكن المستنصر، الذي كان يعلم الحقيقة، شعر بالذنب. كان يعلم أن الأفضل قد خدع الناس، وأن الأمطار كانت مجرد صدفة.
في غرفته الخاصة، جلس الخليفة يتأمل ما حدث. لقد أدرك أن السياسة ليست دائمًا قائمة على الحقيقة، بل على الأمل، حتى لو كان مبنيًا على أكاذيب.
ومنذ ذلك اليوم، أصبح المستنصر أكثر اعتمادًا على وزيره الأفضل، الذي استخدم الذكاء السياسي والخداع لإنقاذ الدولة من الانهيار. لكن الخليفة كان يعلم أن الشدة المستنصرية لم تنتهِ بعد، وأن الأيام القادمة ستكون مليئة بالتحديات التي ستختبر حكمته وقوته.
بعد أن هطلت الأمطار وعاد النيل ليملأ مجراه شيئًا فشيئًا، بدأت الحياة في مصر تستعيد بعضًا من حيويتها. الناس، الذين كانوا على حافة اليأس، بدأوا يزرعون أرضهم من جديد، وانتشرت أخبار "معجزة الخليفة" في كل مكان. لكن وراء هذه الصورة الوردية، كانت هناك حقائق مريرة تختمر تحت السطح.
الأفضل بن بدر الجمالي، الوزير القوي الذي كان العقل المدبر وراء خطة إنقاذ مصر، لم يكن يفعل ذلك بدافع الإخلاص للخليفة أو للشعب. كان يرى في الأزمة فرصة لتعزيز سلطته ونفوذه. لقد استغل يأس الناس ليجعلهم يعتقدون أن الخليفة المستنصر بالله هو من أنقذهم، بينما في الحقيقة، كان هو من يتحكم في كل شيء من وراء الكواليس.
في القصر، كان المستنصر يشعر بثقل المسؤولية. لقد أدرك أن الأفضل قد خدع الشعب، لكنه لم يستطع أن يفعل شيئًا. الخليفة، الذي كان يومًا ما رمزًا للقوة والسلطة، أصبح الآن دمية في يد وزيره. في إحدى الليالي، بينما كان يجلس في حديقة القصر يتأمل النجوم، سمع صوت خطوات خفيفة. التفت ليرى إحدى جواري القصر المقربة إليه و التي كانت معروفة بحكمتها وذكائها.
"يا مولاي، لماذا تبدو حزينًا؟ ألم تعد مصر إلى الحياة؟" سألت بصوت هادئ.
نظر المستنصر إليها وقال: "الحياة تعود، لكن الحقيقة تموت. لقد خدعنا الناس، لقد جعلناهم يعتقدون أنني أنقذتهم، بينما أنا لم أفعل شيئًا."
ابتسمت وقالت: "الحقيقة مهمة، يا مولاي، لكن الأمل أهم. الناس يحتاجون إلى من يقودهم، حتى لو كان ذلك القائد يعتمد على الأوهام أحيانًا."
لكن المستنصر لم يكن مقتنعًا. لقد شعر بأنه فقد جزءًا من إنسانيته، وأنه أصبح أسيرًا لسياسة الأفضل. في اليوم التالي، قرر أن يتخذ خطوة جريئة. جمع كبار رجال الدولة وأعلن أنه سيتنازل عن جزء من سلطته لصالح مجلس شورى يمثل الشعب. كانت هذه الخطوة صادمة للجميع، خاصة للأفضل، الذي رأى في ذلك تهديدًا لنفوذه.
لكن الأفضل كان رجلًا ذكيًا. بدلًا من أن يعارض الخليفة علنًا، قرر أن يلعب لعبة جديدة. بدأ يتقرب إلى أعضاء المجلس الجديد، ويوزع الهدايا والوعود، حتى استطاع أن يجعل معظمهم تحت سيطرته. في الوقت نفسه، بدأ يشيع أن الخليفة قد أصبح ضعيفًا ولا يستحق الحكم.
بعد أشهر، بدأت التوترات تظهر في القصر. المستنصر، الذي كان يحاول أن يكون عادلاً، وجد نفسه محاصرًا من كل الجهات. حتى زوجته ست الملك، التي كانت دائمًا سنده القوي، بدأت تشك في قراراته. "لماذا تعطي السلطة لهؤلاء الناس؟" سألته في إحدى الليالي. "أنت الخليفة، وأنت من يجب أن يحكم."
لكن المستنصر كان يعلم أن الأمور لم تعد بسيطة. لقد أدرك أن الحكم ليس فقط عن السلطة، بل عن التوازن بين الحقائق والأوهام، بين العدل والمصلحة. في النهاية، قرر أن يتنازل عن العرش لابنه المستعلي بالله، الذي كان شابًا طموحًا لكنه يفتقر إلى الخبرة.
بعد تنازل المستنصر، أصبح الأفضل هو الحاكم الفعلي لمصر. لقد حقق ما كان يريده دائمًا: السلطة المطلقة. لكنه كان يعلم أن الشدة المستنصرية لم تكن مجرد أزمة طبيعية، بل كانت درسًا في السياسة والحكم. لقد تعلم أن القوة الحقيقية ليست في السيطرة على الأرض، بل في السيطرة على عقول الناس.
أما المستنصر، فقد اختفى من الحياة العامة. تقول الأساطير أنه قضى بقية أيامه في أحد الأديرة البعيدة، يتأمل الحياة ويعتذر عن أخطائه. لكن الحقيقة تبقى غامضة، مثل الكثير من الحقائق في تلك الفترة المضطربة من تاريخ مصر.