حكاية كل يوم
----
تتسلل خيوط الشمس الخجولة من بين شقوق أسقف البيوت العتيقة، لتُنير حارة مصرية قديمة، كأنها لوحة فنية رسمتها يد فنان ماهر. تُرصّف الحارة بأحجار باهتة لونها، تروي حكايات الزمن الماضي، وتخطّ خطوات أجيال تعاقبت عليها.
تتناثر البيوت على جانبي الحارة، كأنها تقف متراصةً لتُحمي أسرارها، نوافذها الخشبية العتيقة تطلّ برؤوسها الفضولية، تراقب المارة بحذر. أبوابها الحديدية الضخمة، مغلقة بإحكام، تحمل نقوشًا غامضة تُخبئ وراءها قصصًا وحكايات.
تُعانق رائحة الفول والطعمية أنفاس المارة، تخرج من دكان صغير في زاوية الحارة، يزدحم بالزبائن منذ الصباح الباكر. ينبعث من فرن الحارة عبق الخبز الطازج، يمتزج برائحة البهارات المتصاعدة من دكاكين العطارة.
يُسمع صوت الباعة يتردد في أرجاء الحارة، ينادون على بضائعهم بأصوات نغمية، يضفي على المكان جوًا من الحيوية والنشاط. أطفال الحارة يلعبون في ممراتها الضيقة، ضحكاتهم تُملأ المكان بهجةً وسعادة.
يجلس كبار السن على المقاعد الخشبية أمام بيوتهم، يتبادلون أطراف الحديث، يسردون حكايات الماضي، ويتناقشون في شؤون الحاضر.
تُطلّ منارة المسجد شامخةً في أعلى الحارة، تُنادى المؤمنين للصلاة، صوتها يصدح في أرجاء المكان، يُضفي عليه هالةً من الروحانية والسكينة.
تُعلّق الملابس المُلوّنة على حبالٍ مُمتدة بين البيوت، كأنها أعلامٌ تُلوّح بألوانٍ زاهية، تُضفي على الحارة رونقاً خاصاً.
الحياة تبدأ منذ الفجر، حيث يخرج "عم حسان" بائع الفول، حاملًا صينية نحاسية ثقيلة، ينادي بصوت جهوري "يا فول يا طعمية يا فلافل". يتجمع حوله الزبائن، كبار وصغار، يتناولون إفطارهم الصباحي بلهفة، يتبادلون أطراف الحديث والضحكات، وتُنسج خيوط الروابط بينهم.
في أحد البيوت، تُعد "أم أحمد" وجبة الإفطار لعائلتها، رائحة الخبز المُحمص تملأ المكان. تُخرج أبناءها إلى المدرسة، وتُكلف ابنتها "فاطمة" بمساعدة "أم خديجة" الجارة المريضة.
فى الضحى، تُصبح الحارة مسرحًا للحياة اليومية، حركة دؤوبة لا تهدأ. يعمل الرجال في مهنهم المختلفة، من صناع وحرفيين وباعة متجولين، بينما تنشغل النساء بأعمال المنزل ورعاية الأطفال.
يلعب الأطفال في الشارع، أصواتهم تملأ المكان مرحًا، يركضون ويلهون، ينسون هموم الدنيا. تجلس "أم علي" على عتبة منزلها، تُراقب أحفادها بابتسامة، تُروي لهم حكايات الماضي، وتُغني لهم أغاني الطفولة.
ثم ترتفع الشمس في السماء، وتشتد حرارة الشمس. يهدأ ضجيج الحارة قليلاً، يبحث الناس عن الظل والراحة. يجتمع بعض الرجال في المقهى، يتناولون الشاي ويتناقشون في شئون الحياة.
في أحد البيوت، تجلس "أمينة" مع صديقاتها، يُشربن القهوة ويتبادلن الأحاديث عن الأخبار والأحداث. تُشارك "أمينة" صديقاتها همومها وآمالها، وتُقدم لهن النصائح والدعم.
مع غروب الشمس، تعود الحركة إلى الحارة من جديد. يُضيء ضوء القمر على الأزقة، ويُضفي عليها سحرًا خاصًا. يخرج "عم محمد" بائع الكتب، ينادي بصوت هادئ "كتب.. مجلات.. قصص". يتجمع حوله الشباب، يبحثون عن القراءة والتعلم.
في أحد البيوت، تجتمع العائلة لتناول العشاء. تُحضر "أم فاطمة" طعامها المفضل للجميع، وتُجلس معهم على مائدة واحدة، تتبادل معهم أطراف الحديث وتُشاركهم لحظات الفرح.
مع حلول الليل، تُصبح الحارة هادئة، وتُخيم الظلمة على الأزقة. يُضيء بعض المنازل بضوء خافت، ويُسمع صوت التلفاز من بعض البيوت.
يجلس "أبو أحمد" على سطح منزله، ينظر إلى السماء ويسرح بخياله. يتذكر ذكريات الماضي، ويُفكر في مستقبل أبنائه. يُصلي "أبو أحمد" لله، يدعو له بالصحة والستر، ويُمني النفس بيوم أفضل.
تُطلّ قطط الليل من زاويةٍ مظلمة، تُراقب الحركة بعيونٍ صفراءٍ لامعة، تُضيف لمسةً من الغموض والسحر على أجواء الحارة.
تُغلق أبواب الحارة مع حلول الظلام، وتُطفأ الأنوار، لتُصبح الحارة غارقةً في صمتٍ عميق، لا تُكسرُهُ سوى نباح الكلاب أو صوت عابرٍ مُتأخر.
تُصبح الحارة كأنها جسدٌ نائمٌ هادئٌ، يحلم بأيامٍ خلت، ويُنتظر بزوغ فجرٍ جديدٍ يُحمل معه حكاياتٍ جديدة.