رحلتُ عبرَ دروبِ الزمنِ، أبحثُ عنْ بقايا تلكَ الصداقاتِ القديمةِ، التي كانتْ كأنها نجومٌ تُزيّنُ سماءَ حياتي.
لكنْ معَ مرورِ الأيامِ، وتَغيّرِ الأحوالِ، ابتعدتْ تلكَ النجومُ، وخَفتَ بريقُها، حتى لمْ يبقَ منها سوى ذكرياتٍ باهتةٍ، وآثارٍ على قلبٍ جريح.
تذكّرتُ تلكَ الأيامَ الجميلةَ التي قضيناها معًا، نلعبُ ونضحكُ ونشاركُ بعضنا البعضِ أسرارَنا وأحلامَنا.
لكنْ معَ تقدّمِنا في السنّ، تغيرتْ اهتماماتُنا، وانشغلَ كلٌّ منّا بِحياتهِ الخاصةِ.
تُبحر سفينة الصداقة في بحر الحياة، تَحمل على متنها أحلامًا ومغامرات، يَرسمها رُبانها بِمَاءِ الودّ والحبّ. يَتَعاونُ رُكابُها على دُفّةِ الألفةِ والوفاء، مُبْحِرِينَ في عَبَقِ الذكرياتِ الجميلة.
ولكن، كما تُعَاكِسُ الأمواجُ سفنَ البحارِ أحيانًا، قد تُعَاكِسُ الظروفُ سفينةَ الصداقةِ، فَتُفْرِقُ بينَ رُكابِها، وتُبْعِدُهم عنْ بعضِهم البعض.
يَتَغَيّرُ الزمنُ، وتَتَغَيّرُ الأحوالُ، وتَتَباعدُ المسافاتُ، وتَضعُفُ خيوطُ التواصلِ، فَتَفْتُرُ عُرَى الصداقةِ، وتَذْبُلُ أزهارُها.
يَتَحوّلُ رُكابُ سفينةِ الصداقةِ إلى غرباءٍ، لا يَتَلاقَونَ إلّا عَرَضًا، وربما يَتَناسَوْنَ بعضَهم البعضِ مع مرورِ الوقتِ.
يَحْزَنُ القلبُ على ذكرياتِ الماضي الجميلِ، ويَتَمنّى لو عادتْ سفينةُ الصداقةِ إلى مَرْسَاها القديمِ، لِتَجْتَمِعَ عائلةُ الأصدقاءِ من جديدٍ.
ولكن، كما قال الشاعرُ:
"وَلاَ يَجْمَعُ الناسَ إلّا المَصَائبُ"
فَكَثِيرًا ما تُعيدُ الأحداثُ الصعبةُ رُكابَ سفينةِ الصداقةِ إلى بعضِهم البعضِ، لِيُتَآزَرُوا ويَتَدَاعَمُوا، ويُثْبِتُوا أنّ عُرَى الصداقةِ الحقيقيةِ لا تَقوى عليها قسوةُ الزمنِ.
وَلْنَتَذَكّرْ دائمًا أنّ الصداقةَ كالنبتةِ، تَحتاجُ إلى الرعايةِ والسقيِ لِتَبْقَى حَيّةً ونضِرَةً.
ستظلّ تلكَ الصداقاتُ جزءًا منْ تاريخي، وجزءًا منْ الشخصِ الذي أنا عليهِ اليوم.