عندما طال صمت عمر ولم يجب على رسالتها، أرسلت له أخرى تسأله عن رأيه وصوتها يشوبه الكثير من القلق والتوتر..
سألها: لماذا أنا ؟
- أنت الوحيد الذى أرسلت طلبا للصداقة لها منذ مقتلها .
ندم عمر وهز رأسه أسفا على ما فعله..
- لماذا تخبريني بكل هذا الآن ؟ لماذا لم تخبري أحدا قبل ذلك ؟ لماذا لا تقومى أنت بهذه المهمة ؟
- لا أستطيع.
- لماذا؟
- لدى أسبابي.
- قومى بالمهمة إذن الآن ، أنت أختها ومن واجبك أن تنفذى ما طلبتيه منى.
صمتت قليلا ، ثم أرسلت له رسالة تحمل صوتا حزينا باكيا : شكرا يا عمر .فعلا لن أحملك مالا تستطيع .آسفة.
من نقاط ضعف عمر هو الصوت الأنثوى الحزين ، وبكاء الأنثى أمامه ، حتى أنه تمنى فى تلك اللحظة أن يحتويها و يربت على كتفها ويخبرها أنه لن يتخلى عنها ..
تنهد وقال فى حزم:
- سأفعل ما تريدين. أمري لله .
أتته رسالة تحمل طنا من الفرح والسرور:
- شكرا لك يا عمر ..لن أنسى هذا أبدا.
لم يدر عمر هل بالفعل ما سيرتكبه نوعا من الشجاعة ..أم من الحماقة؟
------------
دقات الشرطة تُعرف دون أن تسأل من الطارق ..
لها دقات مميزة ، وقوية..
ولهذا عندما فتحت والدة (نور) باب البيت لم تكن متفاجئة من الموقف ..
كان عمر ومعه ضابط شرطة وعدد قليل من عساكر القسم ..
قطع عمر مسافة هائلة من بيته حتى قلب الصعيد كما طلبت منه سلمى أخت نور .
البيت عبارة عن دورين ثم السطح وحوله مساحة هائلة من الأراضى الزراعية ، بدأ وكأنه منفردا ، بعيدا عن أعين المتطفلين..
نظرت الوالدة لضابط الشرطة وكانت تعرفه شخصيا منذ مقتل ابنتها ..
ثم لفت انتباهها عمر ذلك الذى يرتدي ملابس مدنية ونظارة طبية ، ولكنها لم تهتم بهويته.
هتفت فى لهفة:
- هل عرفت القاتل يا سعادة البيه؟
قال فى حزم:
- تقريبا يا حاجة.
عقدت حاجبيها:
- تقريبا!!!
اقترب منهم رجلا ضخما يرتدي جلبابا ، له شارب كث وهو يقول فى قوة:
- اتفضل يا حازم بيه .
استنتج عمر أنه والد نور ، فاستجمع شجاعته وهو يقول:
- السلام عليك يا حاج .
نظر له فى ضيق وهو يتأمله :
- من أنت ؟
دخل الضابط البيت ومعه العساكر ،وبقى عمر على عتبة الباب لا يقوى على شىء، ينظر لقطة سمينة جميلة تجلس على أريكة تحمل طابعا صعيديا، تحدق فيهم بتوتر وكأن وجودهم أزعجها.
الضابط : يا حاج .لدينا بلاغ لفتح التحقيق مرة أخرى فى مصرع ابنتك.
ترقرق الدمع فى عين والدها وقال فى لهجة شابها الحزن والألم:
- من الذى قدم البلاغ؟
أشار الضابط إلى عمر وقال:
- هناك معلومات جديدة أدلى بها هذا الشاب ونريد التأكد منها .
والد نور: ومن هذا الشاب؟ وماهو المعلومات ؟ وكيف عرفها ؟
الضابط فى قوة: أنا الذى أسأل يا حاج وليس أنت ، مهمتنا هى التأكد من المعلومة وإذا اتضح لنا أنه كاذب سيحاسب بتهمة إزعاج السلطات.
ارتجف عمر وانزعج وهو يقول متوترا:
- أنا ..أنا أريد المساعدة ..و..
قاطعه الضابط :
- يا أبا نور .. هل عندك شجرة فى أرضك لا تطرح ثمارا؟
نظر أبو نور إلى زوجته فى دهشة وتمتم: كيف عرفت؟
الضابط : أريدك أن تدلنا عليها الآن.واحضر فأسا معك .
خرج الجميع من البيت ومعهم والدتها وهى تتمتم آيات قرآنية بصوت خافت..
كانت الشمس تلتهب فوقهم، والعرق يغمر أجسادهم تماما ، وازداد شعور عمر بالحنق والمرارة ..ولعن طلب الصداقة وأقسم أنه سيغلق حسابه تماما.
سار الجميع داخل الأرض الزراعية يتبعهم عمر وهو يسمع دقات قلبه الذى كاد أن يخرج من صدره، ويسقط أرضا..
وصلوا إلى شجرة لا تحمل ثمارا، فتوقف والد نور وأشار إليها.
أشار الضابط إلى أحد العساكر ، فالتف حولها وحفر تحتها بالفأس ، مرت دقيقتان حتى ظهرت آلة حادة ، كانت سكينا ملوثا بالدماء.
صرخت أم نور فى جزع ، وهتف والدها فى قلق:
- ما هذا؟
هنا، هتف الضابط فى حزم:
- ابنك ( فؤاد )فى المدرسة يا حاج ، ولا فى مكان آخر .
خبطت الأم على صدرها، ونظر الأب للجميع وهو ينقل بصره هنا وهناك ويقول:
- ابنى ! ما علاقة ابنى بهذا؟
قال الضابط فى ضيق:
- لم أريد أن أخبرك يا حاج إلا بعد التأكد من وجود أداة الجريمة ..ولم يبقى سوى تحليل البصمات .
صمت لحظة ثم قال كمن يلقى قنبلة:
- ابنك هو القاتل يا حاج.
تراجع الأب فى ألم ، وصرخت الأم فى قوة وهى تلطم وجهها..
كاد الضابط أن يتحدث ولكنه سمع صوت أحد العساكر وهو يهتف:
- هناك ..فؤاد هناك .
نظر الجميع إلى حيث يشير..
كان فؤاد عائدا من مدرسته الثانوية ، وكان هذا طريق العودة إلى داره .تسمر فى مكانه عندما لمحهم عند الشجرة ..
أدرك كل شىء عندما نظر إلى والده المنهار، وأمه التى تلطم دون توقف ..
رأى السكين يحتويه كيس بلاستيك يحمله أحد العساكر..
هنا ..جرى عكس الاتجاه فى قوة هربا منهم ، فجرى العساكر نحوه حتى أحاطوا به وهو يبكى ويصرخ فى قوة.
ثم هدأ تماما ، وجلس على الأرض فى استسلام تام..
-------------
كان فؤاد طالبًا في أوائل المرحلة الثانوية، يُعرف بذكائه وحسن أخلاقه. لكنه عانى من سخرية زملائه بسبب علاقة أخته نور بهاشم، الشاب الذى بين عائلته ثأرا دائما ..
انتشر خبر ارتباط نور بهاشم بين طلاب المدرسة، فبدأوا بالسخرية من فؤاد، مُلقين عليه نكات مُسيئة، ولقبه البعض بـ "أخو العروسة". حاول فؤاد تجاهل السخرية، لكنّ الأمر ازداد سوءًا، حتى وصل إلى حدّ التهديد والعنف.
كان حب نور وبهاشم حقيقيًا عميقًا، لم يمنعهم فرق القرية أو سخرية البعض. سعيا جاهدين لإثبات حبهما، وخططا للزواج بأية طريقة.
في أحد الأيام، عاد فؤاد من المدرسة متعبًا، ليجد نور تقف مع هاشم على ضفاف ترعة بعيدة عن أعين الجميع، تبكى وتخبره بأن علاقتهم مهددة، فثار غضبه ثورة هائلة، فجرى مسرعا لداره ، و استل سكينا من المطبخ دون أن يراه أحد ، حيث كان والده فى أرضه وأمه تصلى صلاة العصر.
عاد مسرعا إلى إليهما ، فوجدها بمفردها، صرخ فيها ، ذهلت من أسلوبه العنيف ومن السكين الذى يحمله، كانت تعتبره الطفل البريء ، ابنها الصغير المدلل.
صرخت فيه ونهرته ودفعته، فأشاح بالسكين فى وجهها ..
سكن المشهد تماما عندما شعر بسخونة الدماء على وجهه..
لم تصدق نور أن تلك هى لحظتها الأخيرة وهى تكتم الدماء المتفجرة من رقبتها..
سقطت على الأرض وهى تنظر له فى عتاب وذهول ، وهو كالمسحور لا يتحرك..
هرول مسرعا ، متجها إلى والده ولكنه وقف وبدأ يستوعب الأمر ، ويدرك أن حياته انتهت ..
استوعب فجأة أن السكين مازال فى يده ، فلمح الشجرة العقيمة فى أرض والده فحفر تحتها ودفن السكين، ثم اتجه إلى الساقية وغسل وجهه ،وأزال آثار الاعتداء ..
اتجه إلى بيته ، ومثل دوره ببراعة، بل وبحث معهم عنها وبكى فى حرقة عندما عثروها عليها..
غرق فؤاد في بحر من الحزن والندم. فقد أخته ، وتحطمت أحلامه. عاش فؤاد عامًا كامًلا حزينًا، مُلاحقًا بذكريات الجريمة.
---------------
انهارت أم نور تماما وهى ترى ابنها وقد ارتمى فى سيارة الشرطة ، وهرول والده وراء السيارة نحو القسم .
لم يبقى سوى والدتها التى جلست على الأرض تخبط بيديها فوق رأسها..
اقترب منها عمر وهو يقول:
- لا أدرى ماذا أقول لك؟ هل أقدم التعازي لنور؟ أم أهون عليك ما حدث لفؤاد؟
رفعت رأسها نحوه قائلة:
- من أنت؟ كيف عرفت كل هذا؟ بسببك فقدت نور وأخوها، لم يتبق لى شىء.
قال عمر فى هدوء:
- البركة فى سلمى أخت نور.
نظرت إليه فى تعجب:
- سلمى! من سلمى؟
بدأ عمر يشعر بالتوتر وهو يقول:
- سلمى ابنتك .
هزت رأسها :
- ليس لى ابنة سوى نور فقط .
صمت عمر تماما ، دهشة عارمة اجتاحته وهو يتمتم :
- إذن من هى التى......
ثم اتسعت عيناه وهو يتذكر القطة التى رآها فى الدار..
قطة لونها أسود ، بها خصلة بنية فاتحة، عيناها زرقاء عميقة..هل ذكرته بشىء؟