أشباهنا
(كان ياما كان المنطق ملوش مكان)
(هارون)
"القصص أحداثها غير منطقية على الإطلاق وربما لها روابط بالواقع"
بسم الله الرحمن الرحيم
مين دول؟ مين العيال دي، أنا معرفهمش!
يمكن شفتهم طشاش كده من سنين، لكن معنديش صلة بيهم...
ليه إبني قرر يسيبهم ليا النهارده؟ دول ولاده، المفروض، المفروض يعني أحفادي، لكنه مقاطعني من زمن، ولا فكر يطل عليا ولا يرفع حتى سماعة التليفون يتطمن عايشة ولا ميتة، وبصراحة أنا اتعودت على الوحدة، على السكون والعزلة، أو عشان مبقاش كدابة، على الصحبة الهادية المريحة....
كنت بدأت اتعايش وأرتاح مع كوني منسية من ابني وعياله، إني مش مرئية، مش شايفنني ولا حاسين بوجودي، إحساس منعش، إحساس بالحرية! مفيش ضغوط، مفيش ألم، مفيش توقعات، ولا التزامات ولا خيبة أمل، مفيش غير صاحب واحد، ونيس محدش يعرف بوجوده غيري....
جرس الباب رن، اتأخرت دقيقة كالعادة عبال ما فتحت، لقيته واقف وراه، ابتسمتله، اه، ابتسمت كإني بستقبل جار تربطني بيه علاقة سطحية ولا زميل شغل ولا شخص اتعودت أشوفه في الشارع وأرمي عليه السلام، لا عتاب ولا زعل ولا عشم، كان حاطط إيده على أكتاف عيل منهم والباقي لازقين فيه....
-إزيك يا ماما
أهلًا يا روح أمك! ده اللي قلته في نفسي، حركت راسي فوق وتحت بحييه بمنتهى البرود...
لما مردتش كمل وقال:
-أنا مضطر أسيب الولاد عندك شوية، تسمحي؟
فتحت الباب عالآخر والولاد دخلوا!
لسه كان بيشكرني وبيكمل كلام لما قفلت الباب في وشه..
هعمل إيه بأربع عيال، دول أربعة، الكبير فيهم عنده 11 سنة، آخر مرة شلت مسؤولية عيل كانت من أكتر من عشرين سنة، اللي هو إبني الأصيل يعني، دول هعمل فيهم إيه؟؟
قلت في بالي إن شاء الله يرجع كمان ساعة ولا حاجة، يكون مشوار بسيط، أكيد مشوار بسيط، يارب يكون مشوار بسيط!
-هو إحنا ليه مش بنشوفك يا تيتا؟
بدأنا! يعني أنا لسه كنت بحاول أهدي من نفسي لما عبد الخالق رمى عليا القنبلة دي...
=فاكر وانت صغير يا عبد الخالق؟
-فاكر ايه يا تيتة؟
=فاكر لما كانت العربية بتتحرك وأنت فيها كنت انت بتسرح ف ايه؟ فاكر السحاب؟
- عرفتي ازاي؟
=عشان كلنا كنا بنسرح في السحاب واحنا صغيرين.
سكون...الأربعة سكتوا بعد ما كانوا مشغولين في الصريخ والخناق وشقاوة العيال....
أنا كمان حسيت بسلام غريب بعد بركان التوتر اللي كان وشك يتسبب في انفجار، لقيت "لغة" مشتركة ما بيني وبين الأطفال، وكلهم استجابوا ليها مرة واحدة...
كملت كلامي ليهم:
=باباك كمان كان بيسرح في السحاب، وقتها مكنش انشغل في الدنيا وعرف الحاجات اللي ممكن تغريه وتبعده وتنسيه..
-تنسيه ايه؟
=الكون الأوسع، الدنيا الأكبر من دنيتنا، أن في سحاب شايلاه سما والسما شايلها كوكب إسمه الأرض والأرض شايلاها مجرة والمجرة كانت دخان ف سحابة والسحابة مجاوراها سحابة اتفتت وبقت صخور ولهيب عمل نجوم وشمس وكواكب وأرض شايله سما والسما شايلة سحاب والسحاب بيطل على كائنات بتبصله وتسرح فيه قبل ما تكبر وتنساه....
نظرات الفضول اتحولت لإعجاب، وقتها أدركت، أنا خلاص سيطرت عليهم تمااامًا، وعرفت هتعامل معاهم إزاي الوقت اللي هيقضوه معايا....
قلتلهم بعدها:
=لو سمعتوا الكلام، لو اكلتوا الأكل اللي هقدمهولكم، ومعملتوش دوشة، أوعدكم هشغلكم التليفزيون شوية وهنقرا شوية وهنحكي شوية، هحكيلكم حكاوي مش هتسمعوها في أي حته تانية ولا حكاوي شبهها حتى...
****************
تفوت ساعة وراها ساعة وفي ديلهم ساعة و"طارق" ميظهرش، أكلمه؟ أنا مش معايا رقمه، يادي الوقعة، هي العيال دي هتقعد عندي قد إيه، رجعت كده بالزمن كام ساعة لورا، لما كان واقف عالباب، إيديه كانت عرقانة، عنيه زايغة، هي إيه العبارة بالظبط، هو عارف إنه هيسيبهم وقت عندي؟ مخدتش رقمه ليه؟؟
النهار انسحب وحل محله الليل، العيال نعسوا، لمتهم ورصصتهم جنبي عالسرير، مكنتش عارفة ابدأ من فين....
بس اللي اتكلمت كانت "راحيل":
-حضرتك قلتي أن بابا لما كبر وانشغل عن السحاب بالحاجات التانية بعد عنك؟
=لأ انا مقلتش كده انتي استنتجتي ده، وده فعلًا اللي حصل! لما كبر واشتغل وربنا كرمه واتجوز نسي أن الدنيا أكبر منه ومن أطماعه ومن حدوده، نسي السحاب والكواكب والناس وحتى أمه! بس دي غلطتي انا، كان لازم أعلمه أن الإنسان مينفعش يبقى أناني، وإن فيه حاجات أكبر مننا، وأنه لو خسر أمه وخسر خياله وبراءته وتعاطفه يبقى فاضي من جوه، خفيف، زي الكواكب الكبيرة اللي ملهاش كتلة، ملهاش وزن يعني، كبيرة عالفاضي.. هو كان إبني الوحيد، ركزت أني اهتم بيه فنسيت أخليه يهتم! الغلطة مش غلطة باباكي، المفروض مزعلش منه أصلًا، الغلطة غلطتي انا....
عيني اتملت دموع، صوتي اترعش، بس اتمالكت نفسي عشان منهارش قدامهم، في الأول وفي الآخر دول شوية عيال، ولوحدهم معايا، مش عايزاهم يخافوا أو يقلقوا...
-هتحكيلنا ايه تيته؟
"جومانا" سألت...
=هحكيلكم قصص عجيبة، تفاصيلها وأحداثها عندي أنا بس... ومحدش يستغرب عشان مفيش فيها منطق ولا حاجة عادية، "كان ياما كان المنطق ملوش مكان....".
كان في راجل تم الخمسة وتلاتين وفجأة وخلال الاحتفال المهيب بيه، وفي وسط أجواء الفرحة والبهرجة المبالغ فيها حس بفجوة جواه، وجع جوه صدره، كإن جواه فاضي، الهوا بيعدي ويخبط فيه ويجرحه، عارفين إيه الإحساس ده؟ إسمه الوحدة، الإحساس بالوحدة، كإنه لوحده في العالم كله، مفيش غيره، محدش هيسمعه ولا هيفهمه، زي جده آدم كده يوم ما اتعاقب ونزل على الأرض ولقى نفسه في الكون لوحده، الفراغ مش عايز يتملي لا بالأصوات العالية ولا الزحمة ولا الموسيقى والمغنيين اللي جاينله من أبعد أماكن عشانه مخصوص ولا الحاجات الغالية ولا حاجة، شفايفه بعد ما كانت مفتوحة على الآخر وابتسامته واسعة، قفلت وحدة وحدة لحد ما ضمت على بعض... كلم نفسه "ليه فجأة حاسس بالفراغ ده؟ فراغ كبير لدرجة إن الناس ممكن تعدي من خلالي وتخترقني؟ أنا لسه عايش؟ والهوا البارد ده إيه مصدره؟"
وبعدين افتكر حاجة، "هارون" بقاله شهور معملش رحلة صيد، يمكن هو ده، زهقان؟ مشتاق يقتل كام طير على كام غزال؟ أصل دي كانت متعة عنده، إحساس رهيب بالسيطرة، لما يرفع بندقيته وينشن على طير أو حيوان ماشي على رجليه وبتكة منه يوقعه، ينقله من حال لحال، يقرب منه ويتأمل الذهول اللي في عينيه وهو بيحاول يستوعب اللي حصل له، ده طبعًا غير العذاب اللي بيبقى فيه والحياة وهي بتطفي جواه، هو ده داء "هارون"، الرغبة الرهيبة في التحكم في كل حاجة حواليه، في شركته اللي بتورد أجهزة طبية لجهات كتير حوالين العالم أو إمبراطوريته وخلته من أغنى أغنياء العالم، في أصحابه أو نقول صحبته والحاشية لإن اللي زي ده ملوش صحاب، كلهم مجرد أدوات في نظره، أدوات لمتعته ورغباته المريضة، في الموظفين اللي عنده في المؤسسة، واللي كان بيسومهم سوء العذاب وبيطفحهم الدم بالفلوس اللي كان بيرميهالهم كل شهر، أصل "هارون" كان بيزهق، لازم كل شوية يبتكر حاجة يكسر بيها ملله، عطشان مش بيتروي، عمره ما يتروي، كان بيحب يصمم لعب، لعب نفسية وذهنية، بيتعمد يعطل أشغال الموظفين، يكون الواحد فيهم عنده مهمة محددة المفروض يخلصها في وقت معين و"هارون" يرمي عليه أي مهمة تانية ملهاش لازمة ويجبره يعملها وهو عارف إنه مش هيقدر يوفق ما بينها وبين مهمته الأساسية اللي هي حيوية برضه للمؤسسة، بيعمل ما يشبه متاهة الفيران، الواحد فيهم يتوه في مساراته وميخلصش اللي عليه و"هارون" يهينه قدام أمة لا إله إلا الله قبل ما يرفده، وأوقات ينشر إشاعات ما بين الموظفين إن واحد من ضمن ليستة معينة هيترفد، ما بين مثلًا 10 أفراد، هيرفد واحد ويسيب 9، اللي هو الأقل مستوى والأقل إرضاء ليه هو شخصيًا، ويخليهم ينهشوا في بعض، كإنها حلبة مقاتلين في روما القديمة، العبيد فيها بيسعوا يخلصوا على بعض، وفي الآخر بيمشيهم كلهم!
ده غير إنه...كان بيوقعهم قاصد في مصايب، يسلط عليهم ناس يخلوهم يمشوا في سكك مش تمام ويسجلهم وهم بيعملوا حاجات غير أخلاقية ويخليهم عبيد ليه بالتسجيلات دي، ينفذوا كل اللي عايزهم ينفذوه ، وماتشات المصارعة اللي بيمولها ويراهن على واحد من المتصارعين هو والجمهور اللي بيجيبهم، لكن الماتشات دي كانت مختلفة، الواحد عشان يكسب لازم يخلص على التاني، واحد منهم مش بيخرج حي من حلبة المصارعة!
لكن كل ده، كل ده بقى قديم وملوش طعم، كان هيموت من الزهق، عايز يجدد...
عايز تجربة تملى الفراغ اللي جواه، تروي شغفه وتخليه يحس بنشوة جديدة...
هو مفيش غيره، "الصيد"، لكنه هيكون صيد مختلف شوية...
قرر إنه هيروح تنزانيا، بلده المفضلة لصيد حيوانات الغابة، هناك كان عنده بيت صغير قرب غابة مليانة أسود وغزلان، اتحدى نفسه، رحلة الصيد دي كان لازم تكون مختلفة عن أي رحلة قبل كده، ولما هارون كان بيتحدى نفسه هارون كان بيكسب...
ركب طيارته الخاصة مع المساعدين بتوعه والخدامين والمهرجين اللي بيسلوه، وانطلقت الطيارة....
بعد ما وصلوا "هارون" طلب منهم حاجة غريبة جدًا، طلب إن محدش ييجي معاه البيت! كان عايز يكون لوحده المرة دي، تمامًا، لا عايز الطباخ ولا الخدامين ولا المهرجين ولا عامل البار ولا الستات اللي بيسلوه، مش عايز حد، قال للطيار يرجعله بعد إسبوع بالظبط ونبه عليهم إن محدش هيعرف يوصل له لإنه هيقفل تليفونه وكل وسايل التواصل وهو من ضمن التسلية مقالش ليهم من البداية، سابهم يركبوا معاه الطيارة وكلهم تحمس إنهم هيقضوا معاه رحلة الصيد عشان يرجعهم تاني بنفس الطيارة...
وصل بيته ونام لساعات ولما صحي قرر يروح للغابة علطول، ميستناش تاني يوم...
الشمس كانت اتكسرت وفاضل ساعات قليلة على الضلمة، لكن "هارون" مكنش بيخاف من الضلمة يمكن الضلمة تخاف منه...
دخل الغابة بخطوات ثابتة، واثقة وعيون مفتحة على الآخر، حادة، زي عيون الصقر، فضل يمشي، يمشي لحد ما لمح غزالة، راح عندها لكنها جريت بأقصى سرعة، بعدها بشوية شاف غزالة تانية، مشي ناحيتها ببطء لكنها حست بيه واختفت، بعدها بشوية كمان شاف غزالة غيرهم، حاول يقرب منها لكنها هربت، وهكذا كل ما يشوف غزالة يحاول يتقرب منها وكلهم كانوا بيهربوا، لحد ما عينه وقعت على غزالة معينة، هي كمان كانت خايفة زي باقي الغزلان، هي كمان استعدت تهرب، وده لإنها ميزت من أول نظرة إنه شايل شر في عنيه وخطر رهيب لكنها متحركتش! في حاجة ثبتتها وخلتها تعجز عن الحركة، يمكن قلة الحيلة، شلل الحواس من كم الهلع اللي صابها، يمكن الفضول، أو..النظرة اللي في عنيه، الإصرار ، القوة والحضور، القوة اللي تقدر تسيطر على المحيط حواليه من غير ما يتكلم، مقدرتش تقاومها...قرب منها، قرب أكتر وأكتر لحد ما مبقاش فيه فاصل ما بين عيونه وعيونها غير خطوة واحدة...
قال لها بصوت رخيم:
=الأسد هيهجم عليكم بكره لما الشمس تبقى في نص السما وأنا عندي الخلاص ليكم...
الغزالة ردت:
-وليه بشر يبقى عايز يخلصنا من شر الأسد؟
.................
جميلة للغاية ... في انتظار الجزء الثاني بشوق ...