تخيَّلْ معي ما وصلنا إليه من تقدُّم كبير في جميع المجالات، والعالَم من حولنا يتغير ويتحرك أمام عينيك على شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكن في المقابل تُسرق نفْسُك منك دون أن تشعر. وصلنا إلى مرحلة لا نستطيع فيها العيش دون الإنترنت، فإذا توقف تطبيق من التطبيقات وقفت الحياة بالنسبة إلينا، نعيش معها أكثر من العيش في واقعنا ومتطلباتنا.. لماذا؟ لأننا اعتدنا مسك الهاتف كل يوم، وتصفُّح ما فيه.. فهذه مباراة كرة قدم تأخذ من دمنا وأعصابنا للفريق الذي نشجعه، وفي النهاية يفوز الفريق المنافس الذي لا تشجعه، وأنت لا تستفيد شيئًا بوصفك مشاهدًا شجَّع دون مقابل، فقط يصيبك الغضب والتوتر من كرة قُطعت من فريقك وأصبحت هجمة مرتدة انعكست عليك أو تصويبة لم تجد طريقها إلى المرمى فضاعت كهدف كان مؤكدًا لك. وهذا فيلم سينمائي أحداثه حيكت بعناية لينتصر البطل في النهاية على أعدائه وتنتهي القصة، وينتهي معها وقت ثمين سُرق منك.
كثير من شباب اليوم اتجه إلى بعض الألعاب الإلكترونية وأدمنها إلى الدرجة التي تجعلهم يؤجلون ما وراءهم من أعمال أو مصالح في سبيل الإبقاء على تفاعلهم ومشاركاتهم مع الآخرين، ودفع مقابل مادي للاستمرارية، والنتيجة خسارة في الوقت والمال.
وهناك أشخاص قد تلتقيهم في يومك، وتسمع منهم حكايات يروونها بالسلب أو الإيجاب عن آخرين، وتدخل الغِيبة والنميمة في سياق الكلام، وفي النهاية يضيع وقتك سُدًى بلا فائدة تُذكَر.
أعرف رجلًا أحب فتاة لمدة خمسة عشر عامًا، لم يرَها، ولكن كان هناك اتصالٌ بالخطأ في البداية أثمر عن علاقة عاطفية سماعية عبر الهاتف فقط، يبث أحدهما إلى الآخر حبًّا وهيامًا، ويرسل لها رصيدًا كل يوم، وفي النهاية تزوجت هي وتركته، حتى وجد نفسه فجأة في الخامسة والأربعين ولم يفعل شيئًا..
الكارثة أنه ما زال يحبها ويفكر فيها، وفي المقابل أضاع عمره، ولم يُكوِّن أسرةً بعدُ لأنه أصبح صفر اليدين.
أصبحت الهواتف في أيدينا ليلًا ونهارًا، إذا تحدث إليك أحدهم شغلتك اللعبة التي تلعبها أو شغلك الردُّ على إحداهن، التي لا تعلم أصلها من فصلها، وبالتالي لا تقدير لمن يوجِّه إليك كلامه.
اكتفينا بإرسال الرسائل السلامية المصحوبة بالورد متعدد الألوان، ونسينا صلة الرحم ودفء العائلة، والحديث مع أولادنا وزوجاتنا، والخروج معهم في نزهة ترفع من روحهم المعنوية وتزيد أواصر الود، ممَّا ينعكس على صحتهم النفسية.
لم نعُد نمارس حياتنا بشكلها الطبيعي الحقيقي من قراءة وتعلُّم، وممارسة للرياضة، واستقطاع وقت لأسرنا التي لها حقٌّ علينا.
لقد سُرِقْنا بعناية بالغة، والنتيجة مزيد من الجهل والتخلُّف والرجوع إلى الوراء بالنسبة إلينا. والغرب يجني المال منا جرَّاء ما يقدمه لنا، ويوظفه للمستقبل، ونحن ندفع لهم عن طيب خاطر بلا وعي حتى فسدت عقولنا باقتحامهم لنا وسرقتنا.