هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة جهاد غازي
  3. قدر يرتعش

 

أنا ملاك؛ لم أبلغ بعد منتصف عقدي الثالث، جميلة إلى حد ما، شعري الأسود ينسدل على ظهري كشلال من الليل البهيم، وعيناي الشهلاءين يسحرا كل من يراهما، هادئة مسالمة ولا أؤذي أحدا، أعمل في معمل للأبحاث الكيميائية وغالبا ما اعود متأخرة من عملي.

في أحد أيام الشتاء الباردة، كنت عائدة إلى بيتي الدافئ بعد يوم عمل مضن، كنت أسير بسرعة البرق هربا من برد كانون القارص الذي كاد يجمد أطرافي، وكل ما كنت أتمناه في ذلك الوقت كان كوبا من الشوكولاتة الساخنة اللذيذة، واحتضان قطي الأبيض الناعم بجانب مدفئتي المتوهجة، وقراءة روايتي الجديدة التي اقتنيتها مؤخرا.

ولكن بدل ذلك كان ما حصلت عليه هو اصطدام سيارة أودى بعظامي وهشمني.

.......

أربعة شبان مستهترين فاقدين لعقلهم من شدة السكر، ترجلوا من سيارة الدفع الرباعي ليروا ما الذي اصطدموا به، وأخذوا يتفقون ما الذي سيفعلونه بالمصيبة التي حلّت فوق رؤوسهم لتفادي التحقيقات.

كانوا يتحدثون بصوت هامس، دون الاكتراث بعظامي المهشمة، ولا بدمائي التي تخضب الشارع بلونها القاني، واتخذوا قرارهم على ما يبدوا؛ فجأة جاء أضخمهم ورفعني عن الأرض وكأنه يرفع ريشة رقيقة، وألقاني في صندوق سيارة فارهة، ورغم ذلك فقد كان ضيقا ومعتما، وانطلقت السيارة تهدر على الطريق الخالي بصوت يرج الأرض رجا، ومع كل اهتزازة من السيارة مان جسدي يئن ألما وأشعر بروحي تكاد تفر من جسدي.

توقفت السيارة وسمعت صوت الأبواب وهي تفتح وتغلق بقوة، ثم جاء ذلك الضخم وأخرجني وألقاني على الأرض كخرقة بالية، أحضر الباقون عدة صخور وقطع من الأسلاك الشائكة، قيدوني بها وكأنهم يربطون صندوقا مهترئا ينطوي على أشد أسرارهم ظلاما ويخشون أن ينفتح فتفتح عليهم أبواب الجحيم، وأول ما فعلوه هو تكميم فمي لئلا يسمعوا أنيني المؤلم الذي يقطع نياط القلوب لمن يمتلكها، وهم لا يملكونها حتما.

ألقوني في بحيرة ببرودة القطب الشمالي، وظلام صحراء سيبيريا عند الغسق، دون أن يأبهوا لألمي وعذابي ولا لحياتي المنسلة بتؤدة من بين أضلعي المهشمة، شعرت بلسعات البرد وهي تنخر عظامي وتزيدني ألما، وبمرور الوقت سرى الخطر في أطرافي وانسلت روحي من بين جنبات جسدي، وفي آخر أنفاسي التي بدأت بالنفاد من قفصي الصدري؛ أقسمت أنني سأعود لأنتقم، وستطاردهم لعنتي حتى آخر لحظة في حياتهم القذرة، ولسوف يندمون.

.......

(كلما أزهقت روح بريئة بطريقة وحشية، عادت لتنتقم من قاتلها وإن لم تنتقم ستبقى هائمة في عالمنا تحتاج إلى الخلاص.

غالبا ما تبقى في نفس المكان الذي قتلت به، أو تكون مرتبطة بشيء ما من متعلقات صاحبها، كسلسلة ما أو ربما هاتف أو أي شيء ذا ارتباط وثيق بالضحية).

هذا ما وجدته أثناء بحثي المسهب على الانترنت، وأنا أحاول تفسير ما يحدث معي ومع بقية أصدقائي.

أدعى سمير، وأنا في منتصف عقدي الثالث، أعيش وحيدا في شقة متوسطة الحال مهلهلة الأثاث، في أحد الأحياء الفقيرة، لدي عدد من الأصدقاء الذين أسهر معهم بشكل شبه يومي، وغالبا ما كانت سهراتنا الماجنة تنتهي بعد أن نتحول إلى هلام بشري من شدة السكر، عندها فقط نقرر العودة إلى منازلنا وغالبا ما يحدث هذا فجرا.

كنا أربعة؛ أنا رأس الأفعى بينهم، ويعتبرونني العقل المدبر، حيث أنظم كل سهراتنا، وبماذا سننتشي بكل ليلة وأعرف كل موردي الكيف بأنواعه، أما محمود فهو الشاب اللعوب المستهتر ذا الجسد المتضخم باطراد، وأقلنا حذرا، غالبا ما يحدث المشاكل أينما ذهبنا، وصاحب النادي وبعبارة أخرى "البنك المركزي الذي يصرف على كل سهراتنا بسخاء" فهو محمد، وكل ثلّة من الأصدقاء الفاسدين لا بد أن يكون فيها الشاب الحالم الرومانسي الذي يحيي جلساتها بقصصه الغرامية الحامية الوطيس، وكانت هذه مهمة أحمد طبعا!

في تلك الليلة المشؤومة انتهت حفلتنا الماجنة باكرا، لنفاد مخزوننا من المخدرات والمشروبات الكحولية، فقررنا العودة إلى منازلنا، في الطريق اصطدمنا بتلك الفتاة البريئة، ومنذ ذلك الحين ونحن نعيش رعبا لا حدود له، وخاصة بعدما حدث مع محمود.

بعد مرور عدة أشهر من تلك الليلة المشؤومة، قررنا الذهاب في رحلة تخييم إلى الغابة القريبة، وكانت سيارة محمود هي أكبر سيارة لدينا، لذلك طلبنا منه تجهيزها، وعندما كان ينظفها وجد هاتفا ذا غطاء زهري اللون في صندوق السيارة، اتصل بنا ليسألنا إن كنا نعرف لمن الهاتف وأرسى لنا صورته، فقد كنا جميعا نستخدم سيارته في ليالينا الحمراء، لم نتعرف على الهاتف، فقرر محمود إعادة شحنه لمحاولة معرفة صاحبته، وحالما قام بتشغيله ظهر على الشاشة وجه تلك الفتاة التي اصطدمنا بها، اتصل بنا وهو يضحك ليخبرنا بما وجد، قرر الاحتفاظ به رغم اعتراضنا، وليته لم يفعل!

فحسب تقارير الشرطة وكلام الشهود؛ في ليلة الأحد، وفي حوالي الساعة الثالثة صباحا، أصيب الحي الذي يسكن به بعطل كهربائي لسبب غير معروف، وسُمعت أصوات صراخ يمزق سكون الليل وكان مصدرها منزل محمود، لم يتجرأ أحد على الاقتراب من منزله، وحالما عادت الكهرباء اتصل الجيران بالشرطة ولكن الشرطة لم تأت بحجة أن الصوت توقف بعد برهة فربما كان شخصا خائفا من الظلام لا أكثر.

في الصباح أعاد الجيران الاتصال بالشرطة ليبلغوهم أن جسدا ضخما تكسوه الدماء معلق على سياج منزل محمود، أتت الشرطة وأنزلوا الجسد بعد معاناة شديدة، دخلوا البيت ليجدوه محطما وكأن إعصارا هاج وماج بداخله، أرضيته ملوثة بمياه طينية غير معروفة المصدر، وعند فحصها وجدوا أنها طين مما يتواجد في البحيرات، أما محمود فقد ضرب وهشمت عظامه حد الموت والغريب في الموضوع أنهم وجدوا هاتفا ذا أصابع معدنية مغروزا في رأسه، ونظرة هلع تطل من عينيه الفاقدتين للحياة.

تم التحقيق معنا جميعا بحكم أننا أصدقاءه المقربون، ولم يثبت علينا شيء، وقيدت القضية ضد مجهول، ولكننا جميعا عرفنا من القاتل ولم نستطع البوح، فالهاتف الذي كان مغروزا في رأسه لم يكن سوى ذلك الهاتف الزهري اللون، الذي أصر أن يحتفظ به.

على ما يبدو عادت تلك الفتاة لتنتقم منا! كيف السبيل للفرار منها؛ على ما يبدو ليس هناك من سبيل!

بعد مرور عدة أيام على مقتل محمود الوحشي، التقينا وتحدثنا -أنا وأحمد ومحمد-ويبدو أننا جميعا تحصل معنا أشياء غريبة.

جميعنا نشعر بثقل الهواء في غرفنا، وكأن هناك من يجثم على صدورنا ويمنعنا من التنفس، البرد القارص الذي يعتري أي مكان نجلس فيه على الرغم من تشغيل التدفئة، أبواب تقفى وتفتح دون أن يلمسها أحد، رائحة لحم محترق تفوح في الهواء دون أن نعرف لها سببا.

حاولنا إيجاد تفسير منطقي لما يحدث، ولكن للأسف لم نجد ما يقنعنا، أخبرتهما بما وجدته على الانترنت ولكنهما سخرا مني، وقالا بصوت واحد متضاحكين: بربك؛ أتصدق هذه التفاهات؟

- نعم.. أصدقها، فكل ما يحدث لا يمكن تفسيره إلا بلعنة تلاحقنا جرّاء قتلنا لروح بريئة.

ولكنهما غادرا المكان متمايلين من السكر وهما يقهقهان لما قلته.

عدت إلى منزلي لأكمل البحث عن كل ما له علاقة بما يصيبنا وعن طريقة للنجاة.

(لا ترتاح الروح التي قتلت إلا بحصولها على نهاية ترضيها إما بالانتقام أو الغفران ولن تغادر عالمنا حتى تبلغ مرادها)

جميع المواقع بلا استثناء كررت الجملة السابقة بطريقة أو بأخرى.

(لا يمكن التخلص من الروح ومنعها من الانتقام إلا بحرق كل متعلقاتها وحرق الجثة بعد رشها بالملح الصخري)

إذا هناك طريقة للنجاة!، ولكن كيف سنصل إلى الجثة بعد أن باتت طعاما للأسماك في قعر البحيرة؟!.

غفوت وأنا أتصفح الانترنت، وصحوت صباحا مذعورا على صوت صفارات سيارات الشرطة المزعجة وطرقات قوية تكاد تخلع باب منزلي البائس.

اتجهت إلى الباب بملابسي الداخلية الرثة، فهم لم يمهلوني وقتا لارتداء غيرها، فتحت الباب لأجد ضابط من الشرطة الجنائية ببزته المكوية بعناية ونظرة تعال واضحة في عينيه، طلب مني الذهاب معه في الحال للتعرف على جثة صديقي أحمد، فأهله مسافرون خارج البلاد ورقمي كان أكثر رقم يتصل به، وطبعا استطاعوا الوصول لعنواني من ملف قضية محمود.

ارتديت ثيابي على عجل وذهبت معه، ليصحبني إلى المشرحة التي كانوا يحتفظون بالجثة بها، كنت أشم رائحة الموت البغيضة تعبق في المكان وتزيده رهبة، والبرد هناك يزيد الموقف رعبا، حتى الإنارة كانت صفراء شاحبة توحي بالموت، فتح باب الثلاجة وسحب رفا معدنيا ليدوي صوت صرير مزعج زاد من رهبة الموقف، ولحظة رؤيتي للجثة فقدت الوعي وسقطت أرضا.

استفقت من سقطتي وصحت باكيا متسائلا: إنه أحمد ولكن ما الذي حدث له ؟

طلب مني الضابط الذهاب معه إلى قسم الشرطة ليريني شيئا ما، عندما وصلنا شغل جهاز الكمبيوتر ليريني تصويرا من كاميرات المراقبة في منزل أحمد -الذي كان يسكن فيلا مجهزة بأحدث أنظمة المراقبة- ظهر أحمد على الشاشة يحاول ضبط حرارة الجو في الفيلا، وباستمرار رفع الحرارة إلى 25 درجة مئوية، وعادت إلى الصفر مرة أخرى، ضباب كثيف كان يلف الغرفة تخيلوا؛ ضباب داخل فيلا مكيفة والتدفئة المركزية تعمل بأقصى قوتها!.

فجأة بدأت الاضواء بالتراقص، تنطفئ وتضيء بشكل متكرر، وأحمد يدور حول نفسه لا يعرف ما الذي يحدث، فجأة انتفض جسده وكأن أحدهم اصطدم به بقوة رهيبة، ثم اعتدل واتجه إلى علبة الإسعافات الأولية وكأن أحدهم يجبره على فعل ذلك، أخرج منها خيطا وإبرة وبدأ بخياطة فمه ببطء والدم يسيل منه وهو يحاول المقاومة ولكن يده تستمر بالعمل بلا توقف، تناول مقصا ووضعه داخل عينه اليسرى وفقأها، وصوت ضحكات مرعبة يتردد صداها في أرجاء الفيلا، ضحكة ليست ببشرية على الإطلاق!.

اتجه إلى الحمام، ملأ الحوض وقفز داخله، كان جسد أحمد يقاوم منتفضا محاولا الفكاك وكان مثبتا داخل الحوض المملوء حتى آخره بماء موحل، وكأن هناك يدا خفية تدفعه أسفل سطح الماء، انتفض جسده طوال خمسة دقائق كاملة مرت عليّ دهرا، وبعدها سكن جسده للأبد وعاد كل شيء إلى طبيعته في الفيلا، ما عدا جملة وحيدة كتبت بالدماء على مرآة الحمام:

(ذهب اثنان وبقي اثنان.. ولسوف يندمون).

.......

هممت بالخروج من قسم الشرطة بعد انتهاء التحقيق معي، وإذا بالضابط وائل يناديني بحزم، وقفت انتظره، مد يده إلي ووضع في يدي سلسلة ذهبية تحمل مدلاة على شكل قلب مكسور، قال أنه وجدها في جيب أحمد.

دققت النظر إليها وشحب وجهي، إنها نفس السلسلة التي كانت ترتديها تلك الفتاة في تلك الليلة أنا أذكرها جيدا، فرغم أن الوقت كان ليلا ولكنني رأيتها بوضوح على ضوء السيارة الذي كان مضاءً حينما كنت أساعدهم في تكبيل جسدها بالأسلاك لنثبت به الحجارة، ولكن كيف وصلت إلى جيب أحمد؟ شحب وجهي ولكنني ظللت متماسكا خوفا من افتضاح أمري، وغالبا ظن الضابط أن شحوب وجهي بسبب رؤيتي لجثة أحمد، استدار ورحل وخرجت أنا هائما على وجهي، ظللت أدور لساعات في الشوارع بلا هدف، اتخذت قراري، هاتفت محمد وطلبت لقائه، لا بد أن نجد حلا، وإلا سيكون موتنا عاجلا وليس آجلا.

طلب مني موافاته إلى النادي الرياضي الذي يمتلكه، اتجهت من فوري إليه، جلسنا بجانب المسبح وأخبرته بما حدث لأحمد، وما زال يسخر من مخاوفي، استمر نقاشنا حتى حل موعد إغلاق النادي ولم يتبق سوانا هناك.

فجأة بدأت الأضواء بالخفوت تدريجيا، وشعرت بقشعريرة تسري في جسدي من شدة البرد، سألت محمد متعجبا: هل شغلت التكييف؟.

 واذا به يقف ويتجه نحو المرآة كالسائر في نومه ويضربها بقبضة يده، وأنا أصرخ به: محمد ماذا تفعل؟ ماذا دهاك؟ ولكنه لا يجيبني!.

 أمسك بقطعة من زجاجها المهشم وبدء بسلخ وجهه ببطء، وصرخاته تضج في المكان، وصوت تلك الضحكة التي سمعتها في فيديو أحمد نفسه يجلجل هازئا من صرخاتي وصرخاته، ونظرات الرعب التي رأيتها في عينيه لن أنساها ما حييت.

اتجه إلى الحائط وبدمائه كتب عليها: (سأعود لأجلك قريبا.. لا تقلق).

أخذ يسير إلى الخلف مذعورا وهو يصرخ، وإذا به يتعثر بأسلاك السماعات الكثيرة المنتشرة في النادي لتقع إحداها في بركة السباحة التي امتلأت بالطين من حيث لا أدري، وتبعها محمد! ولكم أن تتخيلوا ما حصل بعدها، كهرباء وماء إذا اجتمعا فالنتيجة حتما معروفة!.

خرجت جريا من النادي لا ألوي على شيء، عند الباب وجدت ذلك السوار الفضي الذي كان يحيط بيد تلك الفتاة قبل أن يلقيها محمود إلى البحيرة.

لا بد أن أجد حلا وإلا فإنها ستقضي عليّ قريبا.

.......

إلى متى سيستمر العذاب..

لم يتبق سواي، وتوعدتني بالعودة لأجلي، لا بد من وجود طريقة للنجاة، وحتما سيكون عقابي هو الأقسى لأنني في تلك الليلة من كان يقود السيارة، وكذلك أنا من اقترحت مواراة جسدها في غياهب البحيرة.

حسبما قرأت: "يجب حرق الجثة وكل ما يتعلق بها، بعد وضع الملح الصخري عليها لتجنب انتقامها".

السلسلة والأسورة الفضية معي، أما بالنسبة للهاتف فقد تذكرت مروري أمام قسم الأدلة عندما ذهبت للتعرف على جثة أحمد، ذهبت إلى القسم مدعيا أنني أرغب بلقاء الضابط وائل لأنني أمتلك معلومات جديدة بخصوص القضية، واستغليت انشغال موظف الاستقبال بالبحث عن الضابط، الذي كنت أعلم أنه خارج القسم حينها فقد رأيته وهو يركب السيارة ويغادر قبل دخولي، تسللت إلى قسم الأدلة بروية، ولحسن حظي كان الباب مفتوحا، دخلت إلى الغرفة التي يملأها الغبار، وضعت صناديق كرتونية بنية اللون مرتبة حسب الأحرف الأبجدية على الرفوف المنتشرة في أنحاءها، لم يكن صعبا عليّ إيجاد الصندوق الذي يحتوي على أدلة قضية مقتل محمود، فهو كان لا يزال جديدا لم يغطه الغبار بعد في الرف المخصص لحرف الميم.

 أخذت الهاتف سريعا، وعدت إلى الاستقبال في انتظار عودة الموظف وكأنني لم أفعل شيئا، أخذ يعتذر مني لعدم قدرتي على رؤية الضابط الآن فقد كان الضابط في مهمة ميدانية وهكذا لم اضطر لإيجاد كذبة لتبرير حضوري، غادرت القسم بعد أن تركت لدى الموظف رقم هاتفي احتياطا دون أخبره باسمي، وبالطبع كان رقما ملفقا.

لم يتبق عليّ سوى شيء واحد، لذلك استأجرت مجموعة من الغواصين المهرة، ودفعت لهم مبلغا ضخما من المال -كنت قد أخذته من خزنة محمد بعد موته قبل مغادرتي النادي، فقد كنا جميعا نعرف الرمز السري لها- مقابل السرية التامة، ركبنا سوية في السيارة وانطلقنا صوب البحيرة، وتذكرت بعد جهد جهيد الموقع الذي رميناها منه.

وأخيرا بعد عدة ساعات من البحث المتواصل عاد أحد الغواصين لأخذ الحبال لربط الجثة لأنهم وجدوها.

بعد عشر دقائق قامت زوبعة هائجة، تحولت تدريجيا إلى دوامة هائلة وسط البحيرة، وحملت داخلها الغواصين ساحبة إياهم إلى الأعماق المظلمة، وهم يصرخون رعبا بصوت يملأ أشجع القلوب ذعرا: إنها هنا، لن تتركنا نرحل وستعود حتما لأجلك!

شلني الرعب للحظات، والأدهى هو قيام عاصفة رملية أحاطت بي من كل جانب منعتني من التحرك، وصوت صراخ يصم الآذان يتوعدني بأقسى أنواع العذاب.

بعد فترة مرت عليّ دهرا، توقف كل شيء وكأنه لم يكن، فررت هاربا لا ألوي على شيء، لا أعرف كيف نجوت ولا كيف وصلت إلى منزلي.

.......

مر أسبوع كامل وأنا أعيش في رعب انتظار انتقامها الموعود، كل يوم في نفس الوقت: الساعة 11:45 دقيقة مساء تبدأ الأضواء بالتراقص تضيء وتنطفئ بشكل مستمر.

في أول يومين شعرت برعب هائل، في اليوم الثالث بدأت بفقدان الأمل، وأصبح كل ما أتمناه هو حضورها لقتلي لينتهي ألم الانتظار ولكن هيهات!.

أصبحت كجثة على قيد الحياة، أدنى صوت وأقل حركة يجعلا فرائصي تنتفض هلعا؛ لا أستطيع الأكل ولا القيام بأي نشاط يذكر، سوى النوم والذهاب إلى الحمام، حاولت شتى الطرق لكي لا يحدث ما يحدث كل ليلة، قطعت أسلاك الكهرباء ولكن الأضواء استمرت بالتراقص يوميا في نفس الوقت، حتى أتى اليوم أخيرا...

كنت أقف أمام المرآة أتأمل ما وصل إليه حالي، جسدي بات عظاما تكسوها طبقة من الجلد المسوّد، ووجهي شاحب ترتسم هالات سوداء أسفل عيني، لحيتي وشعري أشعثان، شعرت بالأسى على نفسي، وكدت أبكي من فرط ألمي وإذ بها تطل عليّ وسواد عميق في عينيها اللتان تشعان غضباً، وسؤال وحيد تردد في الفراغ القائم بيننا بصوت مثير للهلع: (لماذا؟).

لماذا لم أنقذها؟ لماذا أصررت على جعلها تموت بدل المرة ألفا؟ لماذا لم اأقلها لتلقي العلاج مع أنني عرفت أنها ما زالت على قيد الحياة؟ لماذا؟!، سؤال بقي عالقا وسيبقى للأبد دون إجابة.

رأيتها تتحرك باتجاهي وتخرج من المرآة وتقترب مني رويدا رويدا، وأنا أقف عاجزا عن الحركة، انتفض جسدي وهي تستعمره بروحها المتألمة، تعاطفت معها وغفرت لها ما فعلته بأصدقائي وما ستفعله بي لأنني استحق أكثر، فأنا المجرم الذي وأد روحها الطاهرة لكي لا يعاقب على جريمة القيادة تحت تأثير الخمر.

.........

دخلت إلى جسده وأنا أشعر بغضبي يستعر بداخلي، صمته المخجل جعلني أغضب أكثر، قررت جعله يشعر بما شعرت به قبل أن اقتله، جعلت جسده يشعر بكل كسر ألم بي عندما صدمني بسيارة صديقه، وبكل ذرة ألم عندما حملني صديقه بكل إهمال والقاني في صندوق السيارة الضيق، وكيف انغرزت الأسلاك الشائكة في جسدي، كل جرح نزف في جسدي وقت الحادثة جعلت جسده ينزفه، كان هو مصدوما بما تفعله روحي بداخله ولكنني سأستمر حتى النهاية.

...........

احتلتني روحها ولا أعرف كيف أصف شعوري حينها؛ ما زال عقلي واعيا لما يجري رغم فقدي للسيطرة على جسدي بشكل كامل، الآن أشعر بألمها وبغضبها، وأشعر بخوف هائل مما ستفعله بي لاحقا، تحرك جسدي دون أمر مني، اتجه نحو خزانة المطبخ أمسكت يدي طبقا زجاجيا شفافا وشوكة وسكينا حادة وكوبا، اتجهت إلى مائدة الطعام، وضعتهم على الطاولة بالترتيب وما زلت مستغربا مما تفعله يا ترى ما الذي تخطط لفعله؟

............

لن يكون في العالم انتقام أقوى من انتقامي، سأجعل العالم كله يتعظ من قصتهم، لذلك لا بد من جعله عبرة لمن يعتبر ولا بد أن يعرف العالم سبب ما حدث له!.

بعد تحضير المائدة بحثت في عقله عن مكان الأوراق والأقلام وجعلت جسده يحضرهم، ويكتب اعترافا كاملا عن كل ما حدث، وأن ما سيحدث تاليا هو عقابه على فعلته.

..........

بعد كتابة اعترافي كاملا اتجهت إلى الطاولة، وضعت يدي على الطبق، وبدأت بالتقطيع، حاولت جاهدا السيطرة على جسدي ومقاومة ما تفعله، ولكن هيهات.

لم تتوقف عند هذا الحد، صفت دمي داخل الكوب وأنا أتساءل رغم ألمي ماذا ستفعل، رفعت قطعة لحم نحو فمي وأجبرتني على أكلها وأخرى.. وأخرى، وبعد ذلك رفعت كوب الدماء، دمائي أنا وجعلتني أشربه.

...........

أشعر بألمه ورعبه مما يحدث، والاشمئزاز الذي يعتلي وجهه لأكله لحمه، هذا جعلني أتمادى في تعذيبه ومضغ لحمه أبطأ فأبطأ لكي يستطعم بكل ذرة منه، وأنا أستمتع برعبه، قطعت قطعة أخرى من فخذه وأخرى من عضده، وثالثة من وجهه وأجبرته على أكلها جميعا.

استمر بالنزف، وقاومني كثيرا، ولكنني هزمته وكلما قاوم أكثر زادت متعة هزمي له.

...........

خرجت من جسدي تخيرا، رأيت ابتسامة واسعة تضيء وجهها وهي ترى الحال الذي أُلت إليه، ونظرة انتصار تلوح من عينيها، ولكن هناك شيء آخر غير الانتصار يظهر فيهما أيضا إنها تتوعدني بما هو أكثر من ذلك، اتجهت إلى المرآة لأنظر إلى ما حل بي، ويا ليتني لم أفعل كان منظري مثيرا للاشمئزاز.

............

لا بد أن أعترف أنني شعرت بالسعادة عند احتلالي لجسده، أن يصبح لي جسدا ماديا بعد أن كنت أهيم في الأرجاء من غير أن يراني أو يشعر بي أحد، هذا جعلني أمضي في جسده وقتا أكثر من غيره، مما جعلني أحس بمدى ندمه لما فعلوه بي، وأغفر له وأقرر أن أتركه حيا، يكفيني أنه سيعيش مع حقيقة أنه كان سببا في موتي، وأنه أكل لحم جسده، كان هذا آخر ما خطته في أوراقي قبل أن تنسحب روحها من جسدي.

عندما خرجت من جسدي، رأيت خيالها في المرآة يطالعني ويرى نظرة الاشمئزاز التي اعتلت وجهي، وقبل أن أسقط مغشيا عليّ نتيجة فقدي لدمائي وكل ما مررت به، سمعت أصواتا تدوي في المنزل، لا بد أنها من فعلها، هرع الجيران لنجدتي وتركتني ورحلت، ربما عادت للبحيرة مرة أخرى لا أدري، ولكنني لم أستطع تمالك نفسي أكثر وتهالك جسدي المدمى أرضا وأنا أسمع طرقات الجيران على الباب وألمحه وهو يتهشم تحت ضرباتهم.

لا أعرف إن كانت هذه نهاية انتقامها أم أنها مجرد بداية جديدة.

تمت

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

1151 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع