هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة د حنان طنطاوي
  3. مذكرات كاميرا..الصفحة الأولى: تناجي الروح

 "رحيل.. عنوان الصورة رحيل". كان ذلك هو العنوان الذي اختاره هادي للصورة، صوته بدا واثقا، ووافقه الجميع على اختياره، وقرروا الكتابة عن الصورة تحت هذا العنوان، كنت قد التزمت معهم أن لا أتدخل في اختياراتهم للعناوين، حتى لو لم تكن موافقة لحقيقة الصورة التي أعرفها؛ باعتباري من صورها، وهو الأمر الذي بنينا على أساسه أعمدة المسابقة.

 

 صور كثيرة نراها، دون أن نشهدها، فما تكون رؤيتنا لها إلا انعكاسا للبصر لا النظر، ما نبصره يمتزج فيه شٍقف من ذواتنا وخبراتنا، من أمزجتنا وأمنياتنا، من مخاوفنا وخيباتنا، وتظل الحقيقة مِلك مطلق للحدث، بدوافعه ووجهته، حتى أنا؛ برغم أنني أشهد على الصور أثتاء التقاطها، إلا أنني لا أملك إلا التكهن بما يعتمل في بواطن أبطالها، يزيد جلاء إحساسي بهم توحدي معهم، أصورهم وكأنني أنبعث من قلوبهم لا أقف أمامهم، أشعر برعشة ابتسامتهم، بما يثقلها من حمل وأعباء يتعين عليهم الوفاء بها، لا أغتر بتلك للحظة التي ينجحون أحيانا باختطافها والهروب فيها مما يشغلهم، لكني أهديهم بتصويرها عمرا يعينهم على الصمود. 

 

كنت أترقب أول ما سيخطر بمخيلة هادي وبقية المتسابقين، حيث يختار كل منهم بحسب دوره عنوانا للصورة الجديدة، ووفق كلمات محددة ووقت محدد يتم تسليم النصوص المتعلقة بالصورة، لعرضها على لجنة التحكيم، كانت تلك فكرة صديقي علاء، والتي نصحني بها لكي أزيد من مساحة التفاعل الجماهيري مع صوري، وأخلق فرصة للهواة من الكتاب، حتى يجددوا بث الدماء في شريان موهبتهم، واستثمر في ذلك علاقاتي الوطيدة مع الوسط الثقافي العربي، والذي يسمح بإنجاح فكرة مسابقة كهذه.

 

في يمين الصورة كان يظهر شاب يجلس وقد أسند ظهره على عمود رخامي، يمد ذراعيه على ركبتيه المثنيتين لأعلى، مطرقا نظره لفتاة تجلس على مقربة منه، لايفصلهما سوى بضع سنتيمترات، يهيأ لك وكأنه يتنشق عبقا خاصا يفوح من خصلات شعرها السوداء، كانت توليه ظهرها قائما مشدودا، وقدماها ممتدتان إلى سلمة أسفل الدرجة التي تجلس عليها، بدت وكأنها تهم بالوقوف، بالقرب منها كان يوجد حقيبة سفر صغيرة، ملقاة على الأرض دون اكتراث، ويتوسط الصورة –أمامهما- ساحة كبيرة امتلأت أشجارا، وبشرا –غادين وذاهبين- للوهلة الأولى؛ توحي لك الصورة وكأنها التُقطت على بوابة محطة قطار. 

 

 للكاميرا أقوال أخرى:

 

    التَقطتُ هذه الصورة في رحلتي بسيرلانكا، لا أستطيع دوما اختيار الرفاق في رحلاتي، لكن الكاميرا هي رفيقتي الدائمة، تعهّد عُنقي بأن يحملها دون تذمر، والتَزمت بدورها برصد وحفظ كل ما أقترحه عليها، لا تفرّط أبدا في وفائها، أو تعاونها؛ طالما أحافظ على شحنها وصيانتها. 

 

لم أكن لأسامح نفسي؛ إن لم تحظَ عين رفيقتي -ذات الوهج الفلاشي- بصور هذه الطبيعة الأخاذة في سريلانكا!

 

لا أعني فقط طبيعتها الجغرافية أوالجيولوجية، بكل ما خطف أنفاسي فيها من جبال، وسهول، وشلالات، وبحار، ذلك المزيج الكوني الرائع الذي برغم شمسه الحارة، لم يقو على إخفاء نسمة عذبة، تداعب الحواس بين الحين والآخر! ولم يقو أيضا على إبهاري.

 

 حتى كل تلك الغابات الخضراء لم تكن ما حركني بلهفة لالتقاط الصور، برغم تفاصيلها المثيرة التي عايشت بعضا منها في المتنزهات وحدائق الحيوان، فلم يكن من المألوف لي أن أرتاد رحلة نهرية بمحاذاة جمع من الفيلة وهي ترشني بالماء!

 

لم يؤجج صخبي في التصوير أيضا كل تلك المعالم التاريخية؛ الموجودة بكامل بهائها منذ آلاف السنوات، حاضرة ماثلة في المعابد والتماثيل العجائبية، والتي تطلبت مني وقتا طويلا لأفند كل ما هو منحوت فيها من تفاصيل فنية وتاريخية وأسطورية، ووقتا أطول كي أفهم القصص الرمزية خلف بنائها!

  

حتى قمة آدم لم تكن هي ما أبهر عدستي وروى ظمأها، برغم كل ما فيها من رهبة وروعة أسرتا لب روحي! 

فحين رأيت تلك القمة الشامخة المهيبة، شعرت وكأن قطعة من جنة الخلد متجسدة على الأرض، توسطت عرشها على قمة جبل الرحون، بين كل تلك الأبسطة الخضراء، لتستقبل جموع السياح والحجاج يصعدون إليها في مواسم اكتمال القمر، يأتون إليها من أقصى الأقاصي: ناشدين موطئ القدم؛ قدم آدم عند المسلمين، وقدم المسيح عند المسيحيين، وقدم بوذا عند البوذيين! ربما تختلف نسبة القدم في كل ديانة لكنهم جميعا يستهدفون نفس القمة الساحرة!

 

 ما كان يجعلني ملتاعا بحق وأنا ألتقط الصور هو وجوه شعب هذا البلد؛ ببشرتهم الصبورة حبيبة الشمس والبحر، وملامحهم التي بدت لي متناسقة وجذابة! نادرا ما تخلو عيونهم من طيف ابتسامة تجعلني أبتسم رغما عني حين أراها. 

 

أذكر أني من شدة إعجابي بهم كانت أسئلتي لإنشاف –المرافق الخاص بفوجنا السياحي- لا تتمركز حول المعالم الأثرية، بقدر ما تمحورت حول نمط الحياة اليومية للناس.

 

كنا في وقت الغروب، والشمس تهمس بكلمات أخيرة في أذن الشفق، حين توقف الباص الخاص بالرحلة للاستراحة، واستقبلنا أمام المطعم ثلاث سيدات يتجاوزن الستين من العمر، ويشتركن معا في القرع على دف كبير يشبه الطاولة، ويترنمون بكلمات وألحان سلسة لم أفهمها ولكني استمتعت جدا بينما أراقبهن!

 

- ماذا يغنون؟

 

أجابني إنشاف مبتسما وهو يمسك بكوب شاي كان قد ارتشف نصفه، كما ارتشف نصف استنكار ملامحه بعد أن توقع مني هذه النوعية من الأسئلة؛ والتي تكررت كثيرا على مدار الرحلة:

 

- أغنية دينية بمناسة "فايساكا".

 

وأردف متابعا حديثه قبل ان أسأله:

 

- "فايسكا" هي عيد مولد بوذا، وهم يغنون كلمات تذكر بطريق الخلاص من المعاناة؛ وهو أحد الحقائق الأربعة التي نصت عليها البوذية، يسمى أيضا بالطريق الثُّماني؛ لأنه يتفرع إلى ثمان أفرع: النظر السليم، النية السليمة، الكلمة السليمة، العمل السليم، كسب الرزق السليم، الجهد السليم ، الذهن السليم، والتركيز السليم.

 

لو لم أكن أعرف أن إنشاف مسلم، كنت ظننت أنه يدعوني لاعتناق البوذية، أو ربما هو فقط يباهي بانتمائه لشعب لُقّب بالشعب المبتسم، برغم صلف العيش وكل ما يعانيه البلد من صراعات، إلا أني عايشت فيهم بهجة خاصة أشاعت في نفسي الراحة والتفاؤل.

 

أُغرِمْتُ بأزيائهم البسيطة التي لم تخلُ من اللمسات الفنية، وبألوانهم المقبلة على الحياة، وما أجمل الفتيات هناك وهن يقطفن الورقات الخضراء؛ وكأنهن يتبارين في الجمال بعيونهن الكحيلة، وشعورِهِن اللاتي فاض عليها من الليل والحرير ما فاض، مع أشجار الشاي والقرفة والبهارات! لم يكن يزاحم جمال بشرتهن السمراء -في مخيلتي- سوى وجه "ميادة الحناوي" بصفحته البيضاء المشرقة، كنت أراقبهن وهي تشدو في أذنيّ -عبر طرفي السماعة- بصوتها العذب مقطعا من رائعتها "دعوة للحب": 

 

لما التقينا صدفة .. ورميت سهمك في الهوى

أبعدت قلبي خائفاً .. لكن سهمك قد هوى

اليوم تبدأ رحلتي .. للحب فالدرب استوى

أعطيك قلبي كله .. بجراحه وبما حوى

فامدد ذراعك راحماً .. قلباً تعذب واكتوى

واسكنه وحدك حاكماً .. فرداً رفيع المستوى

 

كان في ألق المشهد مع موسيقى "بليغ حمدي" وهي تزفه إلى روحي، همسا ينبئني أن في الحياة من الجمال، والفن، والإيمان ما يجعلنا مقبلين عليها.. راغبين فيها.

 

صورة للحظة، تحفظها لعمر: 

 

عندما التقطت هذه الصورة؛ كنت أزور ميدان الاستقلال ب "كولومبو"، أثار دهشتي كثيرا هذا المكان! فقلما اجتمعت في بقعة واحدة معالم للحرية.. للحب.. للتاريخ..وللفن، إنها في رأيي أعمدة الوجدان الحي! رأيتهم هناك تماما، كما رأيت كل تلك الأعمدة المزخرفة في قاعة الاستقلال، والتي احتضنت ممرا طويلا مفتوحا من كل جانب، بدا لي وكأنه يرحب بالاستناد على الأعمدة لكنه يرفض قيد الجدران، أمامه التقطت صورا للنصب التذكاري لأول وزير بعد الاستقلال، وهو يعلو متحفا وطنيا يؤرخ القصة، أعجبتني منحوتات تماثيل الأسود التي كانت ترتص حول القاعة؛ وكأنها تحرسها، بعضها نُحت وكـأنه يتأهب للانقضاض، والبعض الآخر كان مرتخيا ساكنا، وأَنعشَ حواسي ما تنشقته هناك من روائح الرقع الخضراء، وهواء الممرات المخصصة للركض، مع نغمات الموسيقى الاحتفالية!

 

لكن أكثر ما وقعنا في غرامه؛ أنا والكاميرا، هو تلك الهمسات المرحة والضحكات السريعة والنظرات الخجولة المواربة، والتي تبعثرت وسط الأحاديث الثنائية بين الشباب والفتيات، وخاصة أولئك الذين فروا من الزحام والصخب، وجلسوا على درجات القاعة يملأون حواسهم وقلوبهم من كنوز المتنزه على بعد. 

 

لمحت الشاب والفتاة الموجودين في الصورة، وهما يتحدثان بانسجام وتآلف كبيرين، ثم استدارت الفتاة فجأة مولية ظهرها للشاب، وكأنها تود استكمال الحديث بلغة أخرى، وكأنها تعطي متسعا لنسمات الهواء لتكون رسول عطرها لحواسه، دون أن تتكبد مشقة الخجل وهي تنظر في عينيه، إنه عهدها له بالأمان، توثقه بظهرها عندما سلمته إياه دون خشية، وكأنها تعترف له .. أنه سندها!

 

كانت الشمس مع نسمات الهواء العليل يموجان في رقصة سمائية مبهرة، حملها السحاب لعينَي الشاب الذي سمعت في نظراته أغنية منير: (لما النسيم بيعدي بين شعرك حبيبتي.. باسمعه بيقول آهااات)!

 

كانت لحظة عناق للأفئدة..لم يكن رحيلا.. كان تناجيا للأرواح.

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

2820 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع