هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة محمد كافي
  3. الذين لا يؤمنون - رواية

 

 

 

الذين لا يــؤمنــون

محمد رضا كافي

------

الفصل الأول

إنه يوم الجمعة .. أستطيع سماع آيات القرآن المنبعثة من مذياع يعود لأحد الحوانيت الموجودة بالشارع .. لم أهتم لمعرفة من يقوم بفتح حانوته صباح الجمعة .. يبدو كشخص هرم استوى لديه مكوثه ببيته أو بمحل عمله .. أو ربما لم يعد يشعر بتلك الألفة بينه و بين جدران البيت .. الألفة التي لا تجعلني أتحامل على نفسي لا للخروج من البيت فحسب .. بل لمجرد النهوض من فراشي .. و على أي حال ذلك المذياع هو الوسيلة الوحيدة لتذكيري بنهاية الأسبوع .. لم أعد أعبأ بمعرفة الأيام منذ أن تركت العمل مكرهًا , و قد استسلمت لرغبتي في الإنعزال بنفسي في البيت الذي أحيى به وحيدًا بعد وفاة أبواي .. و منذ ذلك الحين أدركتني الوحدة و مشقة الإنتقال من عمل إلى عمل .. كلما ادخرت بعض النقود ينتهي بي الأمر لتركي العمل و إنفاق ما ادخرت و أنا أحاول الإلتحاق بعمل آخر .. تساندني بعض أعمال صيانة الحواسيب التي أقوم بها في منطقتي .. دائرة الهراء التي أحياها .. مثل القمر العالق في مدار الأرض , يدور و يدور .. لا يقترب ولا يبتعد .. لا هو حي ولا هو ميت .. معتم .. ما يكتسبه من ضوء النهار ينفقه في جوف الليل .. تسائلت كثيرًا عن مصير القمر في نهاية الزمان .. هل سيصطدم بالأرض ؟ أم سيُطلق سراحه فيرحل عبر مجرات هذا الكون المظلم إلى مصير مجهول ؟ .. تبدو دائما اختيارات النهاية متساوية البؤس , ولا تختلف عن الوضع الحالي .. العالم لا يكف عن الحديث عن نهاية العالم كما لا يكف عن إراقة الدماء من أجل الحياة .. تناقض مثير للشفقة .

" و كل محدثة بدعة , و كل بدعة ضلالة , و كل ضلالة في النار ,..والحيـ.."

اعتدت حضور خطبة الجمعة كثيرًا و ذات السؤال يراودني .. لماذا أحضرها؟ كل هذه الكلمات المكررة ما الفارق الذي ستصنعه بحيواتنا ؟ ... البائسون مستمرون في بؤسهم .. و الظالمون مستمرون في ظلمهم .. و الأقدار مستمرة في غلظتها .. و الحياة مستمرة في مآسيها ..

حانت مني إلتفاتة إلى خارج المسجد .. امرأة تعبر الطريق.. أعرفها شكلًا فهي تقطن بنفس الحي .. ملامح جميلة و جسد مثير .. لا أعلم إن كانت كذلك في الحقيقة .. أم إن كبت غرائزي يؤثر في عقلي .. تجاوزت الخامسة و الثلاثين من عمري و لا زلت أعزبا لا أقرب المحرمات .. اعتقدت فيما مضى أن الحلال أيسر من ذلك .. و لكنني اكتشفت أن طريق الحلال ضائع في عالم من الضباب يمتليء بالعقبات و الآلام .. حتى أن الطريق نفسه شائك وعر .. أحيانا كانت تعبث بي نفسي أو الشيطان بأن القدر يدفعنا دفعًا للخطايا .. و أن الرب لا يريد ملائكة على الأرض.

كنت قد وجدت سابقا كتيب صغير بعنوان " الرجل المهزوم " .. يحكي عن أخوة من الذكور من بني إسرائيل كان لديهم أخت يافعة .. و أرادوا أن يخرجوا للسفر و التجارة و كانوا يفكرون في أمر أختهم التي لا ينبغي أن تبقى وحيدة .. لم يكن هناك سوى مكان واحد يبعث على قلوبهم الطمأنينة .. بيت الراهب .. راهب بلغ من تقواه أنه كان مستجاب الدعوة .. كان يمثل تحديا عظيما للشيطان ..و في النهاية فعل القدر ما يجيده .. أن يقدم الفرصة للشيطان الذي نجح في التسلل لقلب الراهب بوجود الفتاة .. رويدا رويدا أوقع به في فخ الخطيئة .. ثم سحبه من قدميه ليصبح قاتلا عندما حملت الفتاة سفاحا ..خوفا من بطش أخوتها و الناس .. و لكن الأخوة اكتشفوا ما فعل و هموا بمهاجمة البيت .. و في تلك اللحظة أعلن الشيطان عن نفسه مستغلا هلع الراهب و عرض عليه صفقة .. سجدة واحدة للشيطان مقابل النجاة .. سجد الراهب .. و هرب الشيطان .. فواجه الراهب نهايته كافرا .. مني بهزيمة اقتلعته من فوق عرش التقوى .. و ألقت به في الدرك الأسفل من الجحيم.

بعد أن أنهيت القصة ظللت أفكر .. كيف للقدر أن يكون حليفًا للشيطان على الإنسان بعد كل سنوات التعبد و الزهد .. سقطة واحدة دمرت كل شيء .. سقطة واحدة .. يبدو هذا قاسيا .

" إدعوا ربكم و أنتم موقنون بالإجابة ..." قالها الخطيب لينهي خطبته .

................

لا أتذكر متى كانت آخر مرة تحدثت بها .. و لا أعبأ .. فصمتي لا يمنع الصخب داخلي ... بداخلي مدينة من الرغبات المحتضرة الصارخة حول مقابر الأحلام ... مهما بدوت هادئا كجبل .. فالجبال المغطاة بالجليد بداخلها براكين توشك أن تثور .

أشعلت إحدى سجائري الرخيصة و أنا أسير على إحدى ضفاف النيل .. أطالع هذا الشريان الساحر و على جانبيه من فنادق باهرة و بنايات شاهقة .. على جانبيه يتراص علية القوم في أملاكهم ..أو السائحون في فنادقهم .. أما من دون ذلك فهم عابرون .. مجرد عابرون عشاقا كانوا أو عمال يقتاتون على فتات الحياة , مهمومون يطلقون شكواهم عبر نظراتهم الصامتة إلى صفحة النيل اللامعة , أو منتحرون .. قرروا أن يغادروا الحياة في عناق أبدي للشريان الجاري .. وليته ظهري قليلًا و أنا أنظر إلى المارة نظرات عابرة .. اعتدت النظر إلى المارة و كأنني أبحث عن شخص ما ..أو كأن شخص ما سيجدني ..أو ربما أبحث عن نظرة ما .. الجميع يمر و كأنه لا يراني .. و كأنني إحدى الأشجار المتراصة على جانب الطريق .. يعلمون بوجودها و لكنها لا تلفت انتباههم و لا ينظرون إليها .. إن اقتلعها أحد فلن يفتقدها البقية .. ربما كانت هذه حياتي .. ربما كنت شخص عابر لا يحق له الحصول على شيء .. و لكن حتى العابرون يحق لهم الحصول على شيء .. أرى أولئك الشباب في سياراتهم الفارهة .. و النساء الجميلات بجوارهم .. و أتساءل كيف كنت سأبدو لو كنت أحدهم .. تولد بين عائلة ثرية .. تتلقى أرقى تعليم .. ترتدي أفضل الملابس .. تتناول أفضل طعام .. كل شيء في الحياة ينالك منه أفضله .. لن تهلك في فكرة أنك تعمل من أجل أن توفر المال اللازم للزواج .. تتعرف على أجمل الفتيات .. و تحظى بمن تريد منهم .. جيل بعد جيل يتوارث الحياة .. و جيل بعد جيل يتوارث الفقر و الموت و هو يولد و يدفن في القذارة .. كنت أتساءل كثيرا عن مسمى هذا الأمر .. شخص من أولئك قد تفوق علي في كل شيء .. كيف أستطيع أن أسميه عدلًا ؟! .. و أنا حتى لا أستطيع أن أحصل على وجبة إفطاره.. كيف و طموحي أن يعادل دخلي الشهري ما ينفقه على سجائره فقط .. الحياة قذرة .

شعرت بالحنق كعادتي عندما أرى الحياة خارج جدران بيتي .. لهذا لا أحب الخروج من البيت .. فبدلا من الاستمتاع أصيب بالحنق عند رؤيتي لحياة لا أستطيع الحصول عليها .. أتاني صوت جوالي يقطع تناغم مشاعري السلبية .. كان رقم " حمدي " أحد شباب الشارع الذي أقطن به , يملك دكانا لوالده قام بتحويله لمكان يقدم خدمة الإنترنت للمنطقة .. بضعة أجهزة الحاسب الآلي توفر ترفيها للفتية .. و بعض الوصلات للبيوت مقابل أسعار جيدة .. العلاقة بيني و بينه لا ترقى إلى درجة الصداقة و لكنه يوفر لي بعض الدخل عن طريق صيانة أجهزة الحاسب الآلي لديه أو لدى سكان المنطقة ممن يتعاملون معه .. " ماذا لدينا اليوم ؟ " لست ودودا كثيرا في الأحاديث .

قال و هو يبدو مشغولا " لدي حاسبان معطلان و لا أدري السبب "

لا يملك خبرة طفل في المجال و لا يريد .. فقلت له " حسنًا .. لدي عمل طاريء الآن و سأمر عليك عند عودتي " ... يجب ألا أبدو كشخص متوفر طوال الوقت كي لا أتعرض إلى الإستغلال ..

فقال حمدي " حسنا سأنتظرك .. أمر آخر .. يوجد جهاز معطل لأحد السكان عندما تمر سأرشدك إليهم "

أنهيت المكالمة و قد لفت انتباهي سيارة توقفت أمام المطعم المقابل لي .. خرج منها شاب و معه فتاتين جميلتين و دلفوا إلى المطعم .. فكرت قليلا ثم وضعت يدي في جيبي لأستكشف ما معي من مال .. فوجدت قرابة المئتين من الجنيهات .. فاتجهت صوب المطعم و أنا مطمئن أنني سأعوض ما سأفقده من مال بأعمال اليوم .. فما الضير لو استمتعت قليلا بالشعور بأني أحد هؤلاء .

كان المطعم شبه خالي من رواده , فاستطعت أن أنتقي طاولة قريبة من الشاب و الفتاتين .. جلست في الجهة الخلفية للشاب حيث أستطيع استراق النظر للفتاتين دون أن ينتبه الشاب لذلك .. فآخر ما أريده هو افتعال عراك مجهول النتيجة .. كنت استرق النظر غالبا للفتاة التي لا يجلس قبالتها .. ارتأيت ذلك من باب اللياقة ربما .. تصفحت قائمة الأصناف و أنا أعلم أن معظمها لم أتناوله قبلًا في حياتي .. و لكن حينها داعبت رأسي فكرة عن مدى وهم الإختيار .. لي الحق أن أختار في الظاهر .. و لكن في الحقيقة ما معي من مال هو ما يتحكم في اختياراتي لأي صنف بالقائمة .. عندها رفعت بصري إلى حيث تجلس الفتاة و تساءلت .. هل اخترت استراق النظر إليها من باب اللياقة حقا ؟ أم لأن الشاب الغني قد فضل صديقتها عليها ؟ لديه حرية الاختيار .. بينما أنا مجبر على المتاح .. و الأكثر ألما أنه يستطيع اختيار ما هو متاح لي ..هل هناك فتاة فقيرة سترفض شابا غنيا يرتقي بمستواها الاجتماعي ليجعل حياتها أكثر يسرًا و جمالًا و متعة ؟ لا أعتقد .. في النهاية من مثلي ينتظرون في نهاية الصف حتى يفرغ الأغنياء من اختياراتهم .. و لن ننال أكثر مما تركوا لنا .. أتساءل حقا كيف سيحكم بيننا الله يوم الحساب و ليس لدينا قدرات متساوية على الإختيار ؟! كيف سيحاسب شابا قد يستهلك حياته في رحايا العمل فقط ليتزوج و يكفل لأسرته الاحتياجات الأساسية ؟ و كيف سيحاسب شابا آخر لم تكن الاحتياجات الأساسية بالنسبة له مشكلة في يوم من أيام حياته ؟ ماذا لو كان الشاب الغني صالحا و لم يضطر يوما لفعل شيء مشين بدافع الحاجة .. بينما سقط الشاب الفقير في هوة الحرام رغبة في الارتقاء بحياته أو رغبة في الشعور أنه على قيد الحياة ؟ هل سيدخل الشاب الغني الجنة بينما يزج بالفقير في الجحيم ؟ .. لقد أرهقتني هذه الفكرة .. لم أنتبه أني قد أطلت النظر حتى انتبهت الفتاة الأخرى أني أنظر إلى صديقتها .. فمالت على أذنها و همست إليها فنظرت إليّ و على وجهها ابتسامة خفيفة بدت لي ساخرة ..و بدوره الشاب قد التفت إليّ و ليس ثمة رد فعل يبدو على ملامحه .. و لكني شعرت بحرارة الخجل تعلو وجهي و الاضطراب يتملكني .. فنهضت مسرعا لأغادر المطعم .. الفقير يرحل دائما .

.................................

حيواتنا تحتاج إلى صيانة أكثر من هذه الأجهزة .. تمنيت أن يكون لي القدرة على حذف ذكرياتي أو استعادة سنوات حياتي المهدورة لعلي أختار غير الذي اخترته .. لعلي أتجنب ما أصابني رغما عني.

انتهيت من صيانة أجهزة حمدي و أنا أفكر في الوجبة التي لم أتناولها .. كان يقال دائما أنه لا يلج إلى جوفك إلا ما هو مقسوم لك .. حتى الطعام ضمن قائمة الامتيازات القدرية للأثرياء .. تختفي صورة الطعام التي ألهي عقلي بها عن صورة الفتاة .. أشرد قليلا و أنا أستشعر وخز الخيبة بقلبي قبل أن ينتشلني حمدي بصوته من أفكاري : " هل انتهيت ؟ " فتنهدت و أنا أفحص عمل أحد الأجهزة و قلت " نعم .. و تبدو أنها عادت لتعمل بشكل جيد .. كان الخلل في فقد بعض ملفات نظام التشغيل "

قال حمدي : " الحمقى .. أخبرتهم مرارا ألا يعبثوا بمجلد النظام .. ملف صغير يوقف كل شيء عن العمل "

فقلت " لا تقلق لقد قمت بتشفير المجلد هذه المرة حتى لا يكون عرضة للعبث مرة أخرى "

فابتسم و هو يناولني مستحقاتي قائلًا " ممتن لذلك يا صديقي .. لا تنسى المرور على شقة الأستاذة لبنى لفحص جهازها .. يبدو أنها لا تستقبل الإنترنت .

فقلت متعجبا " و لما لم تذهب إليها .. ربما عيب بسيط بالتوصيل "

فسعل و كأنما أحرجه كلامي و قال " ربما كان عيبا بالجهاز..توفيرا للوقت ارتأيت أن تفحصه أنت "

لم يكن الأمر كذلك بالطبع .. و لكن لبنى قبيحة للدرجة التي تمنع أي شخص من رؤيتها بإرادته.. كانت قد ولدت بتشوه في عظام الوجه .. جعلها شخص لا يرغب أحد في معرفته .. البناية التي تقطن بها كانت مقابلة لي كالطابق نفسه.. لم أعرف لها أب أبدا .. لا شيء سوى أنها تعيل أمها العجوز المريضة .. لا أقرباء ولا أصدقاء.. أتذكر أنني كنت يوما عند نافذتي أتفقد بعيني عبثا الشارع عندما كانت عائدة من عملها وسط همهمات سخرية يتخللها ألفاظ جارحة مسموعة موجهة إليها ..كانت تمرق في سرعة محاولة تفادي هذا الألم الذي كان يبدو أنها تعانيه يوميا .. بالنسبة لي لم يكن أمرها يعنيني .. إلا أنني كنت أشفق عليها كونها إنسان مضطر أن يرى هذا المسخ يوميا في المرآة .. و الأسوأ أنها أنثى .. كان من الأفضل لو قتلتها أمها عند الولادة .. بدلا من أن تلقي بها في جحيم هذا العالم .. سيخبرونك بالطبع أنها لكبيرة و جرم شنيع أن تقتل روح صغيرة عند الولادة .. بدلًا من ذلك جعلوها تموت كل يوم .. يا لها من رحمة .

طرقت بابها و أنا أحمل حقيبة أدواتي ففتحت الباب على استحياء .. لم تكن تنظر إلى وجهي إلا خلسة فقد اعتادت على ما يبدو أن تكون مطرقة الرأس تفاديا أن تصطدم عيناها بنظرة تؤلمها .. كان البيت يبدو مرتبًا و نظيفًا و رائحته جيدة .. فتذكرت بيتي بحالته الرثة .. حقا للأنثى لمسات في البيت لا أستطيع أن أنكرها .. جلست إلى حاسبها الآلي الذي كان بصالة بيتها الصغير و أنا أقول " حسنًا .. أتمنى أن يكون جهازا لطيفا " .. كنت أحاول أن أتحدث بلطف .. فقالت " هل أحضر مشروبا ساخنًا أم باردًا ؟ لا تقلق كل شيء نظيف " .. يبدو أنها اعتادت على اشمئزاز الناس فتعمدت أن أبدو لطيفًا أكثر معها فقلت مبتسما " أنا متأكد أنك أكثر نظافة مني على أي حال .. سأشرب قدحا من الشاي بملعقتين من السكر " ... بدا لي أنها ابتسمت و هي متجهة إلى المطبخ .. و بدأت في العمل على حل مشكلة جهازها ريثما تعود . اكتشفت أن مشكلة الجهاز بسيطة فعملت على حلها سريعا .. و ما أن انتهيت حتى جاءني صوت سعال شديد من الغرفة المجاورة لي فأيقنت بالطبع أنها الأم المريضة .. فنهضت إليها عندما استشعرت تأخر لبنى عنها لأجدها في حالة إعياء بين .. و كان بجوار فراشها منضدة صغيرة عليها دورق للمياه و كوب فارغ .. فصببت لها قليلًا منه و سقيتها و قد دخلت علينا لبنى حاملة كوب الشاي و تعتذر مني على ما حدث فقلت لها " لا عليكي فهي كأمي .. أتمنى لها الشفاء العاجل " .. أعطتني الشاي و سارعت بإعطاء أمها بعض الدواء بينما انسحبت عائدًا إلى الصالة مرة أخرى و قد لحقت بي لبنى بعد لحظات .. فعاجلتها بالسؤال عن والدتها " كيف هي الآن ؟"

فقالت و هي تتصنع الابتسام " لقد هدأت قليلا و عادت إلى النوم " .

فتساءلت " مما تشكو والدتك ؟ "

فتنهدت و قد شعرت بمدى الألم في زفرتها " لديها سرطان بالدم "

فقلت في تعاطف " يا الله .. أتمنى لها الشفاء منه .. و لكن ألا توجد مستشفيات لعلاج هذا المرض ؟ "

فاطرقت رأسها من الأسف و قالت " بلى .. و لكننا على قوائم الإنتظار للعلاج المجاني .. سيقومون بالإتصال بي حتما إذا حل دورنا " ثم التفتت برأسها اتجاه غرفة والدتها و هي تستطرد " أصلي من أجلها طوال الوقت .. فهي كل ما لدي في هذا العالم "

شعرت بغصة في حلقي و تذكرت يوم أن حملت والدتي إلى مثواها الأخير بعدما كنت مجبرا على مشاهدة معاناتها مع المرض .. كان الألم يقتات على كلينا .. كان يعذبني هذا الشعور بالعجز .. و دفنتها كمن يدفن راحته ليحيط به ألم العالم و يبدأ في التهام روحه شيئا فشيئا حتى لا يبقى أثر لابتسامة بقلبه .. تصلي من أجلها ؟!

أتذكر أني قد قررت ذات ليلة أن أصلي طوال الليل من أجل والدتي .. سجدت كثيرا حتى دب الألم في جسدي .. و في الصباح كنت أضعها في التراب .. شعرت بمزيج من الحنق و الغضب و الألم .. و لم أستطع الدعاء مجددا من أجل شيء .. و لم أستطع تفسير ما حدث .. و لم أستطع التفكير مرة أخرى في أن الله لم يتقبل دعائي فقط .. بل عاقبني عليه بسلب روحها و سلبها مني .. شعرت بخذلان مؤلم .

" لن يخذلك الله .. أنا متأكد من ذلك " قلتها مبتسما و أنا أحاول أن أخفف عنها ..فابتسمت و هي تقول " أتمنى ذلك بشدة ... معذرة لم أسألك عن أجرك " فابتسمت قائلًا " لا عليكي فقد أخبرني حمدي بأنه يتحمل تكلفة المشكلة لأنها تخصه " ثم استأذنتها قبل أن أنصرف حاملا أدواتي .. و بعد أن أغلقت الباب خلفي استوقفني ما رأيت عند باب الشقة المقابلة .. السيدة المثيرة التي رأيتها عابرة خارج المسجد تتسلم بعد أكياس الفاكهة من صبي صغير يقول لها " لقد أرسلهم الحاج إليكي و يسألك إذا ما كنتِ تحتاجين شيئا آخر ؟ " فقالت " أدخل و ضعهم على المائدة " قالتها و هي تلتفت إليّ و ارتسمت على وجهها ابتسامة بينما تفحصت ردائها المنزلي الحريري اللامع الذي يلتف حول جسدها الممتليء المثير , و مساحيق التجميل على وجهها تزيدها فتنة .. تباطئت و أنا أعبر من أمامها بينما خرج الصبي فأسرعت قليلا .. و تناهى إلى مسامعي صوتها و هي تسأل الصبي عما إذا كان يعرفني .. و لكني لم أنتظر الإجابة و رحلت و قد شعرت بحرارة الشهوة تؤجج أوردتي .. فأشعلت سيجارة و قد قفلت عائدا إلى بيتي .

تناولت بعض الطعام و أنا أتصفح مواقع الشبكة العنكبوتية كالعادة و قد انتابتني رغبتي الملحة اليومية في التلصص على صفحة شخصية بعينها على أحد مواقع التواصل الإجتماعي , كندبة بصدري لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أتحسسها بين الفينة و الآخرى , و لا أستطيع أن أحدد هل أتحسس الندبة أم وغزها بقلبي .. و لا أستطيع أن أحدد هل ألمها مزعج أم ممتع .. أم ربما يذكرني بأنني على قيد الحياة .. فالموتى لا يتألمون . ( مي توفيق ... متزوجة ) وقع السهام و نزعهن أليم .... لطالما حلمت فيما مضى أن يكون هذا اللقب مقترنا بإسمي..

 " أنت تعلم أنني أحبكَ .. و لن أتزوج غيركَ في هذه الحياة و في الحياة الأخرى " ..

 كان صوتها يطرب قلبي أكثر من معاني كلماتها .. أدركت وقتها أنني قد سقطت فريسة للعشق ..

 " مي .. لم أعد تصور الحياة تمر على قلبي دون أن تسمع أذناي صوتك , أو دون أن ترى عيناي إبتساماتك العذبة .. و يداي اللتان أدمنتا لمس أناملك الرقيقة .. لم أكن أعلم أن الله قد يجعل جوارح إنسان تتعلق بجوارح آخر تعلقها بما يحييها و كأن الآخر لم يكن يوما من أهل الأرض .. أنتِ الآن روحي و نفسي .. و مهجتي و فؤادي .. رحيلك عني كرحيل الهواء عن رئتي "

كيف استطاعت نسياني و كلماتي !.. عندما رحلت عني دون وداع أصابني الجنون حتى علمت كيف أن صديق أخيها " ماجد " أعلن رغبته في الزواج منها .. ماجد الفتى الثري كانت بيننا معرفة سطحية .. سفيه و ماجن .. حياته امتلأت بالخمور و المخدرات و النساء .. و لكنه اصطدم بفتاة نقية أرادها لنفسه .. فاستل السلاح الأشهر .. لطالما غلب المال كل شيء ..

أتذكر كيف أسندت جسدي الخائر إلى أحد الأسوار و أنا أراها في الجهة المقابلة برداءها الأبيض في ليلة زفافها و هي تستقل سيارته بعدما لمحتني فأسدلت عينيها هربا من رؤيتي الأخيرة .. أتذكر أنه فطن لوجودي و أتذكر إبتسامته الساخرة و هي تقول " القدر لا يخدم الفقراء يا صديقي .. الثري ينال كل شيء .. و الفقير يرحل دائما ".

ماجد الماجن لم يكن سوى صورة من صور القدر القاسية .. ظهرت لتلتهم حلما بسيطا نبت في قلب شخص بسيط لم ينل من الدنيا فتات متعة واحدة من خزائن ماجد الذي نال كل شيء بيسر .. الحلال و الحرام طوع يمينه .. ظننتي بإلتزامي أستحق شيئا ما في هذه الحياة .. لم أكن لأطمع في أكثر من حياة عادية .. ظننتني أستحق ألا أُسلب كل شيء بهذه القسوة .. ظننت أن الرب عادل .

ألقيت نظرتي الأخيرة لهذه الليلة على صورتها التي تجمعها به .. إلتصاقها به , ابتسامتها , تشابك الأذرع .. فشعرت بحنق أكبر دفعني للنهوض إلى شرفتي التي لم أكن أعتاد الوقوف بها .. و لكني شعرت أنني بحاجة إلى التنفس .. أشعلت لفافة تبغ و أنا أتفحص المارة قبل أن يرتفع بصري إلى البناية المقابلة لأرى لبنى عبر شرفة والدتها المفتوحة و هي تجلس على سجادة صلاة صغيرة ممسكة بمصحف كبير تقرأ فيه .. شعرت بالرثاء لأجلها لأنني تذكرت أمي في مرضها , و لكن انتزعتني من أفكاري الشرفة المجاورة لها عندما فُتحت و ظهرت على أعتابها السيدة المثيرة في عباءتها المنزلية و تبرجها الذي تساءلت كيف تحتفظ به طوال الوقت على وجهها.. دارت بنظرها قليلا في الشارع قبل أن ترتفع ببصرها تجاهي لتراني , فأطالت النظر حتى خُيل إليّ أنها ابتسمت قبل أن تتراجع إلى غرفتها و تسدل ستارة الشرفة الشفافة التي لم تكن ذات فائدة إلا تقليل وضوح الرؤية قليلا .. لم أستطع أن أحيد ببصري عنها و يبو أنها كانت واثقة من هذا الأمر .. رأيتها تستخرج بعض أشياء من دولاب الملابس المواجه للشرفة لتلقي بها على الفراش لأتبين فيما بعد أنها قطع ملابس .. ثم تبدأ في نزع ملابسها عنها ببطء اندفعت معه الدماء في عروقي حتى شعرت بإرتعاشة تجتاح أطرافي .. أشعلت لفافة تبغ أخرى و أنا أراقب الجسد الممتليء بالنعم يهتز على بعد بضعة أمتار مني .. و هي تتباطأ في استبدال ملابسها و نبضي كطرقات مطرقة حداد يكاد ينفجر معه قلبي من شدته و قد تصببت جبهتي عرقا .. و ما أن انتهت حتى قامت بإماطة الستارة لتخرج إلى الشرفة ناظرة تجاهي و على شفتيها ابتسامة بدت لي كنشوة انتصار جعلتني أتراجع عابرا غرفتي إلى الحمام لأضع رأسي تحت الماء لعل حرارته تهدأ قبل أن أستلقي على فراشي محملقا في سقف غرفتي و الأفكار تعصف برأسي .. ما هذه المذلة التي أحياها و الاختيار حقيقة ليس بين الحرام و الحلال .. الاختيار بين الحرام و بين المعاناة .. لاخترت الحلال لو كان متاحا لي .. لو أن القدر لا يعمل بجهد ضدي .. و رغم ذلك أنا على صمودي قائمًا منتظرًا أن تحدث المعجزة .. و خلال الإنتظار في كياني أسئلة تتردد .. هل ما تعلمناه حق ؟ .. هل هناك ثواب و عقاب و خير و شر ؟ .. هل ستحدث المعجزة و تتم مكافئتي على صمودي ؟ أم جل ما أفعله هو قتل نفسي ببطء ؟ إلى متى سأظل على هامش الحياة لا تنطبق عليّ صفات الأحياء و لا صفات الموتى .. كالمحتضر تربطه بالحياة أجهزة الإنعاش .. و في الغالب ستنقطع هذه الصلة البائسة ليغادر في النهاية .

قطع أفكاري رنين هاتفي لأتفاجأ بظهور إسم صديق قديم كان قد غادر البلاد منذ سنوات و لم نعد على تواصل كما كنا " أمير !! يالها من مفاجأة غير متوقعة .. متى عدت ؟ "

جاءني صوته الذي لم يبد مرحا " جئت اليوم صباحًا لبضعة أيام قبل أن أعود مرة أخرى "

فقلت " لم أعد على علم بعطلاتك منذ فترة طويلة .. فلمن أدين بهذا الإتصال ؟ "

فقال في جدية " أليس لديك فكرة ؟! .. إنه حسن فاضل "

فتسائلت بقلق " ماذا به ؟! "

فقال " لقد مات ... منتحرًا " .

******************

الفصل الثاني

بين الفينة و الأخرى يذكرك الموت بوجوده بإقتلاع أحدهم من الحياة .. و لكنني لست واثقا من أنني أفهم الرسالة .. هل الحياة قصيرة جدا كي نهدرها فنستمتع بها .. أم هي قصيرة جدا كي نعبأ بها فنعتزلها إلى العبادة ؟... و الأكثر إزعاجا هو شأن المنتحرين .. لم أعد واثقا من مصائرهم .. لم أعد واثقا من مصير أي شيء.

وصلت باكرًا إلى سرادق العزاء في مساء اليوم التالي و جلست وسط عاصفة من الأفكار المرهقة و أنا أتذكر حسن .. كان شابًا طيبًا لين الكلام محبًا للحياة .. كانت لديه خطط كثيرة للمستقبل شأننا جميعا درس علم هندسة الإنشاءات و أصبح مهندسًا رائعًا في إحدى الشركات الكبرى .. كانت آخر لقاءاتنا يوم زفافه منذ عامين .. لم يستطع أمير الحضور وقتها و لكنني و رابعنا رشيد كنا بجانبه .. كانت ليلة رائعة و قد بدا سعيدًا جدًا ..انقطع التواصل سريعا و لكني كنت ألتمس له العذر .. فبين الحياة الأسرية و العمل قليل من يستطع إيجاد وقت متوفر للأصدقاء .. و لكني لم أستطع التخلص من الشعور بالصدمة من خبر إنتحاره .. و لم أتخيل سببًا واحدًا يدفعه إلى هذا الأمر .. و تسائلت لماذا لم يلجأ إلى أحدنا نحن أصدقائه ..

وصل أمير و رشيد و قد بدا كلاهما و هما يسيران معا كمشهد غير متناسق .. فأمير صاحب الهيئة الأوروبية المتكاملة في الشكل و الحجم و الملبس حتى تصفيفة الشعر يسير بجواره رشيد بهيئته البسيطة المتواضعة و قد بدا أنه اكتسب وزنا منذ رأيته آخر مرة بحفل زفاف حسن .. و رغم ذلك كان رشيد دائما أكثرنا علما و عقلانية .. محب للقراءة و الإطلاع حتى أنه انهمك في مهنة التدريس و قد اقترن بإحدى المعلمات و أنجب منها طفلين رائعين ..

تعانقنا جميعا و جلسنا متجاورين قبل أن أقول لرشيد " عجيب أن آخر إجتماعي بك كان في حفل زفاف حسن .. اليوم نجتمع مرة أخرى في موته "

فربت رشيد على يدي و هو يقول " هذه هي الدنيا .. نلتقي و نفترق و قد نلتقي مرة أخرى أو نفترق إلى الأبد .. لا أحد يعلم الغيب "

فأطلقت زفرة حارة و أنا أقول " كيف وصل إلى هذا الحد الذي يجعله ينهي حياته و كيف لا أعلم أي شيء عنه طوال هذه المدة ؟ .. كنت أعتقد أنه قد انهمك في حياته الزوجية و العملية "

فقال أمير " كنا نتبادل الرسائل الألكترونية من آن إلى آخر و لكنه قد امتنع عن الظهور منذ فترة .. و لم ألق بالا للأمر .. حتى مساء أول أمس عندما راسلني أخو حسين و أخبرني بما حدث .. لقد ألقى بنفسه من فوق إحدى البنايات التي لا تزال تحت الإنشاء .. على مايبدو أنها بموقع يعمل به .. كان الوقت ليلا و لم يكن أحد متواجد هناك سوى حارس الموقع الذي أبلغ عن الحادث "

فسألته " ألم يخبرك حسين بأسباب ما حدث ؟ "

فقال أمير " لم أرد أن أشق عليه بالحديث و قد بدا من الأفضل تأجيله حتى ألتقي به "

قال رشيد في أسف " نقرأ و نسمع عن حوادث كهذه و لكنني لم أتوقع أن تصيب أحدنا .. أسأل الله أن يغفر له هذا الأمر "

ساد الصمت بيننا عندما بدأ المقريء في قراءة آيات القرآن لدقائق قبل أن ألمح حسين على مقربة من سرادق العزاء يقف مطأطئ الرأس يكسوه الحزن , فنهضت إليه و تبعني صديقاي ثم شددنا على ساعده نعزيه في مصابه في أخيه الأكبر و قد كانت عيناه شديدة الإحمرار من أثر البكاء , ثم بادرته بالسؤال " حسين , أعلم أنه ليس بالوقت المناسب .. و لكن ما الذي قد يدفع حسن إلى ذلك ؟ .. لا أخفيك أمرا , نحن في حيرة من أمرنا "

صمت قليلا و كان يهز رأسه في حيرة قبل أن يقول " أنا لا أعلم حقيقة سبب يدفعه لذلك سوى .."

صمت و قد بدا غير متأكد من السبب إلا أن أمير سأله " سوى ماذا ؟ "

فاستطرد حسين " أتذكرون تعرض حسن لحادث سيارة عندما كانا صغارا ؟ .. يبدو أن الحادث قد ترك لديه خللا في مقدرته الجنسية .. لم يكتشف الأمر سوى بعد الزواج و لم يصرح لأحد سواي .. كان على مدار العامين الماضيين يطرق كل أبواب الأطباء في محاولة لعلاج هذا الأمر .. و لكنه كان مؤمنا بأن الله لا يمكن أن يتركه هكذا .. و لكنه منذ أن قام برحلته الأخيرة إلى ألمانيا لعمل بعض التحاليل الطبية ,عاد بعد بضعة أشهر مختلفا .. كان ممتلئا بالبؤس و لم يخبر أحدا أبدا عما حدث هناك .. يصمت معظم الوقت منغلقا على ذاته و لا يخرج إلا للعمل .. بعض زملائه تحدثوا إليّ عن سجيته التي تغيرت .. أصبح شديد الإنفعال وكثير الصمت و الشرود .. كنت أفكر مرارا في إجباره على عرض نفسه على طبيب نفسي .. و لكني كنت أنتظر وقتا مناسبا للحديث في هذا الأمر .. و ليتني لم أنتظر ... ليتني لم ... "

و بدأت الدموع تترقرق من عينيه فربت رشيد على كتفه و هو يقول " ليس لك أي ذنب في هذا الأمر .. لقد كان مقدرا له أن يحدث .. " ثم نظر رشيد تجاهي و علمت من نظرته أنه ود أن يلقي الذنب على حسن نفسه .. و لكنه لم يشأ أن يؤلم أخيه بهكذا كلمات . لم يلبث أن رفع حسين رأسه ناظرا تجاهي و هو يمسح عينيه من الدموع قبل أن يدس يده في جيبه و يخرج مظروفا صغيرا و هو يقول لي " لقد توقعت قدومك الليلة فارتأيت أن أحضر لك هذا المظروف ... لقد وجدته فوق مكتبه و قد خط عليه اسمك مشددا أن يتم تسليمك إياه "

غمرتني حالة من الدهشة شملت صديقيّ أيضا و أنا أتناول المظروف و تحسسته فاستشعرت ذاكرة رقمية بداخله .. أعرف ملمسها جيدا فهذا عملي .. دسست المظروف في جيبي بينما ربت رشيد على كتف حسين قائلا " لابد أن تتماسك من أجل الجميع .. سنصلي جميعا من أجل حسن دائما و لن ننساه" . إنتابني شعور سيء مختلط بحزن عميق و حنق على الحياة .. لا أعلم إن كان حسن قد تخلص مما أحزنه بإنهاء حياته .. أم أنه ألقى بنفسه في كارثة أبدية .. شعرت بأنني أفتقده حقًا و تسائلت لِم لَم يلجأ إليّ مادام كان في إمكانه أن يترك لي شيئا ؟! . " و أنّا لا ندري أشرٌ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا " قالها المقريء .

*************

كل الذكريات مؤلمة في النهاية .. سعيدة أو حزينة .. ما دامت ذكرى فستجلب على روحك الألم .. الفقد و الإفتقاد لا يهنأ بهما إنسان .. و لا يتخلص منهما أبدا .. حتى يفقد روحه.

سار ثلاثتنا في أحد الشوارع الرئيسية و نحن نستعيد ذكرياتنا معا نبتسم تارة و نتجهم تارة من فكرة أن حسن لم يعد له وجودا في هذه الحياة فقال رشيد " أتمنى أن يغفر الله له ما حدث "

فصاح أمير متأففا " هلا توقفت عن قول هذا ؟.. من فضلك ؟ "

فتعجب رشيد من رد فعل أمير – و قد نالت مني الدهشة أيضا - و تساءل " أتوقف عن قول ماذا ؟ "

فقال أمير " هل تعتقد فعلا أن الله يعبأ به كي يستجيب لدعاءك هذا ؟ "

فقال رشيد و قد بدا عليه شيء من الذهول " قل لا يعبأ بكم ربي لولا دعائكم "

فارتسمت على شفتي أمير ابتسامة ساخرة و هو يقول " حقًا !! كم من دعاء لم يتم استجابته "

فقال رشيد " و يدعو الإنسان بالشر دعاؤه بالخير و كان الإنسان عجولا "

فعاجله أمير بقوله " و قال أيضا ادعوني أستجب لكم .. أليس كذلك ؟ "

فتنهد رشيد و هو يقول " أمير !! .. ماذا تريد أن تقول ؟ "

فقال أمير " أعتقد أننا نهدر وقتنا بالدعاء .. أنت تؤمن بأن الله موجود .. و أنه قد رسم كل الأقدار .. و أنه لن يحقق من دعائك إلا ما يريد و ما قام بتقديره عليك سلفًا لأنه بالطبع يريد لك الخير .. فلمَ يحتاج إلى دعائك ؟ .. إن كان موجودا فهذا نوع من الإذلال لا أكثر "

فردد رشيد بصوت خافت " إن كان موجودا ؟!! "

و ساد الصمت للحظات و قد التزمت الصمت المحايد و لا أنكر أنني قد وجدت في نفسي ميلًا لكلمات أمير .. و لكني كما اعتدت قليل البوح بمكنونات صدري . استطرد رشيد و قد علت وجهه حمرة غضب مكتوم " مهلا مهلا .. لا يمكننا أن نخوض هذا النقاش حتى .. ليس هذا ما عهدناه , لقد اعتدنا على الصلاة سويا أتذكر ؟ .. هل قاموا بتشكيكك في الله ؟ هل الحياة الغربية قوية إلى هذه الدرجة ؟ "

اقترب منه أمير مبتسما و ربت على كتفه و هو يقول في هدوء " لا داعي لهذا النقاش السيء .. لم أقطع هذه المسافة كلها كي أتشاجر مع أحد .. هيا .. لنذهب لنحتسي شيئا ما "

فتنهد رشيد و هو ينظر إلى ساعته " لا .. لا أستطيع أن أرافقكما فلدي عمل بالصباح الباكر .. متى تسافر من جديد ؟ "

فقال أمير " ربما أمكث عدة أيام فقد أستغل هذه الفرصة للقيام ببعض الأمور و الزيارات العائلية "

فابتسم رشيد و هو يقول " إذن سأراكما لاحقا .. "

صافحناه قبل أن يتركنا و قد توجهنا إلى مقهى سياحي قريب من وسط المدينة .. و بعد أن جلسنا قال لي أمير و في عينيه نظرة غريبة " يبدو أنك تتفق معي فيما يخص نقاشي مع رشيد "

فنظرت إليه بدهشة و أنا أقول " و لكنني لم أنبث ببنت شفة "

فأومأ برأسه و قال " و لم تعترض أيضا .."

فقلت " و ماذا في ذلك ؟ "

فقال " لم يلتق بعضنا بعضا حديثا .. لدينا تاريخ من السنوات و يعرف كل منا الآخر جيدا و يعرف ردود أفعاله .. كنت لتثور مثله مدافعًا "

فابتسمت قبل أن أقول " يبدو أن رشيد هو وحده الثابت الذي لم يتغير ... من منا كان ليعتقد أن أحدنا سينتحر مثلا ؟ "

أطرق أمير رأسه و تنهد و هو يقول " لقد أحزنني الأمر ..و لكن ماذا كان بيدنا لنفعله ؟! .. لقد اتخذ قراره منفردًا و علينا أن نحترم ذلك الآن "

أشعلنا لفافتين من التبغ الخاص به و استطرد و هو ينفث الدخان " لم تخبرني .. ما رأيك في النقاش؟"

فقلت " في الحقيقة خاب ظني .. كنت بدأت أستمتع بما يدور و لكنك تراجعت "

فضحك عاليا قبل أن يقول " صديقي العزيز .. لا توجد متعة في نقاش تعقبه خسارة لصديق .. لقد أثرت هذه الجدال و لكنني رأيت في عينيّ رشيد هذه الجمود الذي لن ينهار قبل أن تنهار علاقتنا .. فآثرت أن أحافظ على العلاقة .. و لكنني رأيت أنك متفق معي و هذه ما أراه الآن في عينيك "

فضحكت قبل أن اقول " لا شيء من هذا .. أنت متوهم .. أنا فقط أصبحت أنأى بنفسي عن الجدال العقيم .. عقلي لم يعد يحتمل .. بالكاد يحتمل يومي الروتيني المتكرر "

فقال " أستطيع أن أرى طبقات البؤس على وجهك .. و لكنك لا تحب الحديث كثيرًا "

فقلت " الحديث و الشكوى غير مجدية .. لا أحب أن يرى غيري شكواي كوسيلة لطلب المساعدة فأضع نفسي في موقفٍ مخز "

فنظر إليّ متعجبا و قال " لقد أصبحت شديد الحساسية يا فتى ... منذ متى و هذه الحدود بيننا ؟ "

فارتسمت على شفتي نصف ابتسامة و أنا أقاوم شعور الحزن في داخلي و أقول " لقد أخبرتك سالفا .. من منا لم يتغير .. "

قال أمير " الأمر الواضح يا صديقي أنك تعاني من الوحدة .. من الطبيعي أنك تتخبط في كل هذا الإكتئاب "

فتصنعت ابتسامة و أنا أقول " و ماذا علي أن أفعل ؟ الأمر ليس سلسا مطلقا "

فقال " هل المستوى المادي مترنح ؟ "

فقلت ساخرا " بل كشخص في غيبوبة طويلة الأمد .. لا تستطيع أن تدعوه حيًا أو ميتًا "

فضحك قبل أن أستطرد " علاوة على ذلك , فلم تعد مجالات التعارف متاحة بالنسبة لي .. على ما يبدو أنني فزت في النهاية بمقعد في موقع ممتاز على هامش الحياة .. رؤية الأحياء تبدو واضحة تماما .. يا لي من محظوظ " .

ضاقت حدقتا عينيه و هو ينظر إلي و ينفث دخان تبغه و على شفتيه ابتسامة غريبة للحظات من الصمت قبل أن يقول " إسمع .. سأمنحك عطلة من هذا الهامش لعدة ايام تبدأ من الليلة "

فتسائلت متعجبا " ماذا تقصد ؟ "

فقال " كنت على تواصل مع أصدقاء لي هنا .. و قد اتفقنا على أن نلتقي .. سنقضي وقتا مرحًا لعدة أيام قبل أن أعود إلى الخارج .. ستفيدك بعض الرفقة يا صديقي "

فترددت قليلا و أنا أقول " و لكن ... "

فقاطعني قائلا " سأتولى كل شيء .. لا عليك سوى أن تستمتع كما تشاء .. ربما توطدت العلاقات بينك و بينهم و من ثم تجد تغيرا كبيرًا في حياتك "

لم أجب عليه سوى بابتسامة يشوبها القلق , فأنا لم أكن بارعا تماما في إقامة صداقات جديدة .. لا أعلم يقينا السبب في هذا الأمر .. ربما سئمت من البشر ... ربما لم تعد لدي طاقة تلائم هذا الأمر .. أو ربما قد هزمني الحزن فلم أعد ملائما لعلاقة .. و لا أتخيل أن يهدر أحدهم وقته مع شخص مثلي لا يقدم سوى الصمت أو الواقع المرير .. و لكن على أي حال لم يكن هناك ضرر من التجربة .. ربما استطعت إفراغ بعض الطاقة السلبية المختزنة خفية فأجد بعض الراحة و القوة لمواصلة الحياة ..

*****************

 وصلت إحدى السيارات الفارهة حيث نجلس و قام أمير إلى السائق الذي ناوله بعض الأوراق لتوقيعها , فأدركت أن أمير قد قام بإستئجارها فترة مكوثه بالبلد , و ما أنهى معاملاته حتى أشار إليّ بالنهوض لنتوجه إلى الشقة المفروشة التي استئجرها .. انتابني شعور غريب حال جلوسي بالسيارة .. شردت لدقائق و أنا انظر عبر زجاجها .. لم تكن مشاهدة الشاوارع ذات تأثير يذكر , بل مشاهدتها من داخل سيارة كهذي .. رؤية السائرين و راكبي المواصلات العامة و السيارات المتواضعة .. رؤية نظراتهم موجهة إليك .. بالأمس كنت على الجانب الآخر .. ارتسمت على شفتاي ابتاسمة لا إرادية لم تخلو من وغز ألم العجز .. مجرد تجربة ستنتهي .. فنهرت نفسي فلما لا أستمتع فقط دون التفكير في النهاية .. نعم , سأكون على الجانب الآخر مؤقتا .. و لكنني لاحظت فجأة ما أرتديه من ملابس متواضعه .. لم أكن على علم بما ستؤول إليه أحداث الليلة .. فشعرت بحرج بالغ و أنا أرتب أمري و تحسست جيبي لأطمئن على المظروف .. لم يسألني أحد من صديقاي عما يحتويه .. ربما لأن أمير اعتاد على الحياة الغربية الخالية من التدخل في شئوون الآخرين .. و ربما لأن رشيد من طباعه عدم الخوض فيما لا يعنيه .. أو ربما اعتقد كلاهما أنه أمر شديد الخصوصية بيني و بين حسن لا يحق لأحد أن يهتك ستره .. أما عني , فقد كان الفضول يصول و يجول بداخلي .. و لكن ما يقف بيني و بين كشف ما تحتويه الذاكرة الرقمية هو أن حسن لم يوجه المظروف لأحد سواي .. فهذا يعني أن أحدا لا ينبغي أن يعرف محتواه غيري .. فآثرت أن أفضه حال عودتي إلى شقتي .

وصلنا إلى شقة أمير التي أبهرتني رغم بساطتها .. فهي أفضل من جدراني الرطبة المتلاصقة بروائحها العطنة .. لاحظت بعض الفوضى الحديثة و حقائب السفر المفتوحة ولاتزال بعض الملابس و الأشياء بها ..

" تعامل بحرية كما تشاء .. يوجد طعام ما بالمطبخ و بعض المشروبات بالمبرد .. سأغتسل سريعا إستعدادا لسهرة الليلة " قالها أمير مبتسما قبل أن يتركني أتجول في الشقة قليلا أتحسس الأثاث و المفروشات و في داخلي أتسائل كيف كان سيبدو الأمر لو كنت " أميرا " , أنفق كما أشاء و أحيى في مستوى كهذا .. ألقيت نظرة من الشرفة إلى المحيط الراقي .. الشارع النظيف الواسع المحفوف بالأشجار .. ماذا كانت ستبدو حياتي لو اعتدت هذا المشهد ؟! .. تسرب إلى داخلي بعض الحنق يتبعه تساؤلي .. لماذا لم يمنحني الله حياة قريبة من هذه الحياة ؟ , لم أستطع أن أصبح كرشيد و أتخذ مكاني في قطار الحياة الذي يوصلك لمحطة تلو الأخرى من ثبات وظيفي لزواج لإنجاب لتربية و هكذا .. كل مرحلة تصل إليها هي عدة مهام و مسئوليات و نتائج .. حتى الموت ... و لم أستطع أن أصبح كأمير .. كثير من المتعة قليل من المسئوليات ... ماذا أفعل تحديدًا في هذا العالم ؟ .

قررت الدخول إلى المطبخ فوجدت بعض اللحم المشوي في إناء يحمل علامة مطعم مشهور .. تناولت قطعتين على عجل رغم أنني تمنيت أن أستمتع بهذا المذاق على مهل .. و لكن إدعاء الشبع ليس بالأمر الهين .. كل هذا الكم من الشعور بالحرج ينهكني فعلًا ... وجدت بعض زجاجات الخمور و المشروبات الغازية بالمبرد .. تناولت إحدى زجاجات الخمور و تفحصتها قليلا .. و تسائلت لماذا لم أقم بتجربتها حتى الآن .. لقد تربيت و أنا أسمع عن كارثية الخمر .. و لكني رأيت الكثيرين يتناولوها .. ربما في النهاية الناس صنفان ؛ خائف و شجاع , خاضع و متمرد .. و بالطبع تناولت المشروب الغازي و أنا ألقي نظرة على غرفة النوم .. لمحت بعض الملابس الداخلية النسائية ملقاة على الأرض , بعض زجاجات الخمور الفارغة و المحارم الورقية المستخدمة و آثار أعشاب مخدرة .. لا يضيع أمير وقته في الإستمتاع حتى في ظرف كموت صديقه ..

دلف أمير إلى الغرفة عارٍ إلا من منشفة كبيرة تحيط بخصره و هو يقول مبتسما " ها أنت ذا .. لا داعي بالطبع إلى الإعتذار عن هذه الفوضى .. حياة الأعزب كما تعلم .. هيا يا صديقي إلتقط لك ملابس مريحة لسهرة الليلة "

صمت قليلا و أنا أشعر بالحرج قبل أن أقول بتردد " هل تعلم .. ربما علي أن أؤجل فكرة السهر الليلة .. الأمر يبدو مفاجئا لي و أنا غير مستعد نفسيا لهذا الأمر و خاصة ..... لقد كنا لتونا في سرادق عزاء رفيق لنا "

ضاقت عيناه كعادته و كأنه يخترق دواخلي قبل أن يقول " لا يمكنني أن أسمح لك بإنهاء هذا الليلة بين جدرانك .. هل تظن أنني لست حزينا من أجل حسن ؟ .. بربك !! .. و لكنني تعلمت أن أتحرك خارج حالة الحزن سريعا قبل أن يتمكن من نفسي فيدمرها ..و هذا ما لا أستطيع أن أسمح لك به .. رشيد لديه أسرة و عمل و على الأرجح هو في سبات عميق الآن .. لكن أنا و أنت من لدينا ؟ .. الليل .. لنحظى ببعض المرح .. و أرجوك ... لا داعي لأن تشعر بالحرج مني .. لقد نشأنا معا تقريبا .. لدينا تاريخ من الكوارث .."

ضحكنا قبل أن يشير إلى دولابه ثم حقيبته و يستطرد " اختر ما يناسبك من الدولاب أو الحقيبة و تصرف كما تشاء .. اندمج يا صديقي في الحياة و غادر عالم الموتى "

ربت على كتفي ثم ذهب ليلتقط شيئا من حقيبته الملقاة خارج غرفته .. بينما هممت أن أفتح دولابه عندما لاحظت إطار صورة ملقى على الدولاب و يكاد يسقط عن الحافة الجانبية , فمددت يدي لأزحزحه إلى الداخل عندما لمحت كلمتين داخل الإطار .. "متاع الغرور " .

*****************

لطالما كان الليل شديد الكآبة بالنسبة لي .. كل الأشباح تزور مخيلتي .. كل الآلام تقتات على روحي .. كل الرغبات تثور ناشدة الإنفجار ..تساءلت لو استطعت أن أحظى بليلة أكن فيها غير الذي خلقت عليه .

ولجنا إلى أحد الملاهي الليلية الشبابية المنعزلة و المطلة على نهر النيل وقد كان في إنتظارنا مجموعة من الشباب و الفتيات عند أحد الأركان , جلسنا إليهم بعد أن قام أمير بتقديمي إليهم و تقديمهم إلي ؛ جوبي سنو , و يكفي أن تنظر إليه لتدرك أنه شاذ جنسيا و كان يلتصق بصديقه كريزي كريس , و بجوارهما إيمي زين بتبرجها السافر و قد جلس بجوارها أمير و قد بدوا كصديقين حميمين بقبلتيهما الشفهية السريعة .. و بالقرب جلست منهمكة في مطالعة هاتفها ,دانيا علوان شديدة التأنق و الجمال و التي جلست بجوارها و قد كانوا مرحبين بي كثيرا و كأنها ليست المقابلة الأولى لنا . أدركت أن الأسماء كانت مستعارة إلا اسمي الفتاتين , و بعد الأحاديث الإفتتاحية عني , خيّم جو مختلط من الموسيقى الغربية و الدخان و الأضواء الحمراء و الزرقاء , إندمجا فيها الشابان و يتجرعان الخمر و الحشيشة حتى نهضا للرقص , تبعاهما أمير و إيمي ليختفيا وسط الحشد الراقص على منصة الملهى .. جالت عيناي بين الأجساد المتلوّية على أنغام الموسيقى .. الوجوه بشفاهها العطشى .. العيون بنظراتها الداعية .. خصلات الشعر التي تخفق كشعر الجياد المارقة .. الخِصار , السيقان , الأجزاء العارية , الإهتزازات ... كل هذه الطاقات المشتعلة بجانب كياني المتجمد كصخور باردة في جوفها بركان يستعر , كلما اضطرب بدا ذلك في ارتعاش أطرافي .. و عيناي منبهرتان . بينما كانت عينا دانيا تخترقان نفسي عبر عينيّ كنت أحاول الهروب من رغبتي الشديدة في النظر إليها .. سحبت دخانا من لفافتها بينما عيناي تتابعان شفتيها قبل أن تنفس دخانها تجاهي كسهم اخترقني فشعرت برعشة خفيفة سرت في نفسي .. فارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة و كأنها أدركت تماما أنها قد ظفرت بجولتها الأولى بميدان نفسي .. سعلتُ قليلا و أنا أتلفت بحثا عن منفذ للهواء حتى سقطت عيني على شرفة خلفية تطل على النيل مباشرة فبادرتُ الفتاة بابتسامة معذرة قبل أن أنهض للشرفة الممتدة بطول الملهى كممر و متنفس لبعض الفتيان و الفتايات و اختليت بركن منها و أشعلت إحدى سجائري و أنا أحاول السيطرة على اضطرابات نفسي التي لم تجد بدا من الاضطراب الذي رفض مغادرتها بعد أن ربتت تلك الأنامل على إحدى كتفي و صاحبتها تقول " ألم يعجبك ملهانا المعتاد ؟ "

نظرت قليلا إلى دانيا كمن لم يجد مهرب مما أحاط به فابتسمت قليلا و قلت " لا .. يبدو مكانا لطيفا ..و لكنني لم أعتد فقط على الضوضاء "

فأومأت برأسها و هي تنفس الدخان من بين شفتيها الجذابتين قبل أن تقول " الضوضاء تعني الحياة .. و الصمت سمة الموت .. هل تحيا بين المقابر ؟ "

فأطلقت ضحكة قصيرة بلهاء و أنا أقول " أنا ؟! .. لا بالعكس فأنا أقطن في أحد الأحياء الشعبية "

قالت و على شفتيها ابتسامة غامضة " ربما المشكلة بين جدران بيتك لا خارجها .. أنت تحيا وحيدًا , أليس كذلك ؟

فأومأت برأسي إيجابا فاستطردت " و الوحيد يلزمه الصمت و السكون .. كالموت .. تراه في كل شيء ساكن بين جدران بيتك .. إلا إذا اخترت أن تجابه كل هذا بالحياة .. كما ترى حولك .. أنا أيضا أحيا وحدي معظم الوقت .. و لكنني اخترت الحياة مثلي مثل هؤلاء الذين تراهم .. أطلق ما داخلك من طاقة تقتات عليك لأنك تسجنها في كيانك "

أطرقت رأسي لحظات و قد عقدت حاجبي قبل أن أقول لها محاولا إنكار ما تقول " تقتات علي ّ .. من أين لكي ما تقولين عني ؟ "

ضاقت حدقتا عينيها و كأنها أم تدحض كذبات صغيرها و قالت " تخفي في نفسك ما تبديه عيناك .. لا تجيد فن الإخفاء يا صديقي .. و لا تريد أن أقرأك بصوت عالٍ أليس كذلك ؟ "

شعرت ببعض الحمرة تعلو وجنتي و كأنني قد فقدت ردائي أمامها , و الأسوء أني قد شعرت أنها على حق تماما و لا مجال لي في تحديها .. و لكنها ما أن رأت ما على وجهي حتى أطلقت ضحكة عالية و هي تلكم صدري بلكمة خفيفة و تقول " يا لك من مسكين !! .. أنت بالفعل تبدو كطفل بريء زجوا به في ساحة قتال بين المحاربين .. لا داعي لأن تشعر بالخجل .. لكل شخص خطواته الأولى و لو خطاها متأخرا "

فابتسمت دون أن أتحدث بينما هي استطردت بعد أن حدجتني بنظرتها الفاحصة " دعني أتولى المسألة "

فنظرت إليها متعجبا و أنا أردد " المسألة ؟! .. أية مسألة ؟ "

فمطت شفتيها قبل أن تقول " ماذا !! .. سأكون معلمتك أو طبيبتك أو كما تريد أن تعتبرني .. لأخطو بك للحياة كما ينبغي أن تحياها "

فتنهدت قبل أن أقول " دانيا .. لا يجب عليك أي شيء .. فأنا .. لا أريد هذه الحياة .. لا تناسبني على أي حال .. لن أستطيع الإنخراط فيها بعد مغادرة أمير البلاد .. حقيقة ً فأنا لا أملك ما يجعلني أستمتع "

نظرتُ تجاه الراقصين على منصة الملهى و استطردت " هؤلاء لديهم وقود المتعة .. مال بلا جهد .. بينما من مثلي يبذل جهده ليجد وقود جسده فقط "

فقالت في استنكار" وقود جسدك ؟! و هل نجحت في إشباعه ؟ و ماذا عن روحك ؟ هل وجدت لإشباعها سبيلا ؟ .. ماذا تنتظر ؟ "

فوليت وجهي شطر النهر و قد انتابني الضيق و أنا أردد بصوت خفيض " الله ... ليقول شيئا حول كل هذا "

 و ساد الصمت للحظات قبل أن تمسك دانيا بيدي و تجذبني متجهة إلى داخل الملهى فتساءلت " إلى أين تأخذينني ؟ "

فقالت مبتسمة " لبعض الحياة "

فاستسلمت لها و لاحظت فور عودتنا للداخل أن أمير كان ينظر اتجاهنا و هو يرقص مع إيمي .. و ارتسمت على وجهه ابتسامة و هو يرى دانيا تجذبني لمنصة الرقص بالقرب منهم فصاح " مرحى مرحى يا صديقي .. أخيرا نجح شخص ما في جذبك " .

فصاحت دانيا فيه مازحة " شخص ما ؟ّ! .. لستُ كأي شخص فاحذر ما تتفوه به "

فرفع يديه مستسلما و هو يعود للرقص على الموسيقى الدائرة ذات الإيقاع السريع .. كنت لا أعلم عن كيفية الرقص شيئا .. و لكنني رقصت و قفزت و درت حول نفسي .. كنواة وسط مدارات الدخان و عبق العطور المختلطة .. و كلما انتابني الإجهاد انفجرت طاقة أخرى بداخلي فأرقص و أرقص .. ضحكت على لا شيء .. شعرت بأنني سعيد و أنني حي .. و كأن منصة الرقص بكل هذه الطاقات عليها قد صبت جام طاقاتها في داخلي و عبرت من خلالي .. حتى صاح منسق الموسيقى بأنه سيعطي الراقصين فرصة لإلتقاط أنفاسهم بموسيقى راقصة ذات إيقاع بطيء رومانسي ..

كدت أعود وقتها للجلوس فأمسكت دانيا بيدي قائلة " هل تعبت ؟ "

فبادلتها نظرة صامتة رسمت ابتسامة على شفاهنا قبل أن أقترب منها قائلا " ظننت أنني قد أتجاوز الحد ؟ "

فوضعت ذراعي الأيسر حول خصرها و يمنانا متشابكتان و قالت و قد اقتربت بوجهها من وجهي " الليلة لاكتشاف ذاتك .. لك أن تتجاوز كما شئت "

إقشعر جسدي من طيب رائحتها و لهيب أنفاسها على وجهي ... و عينيها المسلطتان على روحي و لم أنبث ببنت شفة ... تركت نفسي للتمايل معها على أنغام الموسيقى الهادئة و قد اختفى العالم من حولي .. و لم أعد أرى سوى دانيا .. بين ذراعيّ نرقص .. ربما كنت على يقين بأننا سنعود غرباء قريبا .. و لكنني للمرة الأولى بدأت أن أنفض عن عقلي التفكير في ما يزول .. سأستمتع بهذا الوقت حتى لو كان عمره ليس أكثر من دقيقة .. حتى لو مجرد حلم سأفيق منه على واقعي الخانق الأليم .. سأستمتع بالحلم .. إنخفضت نظراتي عن عينيها إلى شفتيها .. و قد شبكت بين أصابع كفيها حول عنقي .. شعرت بخفقان قلبي يزداد و ظننت أنها قد سمعته .. و ابتسمَت و كأنها قرأتني .. فاقتربت و قبلتني من شفتي على حين غفلة قبلةً استمرت للحظات سرت عبر جسدي كطاقة من نار .. تشققت صخور قلبي و ارتعدت أطرافي و كأنها قبلة أعادت لنفسي الحياة . توقفت عن الحركة للحظات و هي تنظر إلي مبتسمة بينما كنت مغمورا بالإنبهار و قالت هامسة " كان هذا سريعا ؟ "

فابتسمت و أنا أقول " كان هذا رائعا .. ربما أروع من .... لا أتذكر شيئا مر في حياتي بهذه الروعة "

فأطلقت ضحكة جذلة قبل أن تقول و نحن نستأنف الرقص " أخبرتك أني سأجذبك للحياة "

نظرت ناحية أمير فغمز بعينه مبتسما .. أما أنا فأصبحت أكثر تعلقا بهذه الحياة .. لقد تنفست للتو .

*****************

الفصل الثالث

أسير في طريق مظلم إلا من شحيح ضوء القمر .. الشعور بالبرد يتسلل إلى أضلعي .. ألمح شيخا ً عن يمين الطريق يقف بمصباح زيتي و ينظر إلي مبتسما و يقول " دعنا نكمل الطريق سويا " و لكني أرى منزلا عن يساري انبعث منه ضوء أحمر خافت يحمل رائحة أنثوية أشعلت بداخلي نيران الرغبة التي دفعتني للسير تجاه المنزل ... صوت الشيخ يخفت .. ربما كان تحذيرا .. لا أستطيع تمييز ما يقول .. و لكن ما المغري في السير بجوار العجوز في طريق مظلم بارد .. ما أن اقتربت من باب المنزل حتى انفتح لتظهر منه امرأة حسناء .. " ها قد أتيت " .. قالتها بابتسامة عريضة مرتسمة على شفتيها ..

فقلت مندهشا " هل كنتِ تتوقعين مجيئي ؟!" .. فضحكت في جزل و قالت " الجميع يأتي يا عزيزي .. لا أحد يحتمل برد الطريق " .

ثم أشارت إليِّ بالدخول .. خطوت ببطء عبر باب المنزل الذي بدا أكثر صخبا من الداخل .. كل الملذات قد اجتمعت و قد تعالت الضحكات .. وجدت نفسي أتوسط المنزل مشدوها بما أراه .. و ظل عدد الأشخاص يزداد و يزداد حتى شعرت باختناق قبل أن يجذبني صوت السقف الذي بدأ في التشقق والإنهيار .. قبل أن يبدو الجحيم يبتلع السماء .. و يهوى بها .

فتحت عيناي بصعوبة في الفراش لأنهض من نومي قبل أن أبدأ في إدراك أنني بغرفة غير غرفتي و غير غرفة أمير .. تلفت حولي محاولا تذكر الأشياء و لكنني لم أستطع .. تحسست جسدي قبل أن أدرك أنني شبه عارٍ .. انفتح الباب و ولجت منه دانيا في رداء الحمام تحمل بيدها قدحين و تقول مبتسمة " ها هو أخيرا يستيقظ .."

شعرت بالمفاجأة و لم أدرك ماذا أقول فاستطردت مازحة " أرجوك لا تقول أنك قد نسيتني .. أم أن شكلي قد اختلف بعد إزالة مساحيق التجميل "

فتلعثمت قليلا قبل أن أسألها " ماذا .. ماذا حدث ؟ كيف وصلت إلى هنا ؟ "

فقالت بذات الطريقة " عبر البريد .. تتوفر هذه الخدمة أحيانا " ثم ضحكت و هي تناولني أحد القدحين و تستطرد " تناول هذه القهوة لتستعيد وعيك "

تناولت القدح و ارتشفت رشفتين و أنا أنظر إلى الفراش قبل أن أسألها " هل حدث بيننا ....؟ "

فابتسمت في صمت للحظات قبل أن تقول " لا لم لم يحدث بيننا شيء .. لقد كنت فاقدا للوعي من تأثير الخمر "

فرددت في تعجب " خمر !! "

فقالت " نعم .. طبيعي أنك لا تتذكر .. هذا يحدث لذوي المرة الأولى دائما .. أتذكر أول مرة لي .. لقد استيقظت فوجدت نفسي ممدة في حديقة .. من حسن حظي أنه لم يكن هناك أحد "

فقلت و أنا أفرك رأسي " و لكني لا أشرب الخمر .. أعتقد أنني بحاجة للإستحمام "

فأشارت إلى خزانة الملابس و قالت " يوجد رداء حمام إضافي بجوار ملابسك بالخزانة يمكنك استخدامه "

نهضت و تناولت الرداء و قبل أن أخرج من باب الغرفة التفت إليها متسائلا " لماذا لم يصطحبني أمير معه ؟ "

فجائني صوت أمير من خارج الغرفة و هو يقول " أمير نفسه كان في حاجة لمن يصطحبه "

التفت إليه و كان نصفه العلوي عارٍ يرتشف قهوته و هو يبتسم و من خلفه مرت إيمي و هي تعدل من ملابسها و تقول لي مبتسمة " صباح الخير "

بينما استطرد أمير " أم هل تعتقد أن دانيا هي من جردتك من ملابسك كي تنعم بنوم هاديء كطفل بعد إرضاعه .. مع الفارق بالطبع "

أدركت أننا جميعنا قد قضينا ليلتنا في شقة دانيا الفارهة ذات الغرف الخمسة .. و لم أحاول المشاركة بأي نقاش إضافي قبل أن أستفيق .. كان النهار قد انتصف و أنا أقف تحت الماء قرابة نصف الساعة لأتذكر الليلة الماضية .. و كيف قبلتني دانيا .. و كيف بعد قبلتها انتباتني حالة من النشوة و تشاركنا جميعا مائدة واحدة .. للمرة الأولى أتجرأ على تناول الخمر .. لقد شجعني هذا التجمع على الإندماج بأي شيء .. شربت و شربت و رقصت معها مرة أخرى .. أتذكر أني قد تجرأت على تقبيلها بشكل أقوى وسط ضحكات و تشجيع البقية .. حتى انتهى بنا الأمر في شقتها .. و لكني لا أتذكر ماذا حدث بعد ذلك .. يبدو أنني فقدت الوعي فعلا من تأثير الخمر .. و لكن تبقى ذكرى الليلة السابقة لا تنسى .. و لكن تظل أسئلة تطرق رأسي .. هل سيستمر هذا الشعور و إلى متى ؟ .. ماذا سيحدث بعد سفر أمير الذي يتولى الإنفاق ؟

لا يمكن أن أطلب منه مبلغا من المال .. يكفي أنه السبب في شعوري بهذه اللذة التي لم أنعم بها سابقا .. هل يمكن أن أطلب منه السفر معه ؟ أم سيكون الأمر محرجا ؟ .. بضعة أيام و سأرى ماذا أفعل .

أنهيت إستحمامي و تناولنا طعاما طلبناه من أحد المطاعم و هممنا بالرحيل عندما قالت دانيا " متى سنلتقي الليلة ؟ "

فقلت بتردد " لا أعلم إن كنت ... " و لكن أمير قاطعني و هو يربت على كتفي " سأهاتفك لاحقا "

أخرجت هاتفي الذي فرغت بطاريته و أنا أقول لها مبتسما " كنت أود أن أدون رقمك و لكن هاتفي قد فرغت بطاريته "

فقالت في هدوء مبتسمة " أمير لديه رقمي .. خذه منه و هاتفني "

فقال أمير مازحا " نعم سأكون سعيدا دائما بالمساعدة التي أقدمها بلا مقابل ... هيا .. لنضع هاتفك على شاحن السيارة " قالها و ذهب بينما أطلت النظر قليلا إلى دانيا قبل أن تربت على خدي و تقول " و كأنك تظن أنك لن تراني ثانية "

فقلت هامسا " اعتدت أن تكون لحظات سعادتي أقصر من أن تُشبع قلبي .. في الواقع .. لقد مضت سنوات طويلة لم أذق بها أثرا للسعادة "

فقالت " دعك ألم الماضي ... دعك من خشية المستقبل .. عش كل لحظة حالية تمر ... و لا تقلق فإني أنتظرك الليلة لنكمل دروس الحياة "

أومأت برأسي و تركتها مرغما .. و في السيارة أوصلت هاتفي بالشاحن قبل أن يسألني أمير " لم تخبرني .. ما رأيك في ليلتك الأولى معي ؟ "

فضحكت و أنا أقول " لا بأس بها "

فقال مازحا " لا بأس ؟! .. لقد فاتني أن أقوم بتصويرك بالأمس أيها النذل "

فضحكت قليلا قبل أن أقول في جدية " تعلم أنك ستسافر .. و أنني سأعود حينها لما كنت عليه .. لا أريد التعلق بما سأفارقه "

فعقد حاجبيه و تسائل " ماذا تقصد ؟ "

فتنهدت قائلا " لا أريد أن أسهر معهم مرة أخرى "

فقال أمير في ضيق " ظننت أننا تحدثنا عن هذا الأمر في السابق .. استمتع بوقتك يا صاح ... ما الذي قد يضيرك في هذا ؟ حتى أنه قد بدى جليا أنك تروق لدانيا كثيرًا .. دانيا علوان من الصعب أن يروقها أحد .. "

فقلت في حنق " دانيا بالأخص هي السبب وراء حديثي هذا .. كنت سأستمتع بالوقت معك كما قلت و ينتهي كما ينتهي أي شيء .. و لكني أشعر بأنني أتعلق بها .. ربما لأنها منحتني سريعا ما لم أعهده من قبل .. بالطبع ليس معتادًا أن أرى علاقات خارجة عن المألوف في المجتمع ..و لم أحب ذلك .. طالما قبلتني بهذه السرعة فهذا يعني أنها اعتادت أن تقبل آخرين .. ماذا لو أحببتها ؟ لا أعلم .. هذا الأمر كلها يجعلني مرتبكًا .. لم أعتد هذه الحياة .. لا تناسبني "

فأومأ أمير برأسه قبل أن يقول " لا تنفك تخبر نفسك بهذا الهراء .. أُترك نفسك للحياة يا صديقي .. تحرر من كل هذه القيود .. أنا أعلم أن الأمر ليس سهلًا تمامًا .. لكن سأخبرك أمرا واحدا .. لا تفكر كثيرًا الآن .. لأن كل ما ستفكر به مقيد بما أنت عليه .. إمنح نفسك بعض الوقت مع هذه الحياة قبل أن تبدأ في التفكير .. ذق الجانب الآخر قبل أن تقرر على أي جانب تريد الحياة "

فقلت " ليس لدي ما يجعلني أحيى على الجانب الآخر .. ألا تدرك ذلك بعد ؟ "

فربت على فخذي مبتسما و هو يقول " ستتدبر الأمور يا صاح .. سنجد حلا بالتأكيد .. و علاوة على ذلك كما رأيت .. دانيا فتاة ثرية .. لن تعبأ بأمورك المادية طالما تروق لها .. و لكن لا تنجرف في مشاعرك تجاهها .. ربما لو نجحت في جعلها تتعلق بك أكثر لكان الأمر أكثر فائدة لك .."

فنظرت إليه في دهشة و أنا أقول " ماذا ؟ هل يفترض أن أقوم باستغلالها ؟ هل هذا ما تعرفه عني ؟ "

فقال أمير مستنكرا " لا أقصد أن أهينك .. أنت لن تقوم بإهانتها أو إيذائها في شيء .. أنت تمنحها ما تريد و هي تمنحك ما تريد .. لذلك أحب الغرب .. الأمور دائما واضحة في كل شيء .. العلاقات مريحة لأن طرفيها على علم بالهدف منها .. و الكل يبقى سعيدا و مرتاحا .. فكر في الأمر .. لن تخسر شيئا .. لطالما خسرت في الماضي لأنك قدمت تضحيات كثيرة و التزمت بمبادئك الواهية ... الآن ليس عليك إلا تجربة بعض الأمور .. و يمكنك العودة إلى سابق عهدك في أي وقت .. و لكنك لو قمت بتفويت فرصتك الآن فلا أعتقد أنها قد تتكرر "

قام بإيقاف السيارة على جانب الطريق و هو يستطرد " سأقوم بسحب بعض المال من الصراف الآلي للدفع لصاحب الشقة و سأعود إليك "

" حسنا ً " قلتها و أنا أقوم بتشغيل هاتفي الذي تلقى فور تشغيله عددًا من الرسائل التي تخبرني أن هناك من قام بالإتصال بي سابقا و هو مغلق , و بعد قليل وردني اتصال من حمدي الذي ما أن أجبته حتى صاح " أين أنت يا صديقي ؟ لقد انتابني القلق عليك فلم أعتد إغلاقك للهاتف ؟ "

فقلت له " أنا بخير, فقط قضيت ليلتي عند صديق و قد فرغت بطارية هاتفي .. ماذا هناك ؟ "

فتنهد في أسف " ظننت أنك تود أن تعرف أن والدة لبنى قد ماتت فجر اليوم .. "

**************************

" ربما يود الذين كفروا لو كانوا مؤمنين " قالها المقريء بسرادق العزاء الذي أقيم بالشارع مساءً بينما كنت أقف بشرفة بيتي بعد أن جالست الرجال قليلا بالسرادق .. رأيت لبنى عبر شرفتها بزيها الأسود بين بعض سيدات الحي يقومون بتعزيتها و تهدئة بكاءها المستمر .. شعرت بعظيم الشفقة من أجلها و كثير من الحنق من أجل هذا الموت الذي يخيم على هذه الأيام .. تذكرت أمر حسن و ذاكرته الألكترونية التي كانت معي و قد أصابتني الدهشة فكيف نسيت أمرها تماما ... تحسست ملابسي فلم أعثر عليها فقمت بالإتصال بأمير بضع مرات ولكنه لم يجب , فحاولت تتبع الأحداث في ذاكرتي لأدرك إحتمالات وجودها .. " إنا نحن نزلنا لذكر و إنا له لحافظون " .. لم أستطع التركيز فيما حدث محاطا بهذا الصوت القوي .. و رغم ذلك شعرت بالنعاس .. " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين " , ونمت على ما يبدو .

فتحت عيني و بعض الأصوات المختلطة تأتي من الشارع تصحبها أضواء عابرة متعددة الألوان تسقط على جدران غرفتي المظلمة .. شعرت بقليل من الألم برأسي و لكن الدهشة كان لها النصيب الأكبر مني عندما وجدت رشيد يقف عند الشرفة شارد البصر , فقلت مرددا " رشيد !! .. كيف ولجت إلى شقتي ؟ "

فقال دون أن ينظر إلي " لم يكن الباب مغلقا .. رغم الظلام الدامس .. أدركت أنك نائم فقط "

فجلست إلى حافة فراشي و أنا أقول " و لماذا لم توقظني إذن ؟ "

فرفع إصبعه مشيرا للخارج و هو يقول بنفس الشرود " ظننت أن هذا كفيل بإيقاظك "

فنهضت ببطء و أنا أتسائل عما يدور بالخارج حتى وصلت إلى الشرفة راعني ما رأيت .. لبنى المتشحة بزيها الأسود مسجاه على ظهرها بالشارع أسفل شرفتها و الدماء تتدفق منها و بعض الناس يحيطون بها و من ضمنهم رجال الإسعاف يقفون بلا حراك .. يشاهدونها فقط .. فقلت مرددا " تبًا .. لقد إنتحرت المسكينة .. لم تحتمل " رأيتها تنتفض قليلا و كأن الروح لا تزال عالقة بجسدها فاستطردت صائحا " أنظر لا تزال حية .. لماذا يتسمرون كالأخشاب ..لما لا يقدم أحدهم على فعل شيء ؟ "

فقال رشيد " لا يستطيعون إنقاذها .. رحمة الله تستطيع "

التفت إليه و سألته فجأة " هل تعتقد أن الله رحيم ؟ "

بدا كمن تلقى صفعة على وجهه من الدهشة .. و لكنه ما لبث أن عبث بلحيته و ابتسم تكلفا و قال " هو أرحم من الوالدة بولدها .. و هو ..."

فقاطعته قائلا " أهذا ما لقنوك إياه ؟ أم تلتمس ذلك فيما حولك ؟ "

لم يستطع تفادي الصمت ذهولا هذه المرة .. فانقضضت عليه آخذا برأسه موليا إياها صوب الجثة و أنا أهمس في أذنه " أنظر .. أترى الدماء المتدفقة ؟ أتتذكر ما حدث لحسن ؟ "

تركته يلهث في هلع و عيناه مثبتتان على الجثة في الشارع و أنا أستطرد " أيبدو لك رحيما ؟ "

فرفع أصبعه في وجهي و هو دامع العينين و قال و هو يتراجع بضع خطوات إلى الداخل " مهلا .. لا تفعل ذلك .. إياك أن تفعل .. لقد كانت لحظة ضعف من الفتاة .. لقد لحظة ضعف من حسن .. كل شخص يمر بلحظات ضعف .. أنا واثق أنه سيرحمنا .. لابد أن يفعل .. لابد "

فصحت به " الفتاة تعاني منذ لحظة ولادتها .. أيبدو لك رحيما ؟ "

فصمت لحظات قبل أن يشير إلى الخارج قائلا في هدوء " ربما لم يكن الأمر ابتلاءً لها قدر ما هو ابتلاءً لمن حولها "

فالتفت إلى الخارج لأرى في موضع جثة لبنى الكثير من الجثث , و الصامتون من حولهم لايزالون على صمتهم .. و السرادق مقام بمصابيح ملونة و الجالسون به يحتسون الخمور و يتضاحكون رجالا و نساءا و فتية و فتيات في أوضاع مخلة .. و الشيخ لايزال يقرأ القرآن .. و جذبتني ضحكات صادرة من شقة المرأة المثيرة فالتفت لأراها عبر شرفتها تعانق شخصا ما كان يوليني ظهره العاري .. قبل أن يلتفت إلي لأتفاجأ أنه أمير قبل أن يسدل ستار الشرفة .. فالتفت إلى شرفة لبنى لأرى عبرها بعض النساء يتشحن بالسواد و يجلسن في الغرفة على هيئة دائرة في منتصفها جلست شابة ترتدي زيا أسودا يكشف من جسدها أكثر مما يخفي , أخفت وجهها بنظارتها السوداء و دخان سجائرها الكثيف .. و ما أن انقشع الدخان حتى خلعت عن وجهها نظاراتها و هي تبتسم بسخرية .. فإذا هي دانيا .. و جاءني صياح حمدي من الشارع و هو يناديني متسائلا " ما الذي يحدث ؟ أنا لا أفهم شيئا "

لم أجبه فجاءني الصوت من خلفي " لا تستطيع أن تخبره ؟ لأنك ليس لديك الجرأة لتفهم "

لم يكن صوت رشيد الذي سمعت ..فاستدرت إليه ببطء لأرى هذا الوجه الشاحب المتسخ بآثار الدماء و التراب قبل أن أردد في دهشة " حسن ؟!! "

أومأ في أسف قبل أن يقول " لابد أن تفهم " ثم دفعني لأسقط من الشرفة ..

استيقظت من نومي في هلع و أنا أتصبب عرقا و قد كانت الغرفة مظلمة إلا من بعض الأضواء الخفيفة التي تتسلل إليها عبر الشرفة .. فنهضت إلى شرفتي لأستكشف ما يحدث و أول ما كان يهمني أمره هو رؤية لبنى .. فرأيتها عبر شرفتها في الغرفة و قد افترشت سجادة الصلاة واضعة عليها المصحف .. و كانت تتحدث إلى جارتها بعد أن غادرت النساء قبل أن تنهي حديثها و تبقى وحدها لتختلي بالمصحف .. بينما كان السرادق يتم إزالته أطلقت زفرة حارة .. لقد كان كابوسا مريعا .. التقطت هاتفي بحثا عن رقم رشيد قبل أن أقوم بالإتصال به ليسألني " ماذا بك ؟ ليس من عادتك أن تبادر بالإتصال ؟ هل أنت بخير ؟ "

فقلت في تردد " لا .. لا شيء .. أردت فقط الإطمئنان عليك .. و ربما لمحادثتك قليلا "

" أنا بخير الحمد لله .. و من الجيد محادثتك من آن لآخر " قالها و صمت لحظات قبل أن يستطرد " إسمع .. لما لا نلتقي غدا صباحا ؟ "

فتساءلت في دهشة " أليس لديك عمل صباحا ؟! "

فقال و قد التمست الحزن في صوته " إنه موعد جلسة هيثم ؛ طفلي الأصغر .. لتأتي معنا و لنتحدث قليلا أثناء ذلك "

" جلسة ؟! أي جلسة ؟ " قلت متسائلا فصمت لحظات قبل أن يقول " طفلي يعاني .. من السرطان "

******************

ابتسم رشيد ابتسامة خفيفة و هو يقول " توقعت هذا الأمر .. مصاحبة أمير لا تليق بك .. لقد تجرد من كل شيء كان عليه في الماضي , و انخرط في ملذات الدنيا , و لا أعلم إلى ما سينتهي به المآل .. أما أنت .. فبالطبع تشعر بالضيق لخوضك هذه الليلة بضعف في نفسك .. و لكن الأمر ليس مقلق مادام هناك طريق للعودة "

كنا نسير في أحد ممرات المستشفى في الطريق إلى غرفة العلاج الكيميائي و معنا طفله هيثم الذي لم يتجاوز السادسة من عمره عندما قلت لرشيد " لا أستطيع أن أطلق عليه ضيقا أكثر من كونه إضطرابا و تخبطا فيما علي أن أفعل .. تمضي الحياة و أنا رهين يوم واحد لا يتغير و أنا عاجز تماما على أن أغير شيئا في حياتي .. لقد احترفت الفقد حتى أنه لم يعد لدي ما أفقده .. إمتهنت الصمت و الصبر حتى تآكلت روحي فصرت أقرب إلى جماد بلا روح .. أشعر أحيانا أن الحيوانات أكثر حرية مني .. و ليس هناك ما هو أشد مذلة على النفس من أن تحسد الحيوان على أنه يملك ما لا تستطيع أن تملكه " .

فنظر إلي في دهشة و هو يقول " الشيء الوحيد الذي أحسد الحيوان عليه أنه لم يأخذ على عاتقه أمانة هذا العالم .. فليس هناك أكثر إثارة للرعب بالنسبة لي من يوم الحساب .. أخشى أن ينتهي بي المآل إلى الجحيم "

قالها و نحن نصل إلى باب الحجرة المنشودة حيث كان يقف عندها أحد الأطباء الذي استقبلنا مبتسما و رشيد يقدم له بطاقة تحمل اسم ابنه , فقال الطبيب " هيثم رشيد .. من هو بطلك المفضل يا هيثم ؟"

فقال الطفل الذي بدا عليه الإنزعاج و القلق " الرجل الوطواط "

فربت على كتفه الطبيب و قال بنفس الإبتسامة " لم يصبح بطلا من فراغ .. لقد أدخل أحد الأطباء في جسده السائل الخارق ليصبح بطلا خارقا .. هذا ما نفعله معك أيها البطل "

قالها و قد أشار إلى إحدى الممرضات لتجهيز سرير الجلسة في حين أن الطفل إلتفت إلى والده و هو يتشبث ببنطاله و يقول " هذا السائل يؤلم كثيرا يا أبي .. لا أريد أن أصبح بطلا "

احتضنه رشيد و هو يخفي ألم نفسه بابتسامة و يقول " لقد تحدثنا من قبل في هذا الأمر يا هيثم .. أنت بطلي .. و بطلي لا يخاف من أي ألم .. لا تقلق فأنا معك و لن أتركك "

إلتفت إلي دون أن يتحدث فأومأت له متفهما أنه سيرافق طفله خلال الجلسة .. و بقيت خارج الغرفة أراقبهم يحقنونه ببعض المورفين ليقلل من ألم السائل الكيميائي الذي قد يفقده وعيه من شدة الألم الذي سيسري في عروقه .. راقبت ملامح الرعب المترقبة للألم على وجه الطفل البريء .. و ملامح رشيد الذي يجاهد رغبته في البكاء حزنا و هو يحتوي جسد طفله و يدعمه بكلمات لتهدئة نفسه المضطربة .. أدركت لما لم ترافقه زوجته التي أعتقد أنه لم تكن لتتمالك نفسها و هي ترى آلام طفلها الصغير .. تذكرت أمي و كل ملامحها عندما كان يصيبني شيء .. فزعها و قلقها و عناقها الطويل .. تجولت قليلا بالممر لأرى تلك الملامح الدامعة على وجوه أمهات من مختلف الطبقات ..معظمهن فقيرات بملابسهن الريفية البسيطة , و وجوههن الحزينة التي نقش عليها الزمن بقلم القدر قصائد الشقاء و الألم .. و تردد في داخلي آخر ما قال رشيد لي " أخشى أن ينتهي بي المآل إلى الجحيم " .. تساءلت كيف يجرؤ الجحيم على ابتلاع كل هذا الألم دون شفقة ! هذا الألم الذي طالما اختار ضحاياه من الضعفاء و الطيبين .. يا لها من رحمة !.

نبهني إهتزاز هاتفي في جيبي فإذا هو أمير , فعاجلته قائلا " أحاول الإتصال بك منذ أمس .. أين اختفيت ؟ "

فقال و هو يتثائب " لم أكن منتبها للهاتف فقد كنت منشغلا طوال الليل "

فسألته متهكما " منشغلا ؟! .. و ما الذي سيشغلك سوى النساء ؟ "

فقال " أين أنت الآن ؟ "

" في المستشفى .. أرافق رشيد من أجل جلسة معالجة طفله " قلتها و قد توقعت أن أجد رد فعل منه و لكنه لم يهتم قائلا " حسنا .. سأنتظرك أن تمر بي مساء اليوم "

فقلت له قبل أن ينهي الإتصال " إنتظر .. هل رأيت المظروف الذي أعطاه حسين لي ؟ لم أستطع إيجاده و أخشى أنني قد نسيته في شقتك "

صمت لحظات قبل أن يقول " سأبحث لك عنه بعد أن أستفيق .. إسمع .. ما رأيك أن تذهب إلى دانيا في بيتها ؟ سأوافيك هناك ثم نخرج جميعا "

****************

" لم تجده ؟ كيف هذا ؟ " قلتها لأمير و كلانا يجلس في شقة دانيا ريثما تنتهي من تجهيز نفسها للخروج .. فمط أمير شفتيه آسفا و هو يقول " لا أعلم يا صاح .. لقد بحثت في كل مكان حتى ملابسك و لم أجد شيئا .. ربما سقط منك في الملهى .. لقد كانت ليلة جنونية نوعا ما .. سنسأل عنه الليلة هناك ربما وجده أحدهم " فأطلقت زفرة ضيق حارة بينما استطرد " لا تقلق .. لا أعتقد أنه سيكون مهما إلى هذه الدرجة "

فنظرت إليه في دهشة و أنا أقول " ما الذي تقوله ؟ كيف سيكون بلا أهمية و قد تركه لي حسن قبيل إنتحاره ؟ هل تصغي إلى ما تقول حتى ؟ "

فرفع أمير يديه في محاولة لتهدئتي و هو يقول " مهلا , لا أقصد التقليل من الأمر .. و لكن ما الأمر الذي تعتقد أن يكون تركه حسن لك بالغ الأهمية في حين أنه لم يقم حتى بالإتصال بك ؟ "

فقلت في حنق " لا أعلم .. لا أعلم .. كان يجب أن أفحصه فور استلامه .. هذا الأمر يثير حنقي بشكل بالغ "

فابتسم أمير و هو يقول " لقد قضينا وقتا لطيفا و لم نستطع تجنب ما حدث .. سنبحث عن المظروف .. و لكن ما أقوله هو ألا تدع الأمر يعكر صفو حياتك في حال أننا لم نستطع إيجاده .. في جميع الأحوال مهما كان ما يحتويه فما الذي قد يغيره الأمر الآن و قد فارقنا حسن .. لا يمكننا أن ننقذه .. لذا دعك من حمل الأمور على عاتقك .. "

خرجت دانيا من غرفتها و قد تجهزت للخروج و نظرت إلينا و قد شعرت بتوتر الجواء فتساءلت " ماذا هناك ؟ لما كل هذا الوجوم ؟ "

فقال أمير " لا شيء .. لم نجد الذاكرة الألكترونية الخاصة بحسن فقط ؟ "

فقالت دانيا ضاحكة " هل يستحق الأمر كل هذا التوتر ؟ ما نحن بصدده الليلة أهم من كل هذه الأمور .. ستكون ليلة مميزة "

فتساءلت في دهشة " ليلة مميزة ؟ لماذا؟ إلى أين سنذهب ؟ "

فابتسم أمير قائلا " لقاء سيغير حياتك إلى الأفضل كما تغيرت حياتي .. ستودع كل حياتك القديمة المقيتة هذه "

****************

الفصل الرابع

في أحد الشوارع الشهيرة بمنطقة وسط البلد كانت بناية ذات طراز معماري ملكي بلا أي لافتة تشير إلى تبعيتها ,على ناصية شارع جانبي شبه مظلم , محاطة بسياج أمني و كاميرات مراقبة , و حارس واحد داخل الباب الزجاجي يحمل وجها شديد الجدية بجوار جهاز للتعرف على بصمة الأعضاء ..

" ما هذا المكان ؟ " سألت أمير و أنا أتلفت حولي باحثا عن هوية له فقال لي " تستطيع أن تقول أنه نادٍ خاص لجماعتنا " .

فرددت في دهشة " جماعتكم ؟! "

فربت أمير على كتفي مبتسما و هو يقول " ستعرف كل شيء .. لا تتعجل " .

قاما بتقديمي إلى الحارس بصفتي " زائر مرشَح " و لم أدر ما تعنيه هذه الصفة , و ما أن ولجنا إلى صالة الإستقبال حتى قام باستقبالنا أحد الموظفين كما يبدو عليه و هو يبادرنا بقوله " أهلا سيد أمير و السيدة دانيا .. أهلا بضيفنا العزيز .. لقد بدأ حفل الليلة في القاعة البرونزية .. أتمنى لكم جميعا وقت طيب "

 فقال أمير و هو يتجه بنا إلى المصعد " شكرا جزيلا مايكل " , و بعد أن ارتاد ثلاثتنا المصعد إتجه بنا إلى الأسفل بطابقين لنخرج منه عبر ممر طويل و في آخره باب ضخم ما أن ولجنا عبره حتى وجدنا حشدا من الشباب بقاعة ضخمة تغلب عليها أضواء خافتة بألوان متقلبة بينما الضوء الأقوى تم تسليطه على منصة كبيرة اعتلاها على ما يبدو أحد القادة في رداء غريب أحمر اللون بدى لي كرداء كهنوتي تم تعديله قليلا بتقصيره و إضافة بعض الأشكال الفضائية عليه مع شعار نجمة داوود يتوسطه صليب معقوف في دمج غريب لشعار الصهيونية مع النازية , و على وجهه ارتسمت ابتسامة واسعة و هو يكمل خطابه " و قد قطعنا شوطا طويلا منذ بداية الإلهام الأول لنشر المعرفة العظمى بين الناس و توحيد صفوفهم ضد النزاعات الدينية التي عززت فكرة الإستعباد .. و بذل كثير من رسل المعرفة العظمى حيواتهم في هذا السبيل .. حتى جاء المبعوث الأخير ليرى بعينه حقائق الأمور و يكشف عن أعيننا غشاوات التفرقة و النزاعات العنصرية .. لتكون رسالته الرسالة الحاسمة للخلافات الدائرة ... هذا المبعوث أرسل بكل دولة رسول من خواصه .. و من جزيل حظنا الليلة .. أن الرسول المقرب من المبعوث الأخير يطل علينا بمعرفته الجمة .. لكل الذين لم يروه سابقا من أخواننا الجدد .. الليلة ستتم معرفتكم للرائلية .. ديانة الحرية .. لنقم جميعا بتحية الرسول "

قام الجميع بالتصفيق الشديد مع ظهور أحد الأشخاص بنفس الرداء الشبه كهنوتي و لكنه باللون الأسود .. و قد تقدم بخطوات واثقة و ابتسامة هادئة رافعا إحدى ذراعيه لتحية الجمهور .. حتى أشار لهم بالتوقف فخشعت الأصوات حتى بدأ حديثه " كانت الأمور منذ فجر التاريخ مشوبة بالمعتقدات المتناقضة .. توارثت الأجيال فكرة الإستعباد .. آلهة الإغريق .. آلهة الرومان .. آلهة المصريين القدماء .. الأديان الفلسفية و الرسالات السماوية و غير ذلك في شتى بقاع الأرض .. لم يكن يجلب لهم هذا الإيمان السكينة و السلام أكثر مما جلب عليهم الحرب و الدمار .. كم من الدماء سفكت باسم الأديان ؟ كم من البلاد تم نهبها باسم الرب ؟ نجد كل دين يصف نفسه على ألسنة تابعيه بأنه دين سلام و حب .. و لكننا في النهاية لا نجد سوى كراهية و حرب . في السنوات الأخيرة كان هناك شيء يدعو بعض الأشخاص لينتبهوا للحقيقة .. فدق بعضهم بقلة علمهم ناقوس الحقيقة حول ماهية الألوهية .. ببعض الأمور التي أدركوها عن تحكم الإنسان في قدره و أن العلم يسود كل شيء , تجاهلوا أهم ما في الحقائق بتخاذلهم عن السعي المستمر و اكتفوا بالقليل, القليل الذي وضعهم عرضة للإتهام بأنهم ملحدين .. مجرد ملحدين .. بلا اتجاه و بلا هوية و بلا رسالة .. حتى أتى المبعوث الأخير بتفكيره نظر و تدبر .... تدبر في خطوط نازكا و بوابة الشمس و الأهرامات و كل أثر يحمل بصمة أو إشارة غير بشرية .. حتى اهتدى أن هناك قوى عظمى .. كيانات أصلية بعثت بتلك الرسائل للبشر لتنبئهم بوجودها .. البعض أطلق عليهم كائنات فضائية .. البعض أطلق عليهم ملائكة أو جن .. البعض أطلق عليهم أشباح و كيانات ما وراء الطبيعة .. و لكننا في النهاية علمنا أنهم أصل البشرية .. كيانات عظمى على هيئتنا .. " كما قال البعض أن الإله على هيئة البشر , صحيح ؟ " بهيئة أضعاف حجمنا .. كما قالت آثارهم , صحيح ؟ ... كل الأنبياء لم يكونوا سوى رسل لهم .. تجلي الملائكة .. الطيور الأبابيل .. الشواظ من نار و نحاس .. الرؤى المستقبلية و التنبؤات .. الثقوب الزمنية و الإنتقال بينها بواسطة البراق في الإسراء و المعراج .. تحويل التراب إلى ذهب .. تلك الآثار التي تدل على وجود تقنيات متقدمة في عهد ما قبل التاريخ .. و كل أمر يدل على أننا لسنا وحدنا كسكان كوكب الأرض في هذا الكون الشاسع العظيم .

كل هذا يدل على حقيقة حاول الكثيرون إن لم يكن الجميع أن يتجنبها خوفا من كينونتها .. و الحقيقة أننا مجرد نسخ .. بذور تم زرعها في هذا الكوكب لأصول كائنة في السماوات .. الأصول التي أطلقوا عليهم ملائكة و شياطين .. و السبب أن هذه الأرض على مر التاريخ كانت تجربة عظيمة للبشر عبر قرون و قرون ليروا كيف قد ينجح البشر في الوصول إلى الحقيقة في النهاية .. لذلك استمر نسلنا رغم إنقراض كثير من الكائنات .. استمر نسلنا رغم كل الإنهيارات و الكوارث .. لأننا جميعا كنا نتلقى الإرشاد و المساعدة من الكيانات الأصلية .. عبر الرسائل و الرسل .. الذين غرسوا فكرة الدين كمسمى .. و الحقيقة حول فكرة الدين أنه مجرد إرتباط بين الكيان البشري و الكيانات الأصلية .. ليمنحوك إن أرادوا قدرات و علوم من لدنهم .. لذلك إنتهى عهد الرسل بعدما بدأ عصر العلم الذي سيهدينا إلى الحقيقة العظمى في النهاية ...."

تصفيق حاد غمر القاعة بينما شعرت بقشعريرة باردة سرت في جسدي و أنا أحاول أن أستوعب ما قاله الرجل .. معركة أخرى بدأت بداخلي .. أو ربما هي المعركة ذاتها التي حاولت مرارا الهروب منها أو تجاهلها .. و نسيت أن المعارك لا تنتهي بالتجاهل .. لابد أن تحسم ..و لابد أن ينتصر أحد طرفيها .. و لكن ما هذه الهوة السحيقة التي أريد أن أقفز إليها ؟ هل سأنكر وجود الله بعد كل هذه السجدات ؟ بعد كل ذاك التضرع و الدعاء ؟ بعد كل هذا الخوف من الجحيم ؟ الجحيم .. الجحيم .

كنت أتقهقر بساقيّ عندما أدركت أنه قد فطن إليّ .. أحاطني بنظراته حتى أنني قد ظننت أن كل هذا العرض من أجلي وحدي و هو يستطرد " لا يمكنك الهروب من الحقيقة "

 و أنَّى لي أنها الحقيقة ؟

" و هي تتجلى أمامك في كل شيء "

 كيف يمكن أن أهدم ثوابتي و أتوقع أن أنهض من جديد ؟

 " تحتاج إلى شجاعة كبيرة كي تنهض من رماد جهلك كالعنقاء صوب الحقيقة "

 لست مستنسخا ..

"إنهم قادمون .."

 لست تجربة ..

" حتى أنهم في الأديان أخبروك أنك في إختبار حتى الممات "

  لست حقلا للتجارب ...

" و أنت عليك أن تظل في غمرة جهلك لتبدو مؤمنا "

لست مؤمنا ... لست مؤمنا ..

شعرت بصدري ضيقا حرجا و كأنني محتجزا بقاع المحيط أصارع من أجل البقاء ففررت إلى خارج البناية ألتقط أنفاسي في الهواء الطلق قبل أن يلحق بي كل من أمير و دانيا التي بادرتني بالسؤال " ماذا بك ؟ لماذا هرولت هكذا إلى الخارج ؟ "

فصحت بها " لماذا ؟!! .. ما هذا الهراء الذي جلبتماني إليه ؟ من هؤلاء الأشخاص ؟ "

فقال أمير " يجب أن تستوعب أولا هذا الأمر .. ستتغير حياتك إن استوعبت و أدركت كل شيء "

فصحت به " ماذا ؟! أنت تمزح بالتأكيد "

فهم أن يقول شيئا فاستوقفته دانيا قائلة " أمير .. دعه الآن و دعنا من هذا الحديث .. لو لم يكن هذا هو رد فعله لما كان شخصا طبيعيا "

ثم ابتسمت و هي تتحسس وجهي بكفيها و تقول " دعنا نترك هذا الأمر ورائنا قليلا و نفكر في هذه الليلة فقط "

شعرت بإرتعادة في أوصالي و كأن رياحا ثلجية قد لفحت جسدي قبل أن أبعد يديها عن وجهي قائلا

" أشعر بأنني لست على ما يرام الليلة .. دعينا لليلة الغد "

فابتسمت و أومأت برأسها متفهمة و هي تقول " حسنا جدا .. ستكون فرصة عظيمة لليلة مميزة من أجلك "

فأومأت إليهما قبل أن أبتعد بينما عادا إلى الداخل .. و قد قطعت بي قدماي طرقات و طرقات لم أكن أراها في قلب كل هذا التخبط الذي يعصف بعقلي و نفسي .. كانت مشاهد من حياتي البائسة تمر أمامي .. كل تلك الأحلام التي سعيت إلى تحقيقها مرارا و تكرارا بلا جدوى .. بينما كل ما يحدث فعلا في حياتي كان إزدياد عمري و زيادة خسائري و تضخم وحدتي و عذابي ..

لم أستطع عبر كل هذه السنوات أن أنأى بنفسي عن الشعور بالإحتياج الشديد لأن أحيى .. بعض الحب و الشهوة .. بعض الدفء و العناق .. كثير من المال و المجد .. و لكنني لم أجد شيئا سوى برد الوحدة و الفقر و آلام الحرمان المبرحة .. وسط كثير من الدعاء الذي لم يغير شيء في حياتي .. ماذا لو كان هذا الرجل على حق ؟ .. ماذا لو لم يكن هناك من يستمع إلى هذا الدعاء سوى كائنات لا تستطيع أن تغير قدرا ؟ .. ماذا لو أن كل ما أفعله في حياتي هو تدميرها عبر تعليقها على آمال واهية؟.

وصلت إلى الشارع الذي أقطن به و قبل أن أقترب من منزلي جذبني صياح أحدهم و هو يقول " عُمرة مقبولة إن شاء الله .. تعود سالما مغفورا لك " فالتفت لأجد العجوز زوج السيدة المثيرة يصافح بعض أصدقاءه عند سيارة تحمل حقيبة سفره و قد بدا أنه مسافر لقضاء فريضة العمرة .. كنت أتأمل ابتسامته و ملامحه الطيبة و لحيته البيضاء الخفيفة قبل أن يلتفت بوجهه إلى شرفته ليشير إلى زوجته مودعا .. بينما تعلق بصري بالزوجة و أنا أفكر في السبب الذي جمعهما معا .. هل يكافئه الله على تقواه ؟ هل هي جائزة نهاية العمر له ؟ .. صعدت إلى بيتي و أنا أفكر كثيرا بشكل أهوج .. و كأنني قد فتحت عدة كتب متنوعة المجالات في آن واحد و أقرأ من كل كتاب سطر .. و كأن رأسي تتمزق لتتفرق شيعا .. لا أدري كم مر من الليل بين هواجسي و سجائري عندما اقتربت من شرفتي لألمح لبنى و هي تجلس خلف منضدة صغيرة عليها طبقين بهما طعام ما .. و لكنها كانت شاردة لا تأكل ..بدت و كأن سويعات مرت عليها و هي على هذا الحال .. وحيدة صامتة شاردة الذهن .. كم هي معاناة أن يكون الإنسان وحيدا إلى الدرجة التي يشعر فيها بأنه على هامش الحياة .. لا يربطه بالدنيا شعرة .. حتى أن الناس قد لا يتذكرون وجوده مرة أخرى .. و قد لا يفطنون إلى موته إلا إذا أنبأتهم رائحة جثته العفنة .. ربما كان عذاب الإنسان الأكبر أن يكون وحيدا . جذبت لحظي حركة السيدة المثيرة في الشرفة المجاورة .. و التي بدت عبر الستائر الشفافة و كأنها تقوم بترتيب غرفتها .. كانت ترتدي عبائة قرمزية اللون , لامعة , مفتوحة الصدر .. كانت تتحرك بإنسيابية و دلال و شعرت بأنها تتراقص على أنغام شيء ما .. تأملتها و كأنني أتحسسها بعيني و أشم عبير جسدها .. و كأنها حياة لا تكتفي من أن تنهل منها أبدا .. و لاحت لي فكرة .. ماذا لو استقبلت في أحضانها شخصا ما في غياب زوجها ؟ .. ماذا لو انتهز أحدهم كونها وحيدة لينهل من كل هذا المتع وحده ؟! .. و كل ما أفعله هو المشاهدة ؟ ماذا لو كان أنا هذا الشخص ؟ أنا أحق من كل هؤلاء بهذا الشارع الحقير .. أنا أحق بأن أحيى قليلا ... مهلا .. هل سأطعن أحدهم في ظهره ؟ يبدو كشخص طيب زوجها .. إنه ذاهب لأداء ....... لا .. ربما كان سيئا .. لو كان جيدا لما اختار هذه العاهرة .. ربما هي خدعته .. ربما هو أكثر شهوانية مما يبدو ... كان لابد أن يختار امرأة تناسبه .. لا امرأة يشتهيها الجميع .. لن أفعل شيئا سوى أنني سآخذ القليل مما ينهل منه .. ماذا لو كان رد فعلها عنيفا ماذا سأفعل ؟ هل سأقتلها ؟ .. العجوز لا يشبعها .. العجوز لا يرضيها .. ألا تراها تتراقص بعدما غادر ؟ .. إن أذرعها مرحبة بقوة تحرث أرضها و تروي تربتها .. و لن يكون سواي . فُتح باب شقتها فجأة لأنتبه أن قدماي قد أوصلتني إليها دون أن أدري .. نظرت إلي مبتسمة و قد شعرت بوهج وجهي يجعلني أتعرق .. و لم أكن متحضرا بشيء أبدأ به الحديث فقلت متلعثما " ... الحاج ..كان قد .. كان قد أخبرني أنه يريد إيصال الإنترنت بالبيت .. كنت أريد معاينة المكان لمعرفة عدد أمتار الوصلات المطلوبة .. و هكذا "

تفحصتني دون أن تتكلم من وجهي إلى أخمص قدمي و قد تملكني القلق و شعرت أنني قد ارتكبت خطئا مريعا بالقدوم إلى هنا حتى أن أسوأ ما قد يحدث قد نال من مخيلتي في لحظات حتى أنني تراجعت خطوة و قد هممت بالرحيل لولا أنها تراجعت فاتحة الباب و هي تقول " بالطبع .. تفضل "

قالتها و على وجهها ابتسامة ماكرة , شعرت بأنها قد قرأت كل شيء في وجهي .. و قبل أن أغلق باب شقتها بعد دخولي حانت مني إلتفاتة إلى شقة لبنى .. يا للسخرية .. الحياة و الموت متجاوران .

*****************

جهادي أصبح ضد وخز الضمير .. أنهل من كل ما تطوله يداي و قد أخرجت رأسي خارج صراعات الحلال و الحرام و فتحت كل باب يشبع غرائزي الأساسية .. و أنا أفترس الجارة – التي علمت أن اسمها " نعمة " – في الفراش كذئب جائع , كنت لا أشعر بالمتعة قدر ما كنت أشعر بالإنتقام .. كنت أنتقم من كل شيء .. الحياة , القدر , الزمن , و ربما من نفسي و مبادئي ..

هُدم الجدار الذي بنيته طوال سنوات حول نفسي لأصمد في هذه الحياة ريثما يفعل الله ما أخبرني إياه الجميع منذ نعومة أظافري .. هُدم الجدار و تملكني الخوف للحظات ترقبت فيها صاعقة أو موت كعقاب .. و لكن لم يحدث شيء .. فكرت .. لما قد يعاقبني و كل أولئك المذنبون لم ينل منهم عقاب .. فكرت و أنا أنظر إلى الجسد العاري بجواري في الثواب و العقاب .. أين ذهبا ؟ .. الخير ينتصر في النهاية ؟! .. لم أشاهد هذا سوى في الأفلام و الروايات .. على أرض الواقع الأخيار يموتون ذبحا و دهسا .. على أرض الواقع ينتصر الأشرار دائما .. أما الأخيار يتعفنون في السجون أو في الأزقة يسألون الناس إلحافا .. لا يجدون ما ينفقون على الطعام أو الشراب أو الأدوية .. لا يجدون ما يتدثرون به من برد الشتاء و لا ما يقيهم لهيب الشمس .. في النهاية يستسلم الأخيار .. الإناث فرائس راغبي المتعة .. و الذكور أٌجراء للسادة .. يقتاتون من إرهاب الناس بشتى الطرق .. يساعدون في تحويل بعض الأخيار إما لأشرار أو جثث .. أو إلى أجساد خاوية إلا من أرواح منكسرة محتضرة فقدت كل شيء و تنتظر الموت .

طوال الأيام القليلة التالية كنت أجد الملاذ بين ذراعي نعمة أو دانيا التي مرتني بشتى أنواع اللذة في بيتها حيث اجتمعت مجموعتنا مرارا و انضم علينا فتيات أخريات و أقيمت حفلات اللهو بين جدران بيتها .. شعرت أنني أصبحت شخصا آخر غير الذي كنت عليه .. كنت أقرب إلى رشيد فيما يفعل .. أصبحت أقرب إلى أمير فيما يخوض ..

خمسة عشر يوما مرت قبل أن يعود زوج نعمة من العمرة .. فأصبحت أقضي معظم وقتي بين بيت دانيا و بيت أمير و الملاهي الليلية ضمن مجموعتنا الصغيرة المتمردة .. لم يُعد أحد على مسامعي حديثا عن الرائليين منذ المرة الأخيرة حتى جاءت هذه الليلة التي اصطحبني أمير و دانيا مع بقية المجموعة إلى إحدى الحفلات في مكان أشبه بقصر أحد أثرياء العهد الملكي في ضواحي المدينة .. و بعد دقائق ولج ثلاثتنا إلى إحدى الحجرات التي بدت كحجرة مكتب حيث كان في إنتظارنا رسول المبعوث الأول الذي تذكرته بعد لحظات من رؤيته بسبب حلته الأنيقة التي تختلف عن ردائه الخاص بالمنظمة .. بادرني بالترحاب و قد بدت الدهشة على ملامحي و أنا لا أدرك السبب وراء هذا اللقاء الذي بدا و كأنه تم تدبيره من قبل أمير و دانيا .. و قد فطن إلى هذه الدهشة فقال "إسمي عزيز علام .. و لا داعي لكل هذه الدهشة .. صديقاك قد تحدثا إلي في شأنك .. و قد رأى كل منهما أن لقاء مثل هذا كفيل أن يجعلك تنضم إلينا "

فقلت " و ما المهم في إنضمامي إلى هذه الدرجة التي تجعل شخص مثلك يقتطع لي من وقته ؟ "

فابتسم قائلا " بدأت رحلة الحقيقة بشخص واحد فقط .. كما الأديان .. بدأت برسول أو نبي واحد في قومه .. لذلك كل شخص هو شخص مهم أن نقتطع له من وقتنا "

فنظرت إليه في صمت للحظات بينما استطرد و هو يجلس إلى مكتبه مشيرا إلينا بالجلوس " أنا لا أعلم شيئا عن حياتك أو عما قامت بغرزه فيك بيئتك المحيطة بك أو ظروف نشأتك و ما إلى ذلك .. و لكن هذا لا يمنعني من مخاطبتك بالمنطق .. ربما سمعت جزءا جيدا من خطابي الماضي و أنا واثق أنه قد وجد طريقا إلى قلبك ... كما ترى فالأمر يبدو منطقيا فنحن بهذا الكوكب في هذا الفضاء الفسيح كحبة قمح في حقل شاسع .. ليس من المنطق أن نكون وحدنا "

فقلت في حنق " لا يعنيني كل هذا الأمر .. ما الغرض من كل هذا ؟ ما الفائدة التي ستعود عليك ؟ "

فقال في استنكار " فائدة ؟ .. لا شيء سوى هداية الناس للحقيقة "

فقلت في سخرية " هداية الناس ؟ ككل الأديان .. ما الفارق ؟ "

فقال في هدوء " الفارق هو أن كل الأديان إنتشرت بشكل محرف بواسطة أولئك الذين أرادوا التحكم بالناس .. جعلوا الدين يتحكم فيك .. و لكن نحن و ما نتبع نخبرك أن كل ما لديك هو ملك لك .. تتصرف فيه كما تشاء .. رغباتك و شهواتك و قدراتك هي منح .. لم تمنح لتوضع في قيود و أغلال .. بل منحت لتستعمل .. و ما دمت تستعملها بلا قيد فلن تؤثر على تفكيرك دائما و بالتالي ستتفرغ للإبداع و التقدم ... أليس هذا ما يحدث في دول الغرب للأشخاص الذين لا يتبعون قيدا في حياتهم ؟ .. ستجد أكثر مبدعي و عباقرة العالم لا يتبعون أي دين .. و رغم أنهم لا يتبعون مذهبنا نظريا فهذا لن يضير فهم يتبعونه بالفطرة "

تنهدت و أنا أشعر بالضيق في داخلي قبل أن أقول " لست ُ عبقريا ولا مبدعا .. أنا مجرد فتى من حي فقير .. لا أريد سوى أن أحيى .. لا أريد سوى أن أهجر الحرمان و الحزن و الفقر .. "

فقال مبتسما في ثقة " كيف تهدر حق ذاتك بهذا الحديث ؟ .. لقد أخبرني أمير أنك كنت من المتفوقين في إحدى فترات الدارسة ..هذا لا يعني سوى أمر واحد .. أن الحرمان و الفقر هم من منعوك من التفوق و ألقوا بك في قاع المجتمع .. و لماذا الحرمان و الفقر ؟ و أنا أراك الآن على غير ما تقول .. لأنك قد تذوقت لذة إرضاء نفسك فاستراحت .. و معنا ستنتقل لمستويات من الثراء كصديقك أمير .. و سيكون آخر ما يشغل بالك هو كم من المال معك "

فقلت في شرود " هل تعتقد هذا ؟ "

فقال " بني .. النفس بغرائزها كالحيوان .. كلما إزدادت جوعا إزدادت شراسة .. و لأنها لا تجد ما تقتات عليه فهي تقتات على روحك "

مرت لحظات من الصمت قبل أن أنهض لأغادر .. و ما أن اقتربت من الباب حتى استوقفني قائلا " فكر قليلا فيما قلت .. و إن أحببت الإنضمام سيسرني كثيرا أن نتحادث بعمق في كل شيء .. و صدقني أنك لن تندم أبدا فأنا أقدم لك كل ما سيسعدك .. و كل ما كنت تبحث عنه طوال حياتك "

غادرت الحجرة و قد لحقت بي دانيا ترافقني عائدين إلى الحشد و هي تسألني " ما رأيك في حديثه ؟"

فقلت لها " لا أعلم ماذا علي أن أفعل .. أنا فقط لا أريد أن أتبع شيئا .. لا أريد التفكير في شيء .. لا أريد سوى الإستمتاع بالوقت الراهن .. التفكير يؤلمني كثيرا "

فربتت على خديّ و هي تقول " الصراع بين المتأصل فيك و التغيير يبدأ بالتفكير .. لهذا يؤلمك .. هوّن على نفسك فلا أحد يتعجلك في شيء .. خذ الوقت الذي تريده ستصل بنفسك إلى الحقيقة "

فسألتها " و لماذا عليّ أن أتبع شيئا مادمت أحيى بشكل جيد "

فابتسمت قائلة " لكل شيء منهج بالطبع .. و أصحاب المنهج لن يساعدوا إلا من يتبع المنهج "

ثم جذبتني من ذراعي إلى منصة الرقص و هي تقول " دعنا ننفض عن عقولنا هذه الضغوط لنعد إليها في وقت آخر .. لنستمتع قليلا الليلة "

و لكن أوان الإستمتاع قد فات بالنسبة لي ... فقد تعكر صفوي بصراع حاولت أن أتجنبه مرارا حتى و أنا منغمس في الملذات المحرمة .. كنت أتعمد أن أتناسى كل ما يتعلق بالدين .. لم أعد قلقا من ترك الصلاة كما كنت في السابق .. لم أعد أرتعد عند شرب الخمر كما ارتعدت عند ملامستها أول مرة .. أصبحت المضاجعة أكثر متعة يوما بعد يوم .. و رغم ذلك يوخز نفسي التفكير في الأمر .

أمضينا الليلة في بيت دانيا .. و بعد ذلك بيومين قضيت ليلتي في بيت أمير دون رفقة سواه .. و تفاجئنا في الصباح بباب بيته يطرق و كان القادم هو آخر من كنت أتوقع رؤيته في هذا المكان ..

****************

 " رشيد ؟! ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ "

خطى رشيد بخطوات ثقيلة داخل الشقة و هو يتأمل الفوضى التي تعمها من زجاجات خمر و بقايا مواد مخدرة و كل أثر لعربدة الليالي السابقة قد بدا له واضحا و على وجهه قد ارتسمت ملامح الإشمئزاز و الأسف قبل أن يلتفت إلي في بطء و يقول " بل ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ "..

" ماذا تقصد ؟ " قلتها و أنا أشعر بقليل من الحرج بداخلي فقال " لقد بحثت عنك في كل مكان و لم أجدك .. كنت أعتقد منذ لقائنا الأخير أنك لن تعود إلى هنا .. كنت أظن أنك قد بحثت عني لأنك لم تجد نفسك في هذه الحياة .. و لكن أنظر إلى حالك ... ها أنت منغمس فيها حتى النخاع .. "

فسألته و أنا أتفادى النظر إليه " و لماذا تهتم ؟ "

فقال في هدوءه المعهود " لأننا بيننا ارتباط عُمر .. أليس هذا بكافٍ ليهتم كل منا بالآخر ؟ "

فقلت بحنق " و أين هذا الاهتمام الذي وليتني إياه و أنا أعاني ؟ هل أغدقت عليّ بأموال لتتغير حياتي من جحيم إلى نعيم ؟ "

فقال " و هل كل اهتمام يعني مال ؟ و هل إستدعيتني يوما و لم تجدني بجوارك ؟ و هل سألتني يما حاجة و تنكرت لك ؟ و هل مجيئي اليوم هنا و بحثي عنك لا يعني شيئا ؟ ...لا تقاس الأمور بالمادة يا أخي "

فقلت و قد شعرت ببغض لنفسي في داخلي " رشيد ... أنا أعلم المسئوليات على كاهلك .. و ألمك لطفلك .. و حياتك و همومك .. لم أكن لأسألك مالا تطيق .. و ليس عليك أن تحمل همي .. فأنا قد مللت من حياتي و سعيت لتغييرها .. أنا سعيد حقا الآن .. أنا سعيد "

فقال بنبرة المتشكك " هل أنت حقا سعيد ؟ فأنا لا أرى أمامي سوى شخص في قمة البؤس قد يأس من حياته فاتجه بنفسه صوب الهاوية "

فقلت في حنق " أنا من الأساس كنت متجها صوبها .. كل يوم و أنا أفقد عقلي و نفسي من الكبت و الحرمان و الحاجة .. روحي تآكلت من الوحدة و العجز .. هل وُلدت لأحيى سجين كل هذا الألم ؟ "

فقال رشيد " هل الحياة تخلو من ألم ؟ "

فصاح أمير و قد أيقظه حديثنا " دعه و شأنه يا رشيد .. ما الذي تريده منه ؟ "

فقال رشيد له " بل ما الذي تريده أنت ؟ ما الذي ستستفيده من إفساده ؟ "

فقال أمير " أنا لا أفرض عليه شيئا مثلك .. لقد فتحت له بابا للراحة .. أرشدته إلى طريق أسعده .. بينما أنت تسعى ليظل في حزنه و اكتئابه .. فما الذي ستستفيده أنت سوى أن يظل في حاجة إليك في حين أن كل ما تقدمه له بعض كلمات لا تسمن ولا تغني من جوع "

فعقد رشيد حاجبيه في ضيق و قال " أي راحة تقدمها له و أي سعادة قد يجدها في طريق محفوف بالشهوات و الملذات المحرمة .. و أنت تعلم أن نهاية هذا الطريق الجحيم لا محاله .. لست بمستفيد بهذا الهراء الذي تتهمني به .. بل أنا أرشده فقط بحق الأخوة التي لم تراعيها حق رعايتها .. و ليس عليه أن يحتاج إليّ في غير ذلك .. فكلنا في النهاية نحتاج إلى الله .. هو من يرشدنا و يهدينا .. و هو من يحقق لنا كل سعادة في الدنيا و الآخرة "

فضحك أمير عاليا في سخرية و هو يقول " الله ؟! .. نحن الآن نعرف هويته و ما عليه فلا تعظنا بتخيلاتك "

بدت الصدمة على وجه رشيد و هو ينقل بصره بين أمير و بيني و يردد " هويته ؟ ما عليه ؟ "

اقترب مني و نظر إليّ مباشرة في حين أنني وليت وجهي عنه متمنيا في قرارة نفسي أن يغادر , و لكنه استطرد " إلى أين وصلت معه ؟ إلى أي مستوى في القاع أغرقك ؟ "

فصاح أمير " قاع ؟ .. بل نحن من خرجنا من القاع لنتنفس في نور الحقيقة و الحرية .. أنت الغارق في القاع يا صديقي .. أنت عالق في قيد الدين المزعوم .. مثلك مثل السواد الأعظم تحرركم الأوحد هو تحرركم مسئولية حياتكم لتعليق كل فشل و ألم و تكاسل و تخاذل على أكتاف القدر و النصيب و إرادة الله .. في حين أنه لو كان هناك إله فهو لا يعبأ بكم .. هذه هي الحقيقة ... لو كان مطلا علينا من السموات .. لو كان معنا أينما كنا .. فهذا أسوأ يا رشيد .. أسوأ بكثير من ألا يكون له وجود .. هذا يعني أنه صامت عاجز عن فعل شيء .. أو أنه يستطيع فعل كل شيء مثلما يدعي المؤمنون به و لكنه لا يعبأ .. و طالما لا يعبأ بالمؤمنين و ما يحدث لهم .. فهو لا يعبأ بالذين يكفرون به "

قال رشيد في ذهول " ما الذي تقوله ؟ كنت أعتقد أنني بصدد إنحراف عن الطريق .. مجرد إنحراف تحت وطأة الضعف .. بعض المعاصي و الذنوب .. لم أكن أتخيل أن الأمر قد ذهب بكما إلى أبعد من هذا بكثير .. الكفر و الإلحاد ؟! حقا ؟! .. كيف هذا ؟ .. كيف تكون مقتنعا بعدم وجود الله في هذا الكون و كل شيء مسير بحكمته و قدرته ؟ .. كيف تجرؤ على الخوض في هذا الطريق من البداية ؟ "

فقال أمير " هي الجرأة يا صديقي .. الجبناء فقط من خضعوا للفكر المتوارث .. مثل أولئك الذين يعبدون الأبقار .. و أولئك الذين يعبدون الأصنام .. و غيرهم و غيرهم .. هم على قناعة تامة بأنهم على صواب و حق و قد يحاربون و يقتلون و يُقتلون في سبيل هذا المعتقد الذي أنت ذاتك تراه غير منطقي ولا يقبله عقل .. و أنا مثلك أرى هذا فيك الآن .. "

فصاح رشيد " لا يمكن أن تتساوى المعتقدات بهذا الشكل المجحف .. و لا يمكنك أن تستهزيء بالإيمان لهذه الدرجة السخيفة لتضع مبررا أحمقا لتنكر كل هذه المنظومة الإلهية .. ألم تتفكر في خلق السموات و الأرض و ما بينهما ؟ .. ألم تتفكر في الخلائق و في نفسك و منظومة جسدك ؟ .. ألم تتدبر كل حدث في حياتك و كل موقف و كل رسالة أرسلها الله لك ؟ "

فتدخلت قائلا في هدوء " رشيد .. كل الحديث عن المنظومة الكونية و الخلقية لا يعبأ به معظم الناس .. فالعلماء موجودون بكل أنحاء العالم .. و من العلماء من يعرف كل شيء عن منظومة الجسد و الكون و الخلائق و كل شيء أكثر من ثلاثتنا بكثير و رغم ذلك يقدس وثنا أو حيوانا ما .. فلا أعتقد أن هذا المنحنى العلمي الذي سيتخذه حديثك قد يفيد بشيء في نقاشنا ولا أعبأ به عن نفسي .. و لكني سأسألك .. كيف حال طفلك اليوم ؟ " .

فصمت لحظات و قد بدا عليه الحزن قبل أن يقول " ماذا تقصد بهذا السؤال ؟ "

فقلت بنفس الهدوء " كيف يعاقبك الله على هذا الإيمان بكل هذا الألم ؟ "

فقال و قد لمعت عيناه " و هل تخلو الحياة من الألم ؟ لابد أن يُبتلى الناس فالحياة الدنيا هي اختبار.. أحسب الناس أن يقولوا آمنا و هم لا يُفتنون ؟ "

فقلت " و مع كل إيمانك هذا يتعاظم ألمك ؟ "

فقال و على شفتيه مر شبح ابتسامه " يُبتلى المرء على قدر إيمانه .. و لست في حاجة إلى أن أقص عليك قصة أيوب المؤمن الذي ابتلاه الله بفقد كل شيء .. و لكنه صبر و صمد و احتسب و لم يهتز إيمانه قيد أنملة , فأنعم الله عليه بأضعاف ما فقده جزاءًا لصبره "

فقال أمير ساخرا " مجرد قصة .. أنظر حولك .. كم من مريض يقتات عليه المرض حتى ينتهي .. كم من الجوعى لا يجدون طعاما .. كم من الفقراء و المساكين من يعانون في الحياة و يتجاهل الله دعائهم .. ألم تسمعهم أو تسمع عنهم ؟ .. ألم تراهم في المستشفيات و في الطرق و الشوارع ؟ ألم تراهم على أبواب المساجد ؟ ألم تشاهد الأخبار يوما لترى المجاعات و الكوارث ؟ ألم ترى ضحايا الحروب ؟ لماذا لم يدافع الله عن كل هؤلاء ؟ .. لماذا لم ينقذهم الرب ؟ .. لأن الحقيقة أنهم قد احتموا بجدار من وهم .. و كان على كل فرد فيهم أن يسعى بذاته ..و يحمي نفسه .. و يبقى و لو بالقوة "

فقال رشيد " الذي يلجأ إلى الله حقا لا يخذله .. و لكننا نشكو إلى الناس كي يساعدوننا .. و ليس كما قال يعقوب (إنما أشكو بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله مالا تعلمون ) لم يؤمنوا حقا ( و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ... لم يحتموا بالله على ثقة فيه كــ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل * فانقلبوا بنعمةٍ من الله و فضل ٍ لم يمسسهم سوء و اتَّبعوا رضوان الله و الله ذو فضل عظيم ) ... كل هذا الأمر يدور حول الصمود و الثقة بالله .. و طالما تؤمن بالله فأنت تؤمن أنك عابر في هذه الحياة تتحمل المسئوليات الموكلة إليك كرجل .. تصمد كرجل .. أمام الابتلاءات , العقبات , الأعداء , وساوس النفس و الشيطان .. تصمد أمام رغباتك و شهواتك .. تصمد و بداخلك يقين أن الله لن يخذلك في النهاية .. ستعبر هذه الحياة و تخرج منها رجلا صمد و احتسب و جاهد نفسه و فوق كل ذلك كان على حافظ على ثقته في الله .. أولئك الذين كفروا بوجود الله و الذين عاثوا في الأرض فسادا و الذين أزهقوا أرواحهم هم من فقدوا الثقة في الله ..يأسوا .. ولا ييأس من روح الله إلا الكافرون .. و مخزى الحياة كلها مبنٍ على هذه الثقة .. تثق و تصمد و ترضى .. فلا تلوم الدين .. لا تلوم الله على عدم ثقتك أنت .. أنت من أهدرت حياتك و أنت من تخاذلت و أنت من فقدت ثقتك به .. "

فقال أمير " و ماذا عن الأطفال و عن ذوي الاحتياجات الخاصة و الضعفاء من الجاهلين بما تتحدث عنه الذين تم تعذيبهم و قتلهم ؟ .. ما الذنب الذي اقترفوه ؟ "

فابتسم رشيد و هو يقول " لا شيء .. وجودهم في الحياة و موتهم بهذه الطريقة لم يكن لمحاسبتهم .. فالله قد تولى أمرهم من قبل أن يأتوا إلينا .. بل وجودهم لإختبارنا نحن ..لنتحمل نحن هذا الذنب جزاء تخاذلنا عنهم .. جزاء عدم رحمتنا ... الله يختبرنا بالضعفاء و المرضى و الفقراء و المساكين و حتى الحيوانات .. يختبر رحمتنا بغيرنا .. يختبر إكرامنا لأنفسنا .. الله وضع جزء واحد في الأرض من مائة جزء من الرحمة .. فكل رحمة تبرزها لكائن تنال أضعافها من الله .. و كل عفو و مغفرة و تجاوز و دعم يُعد في قانون الله إحسانا .. و الله يحب المحسنين ."

فقلت في حنق " ماذا تريد أن تقول يا رشيد ؟ هل أنا المذنب الآن مع كل هذا الصبر الذي لم يجلب عليّ سوى الألم ؟ هل هذا ما تريد أن تقوله ؟ "

فقال رشيد " يا أخي .. أنت صبرت و لكنك لم تكن تشعر بالرضى .. كنت ساخط حانق فأصابك الوهن لتسقط فيما أنت فيه الآن .. و لو أنك تحليت بالثقة لهدأت نفسك حتى مع الألم .. و لعلمت أن لو اجتمعت الإنس و الجن على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك .. و لعلمت أن النار قد حفت بالشهوات و أن الجنة قد حفت بالمكاره .. و لعلمت أن النجاة العظمى هي ألا يختم لك بخاتمة أهل النار في نهاية عمرك .. و لعلمت أن سلب روحك جزءا جزءا لأهون من تُسلب الإيمان قبل الموت .. و لعلمت أن من زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز .. و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" .

فصاح أمير و هو يحاول هزيمة رشيد " الأديان تسلب الإنسان الإرادة و تزرع فيه الكراهية .. كل الحروب قامت بسببها "

فقال رشيد مصححا " بل تم استغلالها لإقامة الحروب .. الجهاد في الدين كان دفاعا وليس هجوما .. في الإسلام كان يتم إرسال بعثات للتعريف بالدين .. و كان من يدخلون فيه يعانون من الإضطهاد و سوء المعاملة .. فكان لابد من نجدتهم بقوة تحميهم و لا تعتدي على غيرهم من المسالمين .. "

فضحك أمير و هو يقول " ألم ينتشر الإسلام بالسيف ؟ "

فقال رشيد " بل تم حمايته بالسيف ..لو انتشر بالسيف لما وجدت معبدا أو كنيسة يعود إنشائها لما قبل دخول الإسلام .. لما كنت وجدت آثارا و تماثيل قائمة حتى الآن .."

فقال أمير " و الجزية .. ألا تعتبر إستبدادا ؟ "

فابتسم رشيد و هو يقول " عجيب أن يخرج هذا الأمر منك و أنت تحيى ببلد تحتم قوانينها عليك أن تلتزم بدفع الضرائب .. و في كل دولة تذهب أموال الضرائب كرواتب للذين يعملون بحماية المجتمع من الإعتداءات .. الجزية هي قريبة من هذا الأمر .. فهي مقابل عدم إلتحاق دافعها بالجيش لأن الجهاد في الإسلام يضم كل من يستطيع حمل السلاح .. و من لا يستطيع فيتكفل قدر استطاعته بالإنفاق .. و في النهاية لا توجد أي نفقة من صدقة أو زكاة أو جزية إلا على من يستطيع أداءها .."

فصاح أمير " و الرجم و المواريث و.. و.. هناك الكثير من الأمور "

فقال رشيد " أنت لا تعلم شيء عن الكفارات و لا تعلم شيء عن المواريث .. لا أرى أمامي سوى شخص تعمد التغافل و التجاهل .. هل تعلم لماذا ؟ لأن هدفك ليس البحث عن الحقيقة .. هدفك هو الخروج عن الدين ليكن كل شيء مباح لك .. و لذلك تعزز نفسك بمن مثلك " قالها و هو ينظر إليّ .

إجتاحني ألم في جسدي و شعرت بأن رأسي ستنفجر فهرولت خارجا من البيت على غير هدى حتى قادتني ساقاي إلى بيتي .. و لم أدر كم مر بي من الوقت حتى لحق بي رشيد الذي بادرته بكلامي " لا أود أن نستأنف الحديث في الأمر "

فقال رشيد " لا أود أن أهجرك لهواجسك .. ماذا حدث لك ؟ "

فوليته ظهري و اقتربت من الشرفة قبل أن أقول " شعرت بالخذلان .. هذا القلب في داخلي مرارا تحطم .. هذه النفس تحتضر من الألم .. عقلي أذابته الضغوط .. طالي عليّ الأمد حتى ظننت أنه قد نسي أمري .. أو ربما لم يعد يعبأ بي "

جاءني صوت رشيد يقول " لا أعتقد ذلك "

فقلت له " و ما يدريك ؟ "

فاقترب مني ببطء و هو يقول " لأنني أعبأ بك .. هل تعتقد أنني قد سعيت إليك من قبيل الصدفة ؟ هل تعتقد أن في زمرة إنشغالات الحياة قد وجدت متسعا لك فجأة في هذا الوقت بالذات ؟ .. هل تعتقد أن رشيد جاء إليك دون تخطيط من الله ليدركك ؟ ... يا أخي .. إن أنعم الله و إن لم نراها بعيننا .. فإننا نراها بقلوبنا إن صفت و تدبرت و تفكرت فيما حولها ... أليست تلك الفتاة التي حدثتني عنها من قبل ؟ "

فأدركت أنه يقصد لبنى فنظرت ناحيتها فإذا بها جالسة تقرأ القرآن فاستطرد رشيد " كم أن أنعم الله عليك تفوق ما لديها .. و رغم ذلك هي من الصبر و الجلد ما يفوق كثيرا من الناس .. لا أرى سوى أن الله لن يضيع هذا .. "

فالتفت إليه و أنا أقول " و ما الذي قد يحدث لحياة هذه البائسة ليسعدها ؟ .. لقد رأيتها كثيرا في مخيلتي تنهي حياتها البائسة بقفزة من شرفتها "

فقال رشيد " و ما كان الله ليضيع إيمانكم .. إن الله بالناس لرؤوف رحيم " قالها مبتسما و هو ينظر تجاه لبنى قبل أن تتبدل إبتسامته لنظرة قلق فنظرت بدوري إليها فبدت و كأن الأرض تميد بها فصحت قائلا " إنها تفقد الوعي .. لندركها " قلتها و أنا أهرع و من خلفي رشيد يقول " لقد ساقنا الله إلى هنا في هذا الوقت لهدف " .

وصلنا إلى بيت لبنى و فتحنا الباب عنوة لنحملها عن الأرض لفراشها .. كان وجهها أصفر اللون و أقرب إلى البرودة .. فأحضرنا لها الطبيب الذي أخبرنا أنها تعاني من الضعف الشديد لقلة الطعام .. و قد قام بتوصيل بعض محاليل التغذية إليها لتقويتها ... و بينما أقوم بتوصيل الطبيب إذا بسيدتين و شاب وسيم بدا يتقدمان للبيت فبادرتني إحدى السيدتين قائلة " أليس هذه بيت الآنسة لبنى ؟ "

فقلت لها " نعم .. من حضراتكم ؟ "

فقالت مبتسمة " أنا السيدة آمال صاحبة الدار التي تعمل به لبنى .. و هذا السيد أمجد و والدته "

فقمت بالترحيب بهم إلى داخل البيت و قد لاحظت أن أمجد كفيف لا يرى .. و بدا على السيدة آمال التساؤل بشأن هويتي أنا و رشيد الذي فطن إلى ذلك فقال " نحن جاراها و أخواها .. هي طريحة الفراش بالداخل "

فتسائلت آمال بقلق " لعله خيرا ؟ منذ وفاة والدتها لم أراها "

فقلت " لقد تأذت نفسيا كثيرا لفقدان والدتها .. لقد زهدت الطعام لفترات طويلة و هذا ما أصابها بالإعياء "

فقالت آمال مبتسمة " لطالما كانت فتاة رقيقة و حساسة .. أتمنى أن تصير بخير عاجلا "

قال أمجد " إسمح لي يا سيدي بالحديث عن سبب زيارتنا و معذرة أن الوقت يبدو غير مناسبا "

فتبادلت و رشيد نظرات الدهشة و أنا أقول " بالطبع ... تفضل بالحديث "

فقال أمجد " ربما تعلم أن الآنسة لبنى تعمل بدار رعاية للمكفوفين .. الدار ليست للرعاية فقط بل لتأهيل من فقد بصره لكيفية التعامل مع الحياة .. أنا أمجد شكري و هذه والدتي أفضل من يعرفني و يعرف ما كنت عليه قبل أن أفقد بصري .. شابا ثريا لديه كل شيء .. حتى أنني كنت أظن أني أمتلك المشاعر الصادقة .. و لكني فقدتها مع بصري في حادث سيارة .. ابتعد عني معظم أصدقائي و البقية لم يحتملوا حالتي النفسية .. الوحيدة التي احتملتها بكل تفانٍ هي لبنى ... أعذرني على هذه المقدمة الضرورية لتدرك لما قدمت إلى هنا .. فبعد أن بذلت لبنى من الجهد معي حتى أصبحت أرى بقلبي ما لم أراه بعيني قبل ذلك .. أيقنت أنها هي من أريد رفقتها بقية حياتي .. "

أصابتني و رشيد دهشة ممزوجة بابتسامة تترقب سعادة قادمة قبل أن أقول " سيد أمجد .. إنه ليسعدني قولك كثيرا .. و لكن ينبغي أن أتأكد أنك تعلم كل شيء عن لبنى و خصوصا شكلها .. هذا لأننا لن نسمح أن تكون عرضة للسخرية .. قلبها الرقيق لن يحتمل أمرا آخر .. فأرجوك أخبرني أنك تدرك ما أرمي إليه "

فابتسم أمجد و قال " أدرك تماما كل شيء .. و اعلم أن هدفي فيما تبقى من حياتي هو أن أجعلها سعيدة دائما .. سنسافر في جولة حول العالم لأساعدها على رفع حالتها المعنوية .. أنا أدين لها بذلك ... لولا تواجدها لربما كنت قضيت على حياتي بيدي .. و أتمنى أن تسمحا لي بنقلها إلى مستشفى خاصة لمباشرة حالتها .. و لتتم إجراءات الزواج سريعا "

فاتسعت ابتسامة رشيد و هو يقول " بالطبع .. بالطبع .. كم لله من لطف خفي .. كم لله من لطف خفي"

أما عني فقد نهضت لألقي نظرة على لبنى التي رغم نومها ارتسمت ابتسامة على شفتيها و كأن أحدهم همس لها في منامها بما يحدث .. و كأن الله أخبرها .

في هذه اللحظة تذكرت حسن و ما حدث له , و الذاكرة الألكترونية المفقودة .. و لم أجد بدا إلا من فعل شيئا واحد لكشف حقيقة ما حدث .

******************************

الفصل الخامس

جلست في ثيابها السوداء و ملامح الحزن قد كست وجهها و هي تقول " لا أعلم الدافع وراء ما حدث .. لقد كنا بخير .. أخبرته مرارا أن وجوده بجانبي كان يكفيني .. و لكن منذ أن راسل أمير بخصوص أمر الإنجاب و قد .."

قاطعت زوجة حسن مرددا " أمير ؟! "

فقالت " نعم .. هو من أقنعه بالسفر .. بعد عدة أشهر عاد و كان على غير طبيعته المعهودة .. شاردا معظم الوقت , قلقا , و أكثر عصبية و غموضا .. بعد لقاءه بأمير قبل وفاته بأسبوع .. كان ... "

شردت فيما تقول .. و تساءلت لما لم يخبرني أمير عن كل هذا .. لما كذب في إدعاءه عند مهاتفتي للمرة الأولى و قد أخبرني أنه قد وصل من الخارج يوم وفاة حسن ..تذكرته عندما قال في اليوم التالي لوفاة حسن " سأقوم بسحب بعض المال من الصراف الآلي للدفع لصاحب الشقة و سأعود إليك " ..

راودتني الشكوك أن أمير وراء اختفاء الذاكرة الألكترونية , فقلت للزوجة " هناك أمر يجب أن أخبرك به .. لقد ترك لي حسن رسالة ما "

فقاطعتني قائلة " نعم أعلم .. لقد وجدتها و أخبرت حسين أن يسلمها لك "

فقلت " و هذا ما حدث .. كانت ذاكرة ألكترونية لم يتسن لي أن أعرف ما بها .. فقد فقدت بعض أشيائي و أنا عائد ليلتها إلى المنزل .. و قد تحرجت طوال هذه المدة أن أخبرك عن الأمر "

فقالت " هذا أمر مؤسف .. و لكن ما الذي أستطيع فعله "

فقلت لها " من البديهي أن تكون المعلومات التي على الذاكرة موجودة بجهاز الحاسوب الخاص بحسن .. أليس كذلك ؟ "

فصمتت للحظات قبل أن تقول " لدي حاسوبه النقال بالفعل .. أعتقد أنه لا ضير من أن تراه .. و لكن لديه كلمة سر للدخول لا أعرفها "

فقلت لها مبتسما " سأهتم بهذا الأمر لا تقلقي .. و سأعيده إليكِ بعدما أنتهي "

فقالت و هي تنهض متوجهه إلى الداخل لتحضر الحاسوب " أنا متأكدة من ذلك .. لقد تحدث حسن عنك كثيرا و عن ثقته بك .. أتمنى أن تجد ما تركه لك "

و أنا أيضا كنت أتمنى ذلك .. فما أن حصلت على حاسوبه النقال حتى انطلقت به إلى بيتي و أخرجت إسطوانات البرامج الرقمية الخاصة بفك تشفير الحواسيب و بعد عدة دقائق استطعت أن ألج إلى ملفات الحاسوب .. و لا أعلم ما الذي أودى بي أن أتفقد تسجيلات الكاميرة أولا .. فوجدت تسجيلات لحسن شخصيا و بدأت في مشاهدتها ..

" صديقي العزيز .. مادمت تشاهد هذا فأنا بالتأكيد ميت .. اِعلم أنني لم أحاول التواصل معك حتى لا تكون عرضة للخطر .. و لم أذكر اسمك الآن مخافة أن تسقط هذه التسجيلات بيد أحدهم قبل أن تصل إليك .. و لم أحادث رشيد في شيء حتى أجنبه مخاطر الأمر .. فلديه أسرة تحتاج إليه .. أحتاج إلى تركيزك في حديثي هذا فليس لدي الكثير من الوقت و سأبتعد عن بيتي لأنني أشعر بأن الخطر يقترب بينما أحادثك الآن ... بدأ الأمر عندما أقنعني أمير بضرورة السفر للعلاج و قد قام بترتيب كل شيء و لديه معارف بالخارج .. و لكنني اكتشفت أنه يريد ضمي إلى جماعة ما تؤمن بإنتساب الجنس البشري لكائنات فضائية .. استغرقت بعض الوقت في محاولة فهم الأمر و لكنهم أحاطوني بكل ما يطمح به رجل للتأثير علي .. و خاصة بفتاة تسمى دانيا هي ابنة أحد قادة هذه الجماعة و يسمى عزيز .. و لكنني قد توغلت إلى أبعد من هذا لأنني قد شككت في أهداف هذه الجماعة .. أقنعتهم أني قد آمنت بما يدعون إليه و راقبت عزيز عن كثب حتى أدركت أن الجماعة هي مجرد برنامج ضمن خطة ضخمة لمنظمة أكبر و أقوى مما تتخيل , يطلقون على أنفسهم " خلفاء الرب ".. و على قدر تفاهة هذا البرنامج كما يبدو .. إلا أن القائمين عليه في منتهى الخطورة .. و يبدو أن خطة المنظمة المجهولة هي تفتيت كل كيان متماسك في هذا العالم .. سواء علمي أو ديني أو قومي .. للتحكم في مقدرات الشعوب و تهيئة الأحداث بما يخدمهم في النهاية .. و لا يوجد أحد على دراية كافية بأصل هذه المنظمة أو مكان تجمعها .. و لكني استطعت التسلل إلى حاسوب عزيز و الحصول على بعض المعلومات الهامة التي قد تساعد في تقصي هذه المنظمة .. كل هذه المعلومات قمت بتخزينها على ذاكرة ألكترونية أخرى و قمت بحذفها من الحاسوب الخاص بي .. أما عن المكان الذي سأقوم بتخبئتها فيه .. فمادمت تشاهد هذا التسجيل .. فبالتأكيد ستدرك أين قمت بتخبئتها ..لقد فطنوا إلى ما فعلت و طاردوني لذلك .. إن أردت أن تترك الأمر جانبا فاتركه .. و إن أردت أن تخوض فيه فأتمنى أن تكون بخير يا أخي .. لم أعلم سواك يستطيع أن يخوض في هذا الأمر .. ربما لأنه ليس لديك ما تخسره .. و لكن لتعلم أني لطالما أحببتك كأخي حسين .. حاذر من الجميع و لتعتني بنفسك جيدا .. ولا تجعل أحدا في هذه العالم يفقدك إيمانك .. وداعا "

لم أكن أعلم بعد إنتهاء حديثه ماذا علي أن أفعل .. هل أخوض في الأمر أم أتركه وراء ظهري .. أعود لسكون قبري الحي مرة أخرى .. أم أن كل ما حدث كان رسالة من الله لأنهض .. كصدمة كهربية لقلب توقف عن العمل .. و لكنني شعرت في النهاية بأنه يتوجب علي الذهاب للحصول على الذاكرة الألكترونية الأخرى .. و لقد خمنت أين يمكن أن تكون .

****************

أعلى بناية غير مكتملة البناء في الموقع الذي كان يعمل تحت إشراف من حسن , كنت أقف في الموضع الذي قالوا أن حسن قد قفز منه منتحرا .. أتيت متخوفا من أنهم قد استأنفوا البناء , و لكنني تعجبت من أن كل شيء كما هو منذ وفاة حسن .. تحسست كل جدار و حجر و شق حتى وجدت الذاكرة مدفوعة إلى أحد الشقوق بحائط جانبي .. تناولتها و أنا أشعر بالبهجة قبل أن أنتبه إلى الذي يجلس مستندا إلى أحد الأركان يراقبني قبل أن يقول " لقد حاولت كثيرا أن أثنيه عن خوضه فيما لا يعنيه .. كنت في البداية لا أريد سوى مساعدته كصديق .. و لكنه لم يكتف بالرحيل فقط .. فضوله قاده لتدمير ذاته .. الفضول .. كما تفعل الآن " قالها و هو ينهض إلي ببطء .

فقلت و قد تسلل القلق إلى نفسي " هل قتلت حسن يا أمير ؟ .. هل دفعته من هنا ؟ .. هل ستقتلني مثله ؟ أي شيء جعلك تقتل أصدقاء عمرك و تضحي بهم هكذا ؟ "

تسمر مكانه للحظات و قد بدا مزيجا من الحزن و الغضب على وجهه قبل أن يقول " أنا لم أقصد أن أقتله .. كنت أريده أن يسلمني ما حصل عليه .. ظننت أن الذاكرة في أحد جيوبه فاشتبكت معه لأحصل عليها .. و لكنه سقط .. لقد بكيته كثيرا إن كان للأمر قيمة لديك .. و قد أخبرت عزيز أنني قد وجدتها و دمرتها .. حتى رأيت حسين يناولك المظروف في العزاء .. فظننت أنها الذاكرة الألكترونية المنشودة .. لذلك سعيت لأن تقضي ليلتك عندي .. و سعيت لأن ألهيك عن أن تبحث عنها حتى أعرف محتواها .. "

فسألته " و بعدما عرفت محتواها لماذا أبقيت عليّ بالقرب منك ؟ "

أشعل إحدى سجائره قبل أن يجيب " ربما لأنني شعرت أنك ستصل يوما للحقيقة .. ربما لأنك أكثر ذكاءً مما تعتقد .. أنت فقط شديد البؤس و الرثاء لذاتك .. ربما اعتقدت أنك إذا وصلت لشيء سيكون الحصول عليه منك أكثر سهولة من الحصول عليه من حسن "

فقلت و قد بدا الأسف في صوتي " الآن بت تعرف أن هذا ليس بصحيح "

ابتسم في مرارة و هو يتقدم ناحية الحافة و ينظر في الأفق قبل أن يقول " الآن بت أعرف أنني قد زججت بنفسي في معركة ليست لي .. كنت أتبع شهواتي و أهوائي التي دفعتني في هذا الطريق .. ظننت أن هذا لن يسبب الضرر يوما لأحد .. و لكنني في النهاية قد تسببت بالضرر لأقرب الناس إليّ .. أحيانا يأخني الشرود إلى الماضي البعيد حيث كنا .. أنا و أنت و رشيد و حسن أطفالا نلهو و نلعب .. و أكثر شيء كان يهمنا وقتها هو كيف سنستمتع بالعطلة الصيفية .. كان أكثر ما يخيفنا الظلام .. كيف إزدادت الحياة تعقيدا إلى هذا الحد .. كيف أصبحنا هكذا ؟ "

وضعت يدي على كتفه و أنا أقول له " لايزال هناك وقت لإصلاح الأمر .. يمكننا العودة كما كنا بالسابق "

فابتسم و قال " رشيد هو الذي لم يتغير .. رشيد هو من اعتاد دائما أن يصلح ما نفسده فينا .. إلزمه فهو لا يريد لنا سوى الخير "

ثم أخرج مفاتيحه من جيبه و أعطاها لي و هو يقول " عليك القيادة هذه المرة .. لنخرج من هنا فهذا الموقع يعود للجماعة على أي حال .. لذلك توقف كل شيء لفترة "

فأومأت له بالإيجاب و اتجهت إلى مخرج الباب فاستوقفني و لم يكن قد تحرك من مكانه " لن تجد معضلة في ولوج حاسوبي .. ستجد كل ما قد يساعدك .. أما أنا فكل شيء قد يحطمني بين أيديهم .. و المخرج الوحيد لي من هنا .. "

هرولت إليه و أنا أصيح به " أمير .. إنتظر "

و لكنه ابتسم للمرة الأخيرة و هو يقول " الوداع يا صديقي "

ثم ألقى بنفسه في صمت .. كل هذه الحياة الرغيدة و المتع بأنواعها متكومة أسفل عقار و قد غادرتها الروح .. بكيت حزنا على هذه النهاية المؤلمة .. بكيت و أنا في طريق العودة و أتذكر مشاهد تجمعنا أطفالا و مراهقين .. أبلغت عن الحادث من هاتف عمومي فلم أستطع أن أتركه هكذا .. و لم أستطع أن أضع نفسي في واجهة التساؤل عن الأحداث التي أودت بحياته .

هاتفت رشيد و طلبت منه مقابلتي عاجلا فلم يتوانى .. و ما أن تقابلنا حتى أخبرته بكل شيء .. ألم به حزن عميق على ما حدث و قال " كنت أتمنى لو استطعت أن أنقذه مما خاض فيه .. سأصلي من أجله دائما عسى الله أن يغفر له .. "

تساءلت في حزن " و ماذا علي أن أفعل الآن ؟ "

فقال في حيرة " لا أعرف بما أنصحك .. الأمر يعود إليك .. إما أن تتوقف عن متابعة الأمر و تنتبه لحياتك الخاصة .. و إما أن تخوض المخاطر لفضح أولئك الشياطين و قد لا تسلم .. الأمر يعود إليك"

فساد الصمت للحظات قبل أن أقول " لا أعتقد أن كل ما مررت به في هذه الفترة كان لأعود لحياتي في هدوء و إن تغيرت رؤيتي لها للأفضل .. أعتقد أن علي الثأر من أجل إخوتي .. و من أجل كل أولئك الذين أستغلت المنظمة ضعف إيمانهم لتقويدهم و تقويد عقولهم .. الآن أعلم لماذا أبقاني الله وحيدا طيلة هذه الفترة .. كما كنت تقول لا شيء يكون إلا لهدف و حكمة لا تعلمها إلا في وقتها .. سأخوض هذا الأمر وحدي بلا خوف .. "

فقال رشيد " و هل ستصمد وحدك ضدهم ؟ "

فابتسمت و قلت " كل أمة منشأها رجل واحد .. و لكنه مدعوم من الله .. الآن أنا على ثقة بأن الله سيحميني حتى أسقطهم جميعا "

فابتسم رشيد و ربت على كتفي و هو يقول " سأكون موجودا دائما إن احتجتني في شيء "

قام كلانا بتوديع الآخرعلى أمل أن نلتقي على خير في المستقبل ..

******************

 عدت إلى بيتي و قد عصفت برأسي الأفكار حول ما قد أستطيع فعله .. و قد قمت بتفريغ محتويات الذاكرة الألكترونية التي تحوي معلومات بسيطة عن منظمة خلفاء الرب .. فقيادة المنظمة مجهولة تماما .. و لكن ينسب إليها التحكم في إقتصاد الدول و الحروب و الإضطرابات التي تمر بالبلاد .. و كذلك الأزمات الصحية و المجتمعية و تدمير البنى التحتية لكثير من الدول .. و الأكثر ضررا هو أن المنظمة قد أخذت على عاتقها مهمة العبث بالعقول و الثقافات و تدمير الثوابت .. فتدمير الإنسان بالنسبة لها يجعل تحكمها بالعالم أكثر سهولة و يسر .. و لكن منظمة بهذه القوة أنا أمثل لها تحديا بمقدار بعوضة .. تستطيع حذفي من الوجود دون عناء .. لذلك يجب عليّ أن أقوم بإنتقاء بعض الأشخاص في وظائف كالصحافة و الإعلام , و البعض الآخر ممن يعملون في الخفاء لأكون فريقا يستطيع مساعدتي في فضح ما يحدث .. و إلى أن يتم تكوين هذا الفريق يجب أن أستمر في مجاراة الجماعة .. و الدنو من عزيز على وجه الخصوص .

في اليوم التالي هاتفتني دانيا و قد بدت منفعلة بحزن و هي تخبرني عن وفاة أمير .. و قد بادلتها هذا التأثر و أنا أدعي الصدمة .. ثم أخبرتني برغبتها في رؤيتي فوافقت على مقابلته في بيتها .. و بعد أن اختلى أحدنا بالآخر قالت و هي تتجرع كأس من الخمر " لم أكن أتخيل أن تكون هذه هي نهاية أمير .. لقد كان مفعما بالحياة .. كيف سمح لنفسه بالسقوط هكذا ؟ "

قلت في أسف " قيل أنه كان منتشيا .. و لكن لا أفهم لماذا ذهب إلى هذا المكان.. يبدو أنه قد تذكر ما حدث لحسن صديقنا .. و قادته قدماه إلى هناك بعد أن بعث لي برسالة نصية عن مكان السيارة و طلب مني أن أسلمها لصاحبها "

فقالت " هل ستتخلص من متعلقاته لتسلم الشقة المستأجرة ؟ "

فقلت لها " ربما أستخدمها بعد نقلها هنا .. ببيتك "

فابتسمت و هي تميل عليّ قائلة " هل قررت أن تمكث معي ؟ "

فقلت مبتسما "و أي مكان أحق بي من ذراعيكِ ؟ "

ثم نهضت من مكاني و أنا أستطرد " أريد أن أنسى هذه الأحداث المؤلمة .. لنسهر الليلة .. و بالمناسبة لقد اقتنعت بكلام السيد عزيز .. ربما نستطيع زيارته "

بدت السعادة عليها و هي تقول " يبدو أن رحيل أمير لن يكون هباءً "

ثم ذهبت لتبديل ملابسها بينما قلت في نفسي " نعم .. لن يكون هباءً "

و بعد عدة أشهر كنت قد أصبحت مقربا من عزيز حتى أنه بدأ يشركني في كثير من الأمور و اللقاءات .. قمت بتطوير قدراتي في مجال التقنية لأعلى مستوى متخذا رغبتي المزيفة في مساندتهم غطاءً لي .. حتى أتت تلك الليلة التي كان متأهبا فيها لإستقبال شخصية هامة .. و قد أدركت في داخلي أن القادم هو أحد قيادات المنظمة.. و خطوة أقرب نحو نهايتها .. و قد طل علينا في المقر الخاص بعزيز في حلته الباهظة و ملامحه التي بدت مألوفة .. فقد أدركت أنه شخصية بارزة في المجتمع ممن لا تخلو الصحف من صورهم .. و بعد ترحيب عزيز به اقترب مني مبتسما و هو يقول " لقد أخبرني عزيز عن الشاب الذي أظهر نباغة و ولاء و حقق تقدما ملحوظا للجماعة في وقت قصير .. و أظنه أنت ... ما اسمك أيها الشاب ؟ "

ارتسمت على شفتي ابتسامة واسعة و أنا أقول " اسمي ...... "

***تمت***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

824 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع