هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة محمد شحاتة
  3. عنبر 27

 

"الضحية دي توفَّت من حوالي 7 لـ 9 ساعات، وبغض النظر عن إنه تم اكتشاف الجريمة والجثة كانت في الأرض على ضهرها، لكن الحقيقة إن الضحية ماتت مخنوقة، وبعد ما اتقتلِت الجاني علَّقها من دراعاتها في الجانش الحديد اللي في السقف، لمدَّة لا تتجاوز الساعة، وبعدها الجاني نزِّل الضحية وسابها على ضهرها في الأرض، لحد ما تم اكتشاف الجريمة".

دي كانت بداية التقرير اللي كتبته، ووقَّعت عليه باسمي "د. إياد مصطفى" كطبيب شرعي، لما استدعوني عشان أساعدهم في تشخيص الجريمة؛ ومحاولة الوصول للجاني، لأن الجاني يكاد يكون وصل للجريمة الكاملة، يعني مفيش بصمات في أي مكان تدل عليه، مفيش شعره من راسه ولا جسمه وقعت في مسرح الجريمة نقدر من خلالها نوصل لحمضه النووي، ومفيش كمان آثار جلد تحت ضوافر الضحية، تدل على إنها كانت بتقاومه، وده بسبب إن في آثار مادة مخدرة قوية لقيتها في الضحية، واضح إنه خدَّرها عشان كده مفيش أي مقاومة حصلت منها، ولا حتى ساب وراه نقطة دم تكون وقعت نتيجة إصابته وهو بيهاجمها، أو آثار رجليه على الأرض، مقاس جزمته مثلًا، مفيش فعلًا أي أثر.

بعد تفكير طويل في الجريمة، اللي راحت ضحيتها بنت عندها 32 سنة، اسمها "ولاء"، مُطلَّقة وعايشة في شقة لوحدها، طبيبة أسنان، سألت نفسي سؤال وأنا بكتب التقرير، ليه الجاني عمل كل ده في الجثة بعد ما خنقها؟ الواضح من الحكاية إنه مكانش يقصد يمثِّل بها، لأن الجثة سليمة، مفيهاش خربوش واحد، لكن مكنش قدامي غير حاجة واحدة، وهو إن المُجرم بيحاول يضلل الناس اللي هتفتِّش وراه، ويعطَّلهم عن إنهم يوصلوله، لحد ما يقدر يهرب مثلًا أو يسيب البلد، ولو حد سألني وقالّي: ولما الجثة كانت على ضهرها في الأرض لحظة ارتكاب الجريمة؟ عرفت منين إنها اتعلَّقت من إيدها في الجانش الحديد اللي في السقف، وبعدها نزلت تاني، أحب أجاوب ببساطة وأقوله: إن بمجرد ما الضحية بتموت، والدورة الدموية بتقف في الجسم، والقلب بيتوقف عن العمل، الدم بيبدأ ينسى مساره، وبيستجيب للجاذبية، وبيبدأ يتجمَّع في أقرب نقطة من الجسم للأرض، وساعتها الجلد في المكان اللي الدم متجمع فيه، بيبدأ ياخد لون الدم، زي ما كان متجمَّع بالظبط في رجلين الضحية وقت ما تم اكتشاف الجريمة، وده دليل إنها اتعلَّقت في السقف بعد ما ماتت، لمدة ساعة على الأقل، لحد ما الدم اتجمّع في رجليها. ده أقرب تحليل للي شوفته، لأن مفيش جثة بتُقف وهي ميِّتة أكيد.

الجاني مسابش وراه أي أثر في مسرح الجريمة، و بعد فحص المكان كويس؛ ملقناش أثر لأي تدخل عنيف، مفيش كسر في باب الشقة ولا الشبابيك، يعني القاتل مكسرش الباب، وده معناه إنه شخص متعوِّد يدخل ويخرج من الشقة، ومعاه مفتاح، لكن كان في احتمال تاني أقوى، وهو إنه رن الجرس أو خبَّط على الباب، ولمَّا هي فتحتله، دخل الشقة وارتكب جريمته، وده كان كفيل بإنه يبعِد الشك شوية عن قرايبها ومعارفها، دا غير إن مفيش سرقة حصلت، يعني لا دولاب اتكسر ولا هدوم وقعت منه، ولا في درج من الأدراج مفتوح، دليل على إن القاتل مكانش بيفتّش على فلوس ولا دهب، دا غير إني مفيش عليها بصمات غير بصمات المجني عليها، الجريمة دي لغز، ولأوِّل مرة النتيجة اللي أوصلّها متساعدش التحقيقات، ولا تخلي العدالة تقدر تاخد مجراها.

دي كانت الهواجس اللي في دماغي؛ بعد ما سلِّمت تقرير التشريح الجنائي للمباحث، وبرغم إن مهمتي انتهت لحد كده، لكن بالي كان مشغول، في الوقت ده تليفوني رن، ولما شوفت رقم المتصل، عرفت إنه معاون مباحث القسم اللي الجريمة تبعه، فتحت المكالمة ورديت عليه وقولتله:

-صباح الفل يا "محمد" بيه.

-صباح الخير يا دكتور "إياد"، التقرير وصلني.

-للأسف ده كل اللي قدرت أوصلُّه، الجاني كان واخد احتياطاته كويس أوي.

-أنا ظابط مباحث يا دكتور، ومؤمن إن مفيش جريمة كاملة، وممكن الجاني يكون اتكشف وهو ميعرفش، بس بيُقع في الوقت المناسب.

-ياترى قدرتوا توصلوا لحاجة عن طريق التحريات؟

-التحريات بتقول إن طليقها مهندس، سافر برَّه البلد بعد ما طلَّقها بأسبوع، ومرجعش لحد دلوقت، إحنا اتأكدنا من الكلام ده عن طريق المنافذ والجوازات، يعني إن المُجرم يكون طليقها ده شيء مُستبعد، دا غير إنها يتيمة أب وأم، وخالتها اللي ربَّتها ماتت من سنة، ومكنش عندها أولاد، وكتبت لها الشقة اللي كانت عايشة فيها، دا غير طبعًا شقتها اللي ورثتها عن أبوها وأمها، وبما إن هي ملهاش حد ينازعها الوِرث في الشقتين، تبقى الشبهة بعيدة عن القرايب، خصوصًا إن التحريات أثبتت إن مفيش حد بيزورها، كل قرايبها بعيد، وكل واحد فيهم مشغول في حاله.

-يعني أفهم من كده إن القضية هتتقيد ضد مجهول؟

-للأسف مش كل القضايا تنفع تتقيد ضد مجهول يا دكتور، في قضايا بتخلَّص نفسها بنفسها.

-لكن نتيجة التشريح مش كفاية عشان نوصل للقاتل.

-تفتكر يا دكتور؛ إيه اللي يمنع القاتل من إنه يسيب أي أثر وراه؟ أو إن شَعره من جِسمه تُقع بدون ما ينتبه، دا الشعر أكتر حاجة بنلاقيها في مسرح الجريمة، نتيجة الشد والجذب ما بين القاتل والضحية.

-مفيش تفسير للحالة دي إلا إن القاتل يكون معندوش شَعر أصلًا.

-بالظبط يا دكتور، كلامك صحيح، لكن برضه وارد جدًا يكون كان لابس حاجة في راسه.

-هو أنت بتشُك في حاجة يا "محمد" بيه؟

-لا أبدًا، دا أنا بدردش معاك كالعادة بعد كل تقرير، يمكن كلامنا يخلينا نوصل لحاجة.

والمكالمة انتهت لحد كده، حطيت التليفون وبدأت أشوف ورايا إيه، بدأت أشتغل على باقي تقارير عندي، لحد ما النبطشية بتاعتي خلصِت، في الوقت ده بيستلم منّي دكتور زميلي، اسمه "حسام"، ولأنه كان من الفريق اللي شارك في مسرح الجريمة، أوِّل ما شافني قالّي:

-مفيش جديد في جريمة الدكتورة "ولاء"؟

-لأ مفيش، القاتل مش سايب وراه حاجة.

-ضد مجهول يعني؟

-الطبيعي إنها تبقى كده؛ لحد ما طرف خيط جديد يظهر، لكن كلام معاون المباحث معايا النهاردة، بيقول غير كده.

-بيقول إيه يعني؟

-بيقول إن في قضايا بتبقى مخلَّصة نفسها بنفسها، وإن في مجرم بيتكشف من غير ما يكون عارف، وبيقع في الوقت المناسب.

-وأنت فهمت إيه من كلامه؟

-فهمت إنه بيتكلم من منطق دوره كظابط مباحث، بتبقى كبيرة إن مرتكب جريمة يفلِت من تحت إيده، إلا لو كانت التحريات بقى وصلت لحاجة مالهاش علاقة بالطب الشرعي، ومن مصلحة القضية إنها تفضل سر، عشان كده مقالش عليها.

الحوار ما بيني وبين "حسام" انتهى، وخرجت من المستشفى عشان أروح أقعد على قهوة، أغيَّر جَو وأشربلي سيجارة بعيد عن ريحة الفورمالين والإيثانول، وأشوفلي ماتش في الدوري الإنجليزي، ولو فكَّرتم إني بروح كافيه بروفيشنال وكده تبقوا غلطانين، أنا بروح قهوة بلدي، في منطقة شعبية، ولو سألتوني إيه اللي يخلّي طبيب شرعي يقعد على قهوة بلدي، هقولكم أنا نفسي مش عارف، بس في رغبة داخلية جوايا إني أعيش حياة شخصية بعيدة عن الروتين، والمكانة الاجتماعية وكده.

على القهوة، كنت مندمج مع الماتش اللي شغال لحد ما انتهى، وانتبهت إني قرَّبت أخلص نص علبة السجاير، واتفاجأت إن على ترابيزتي خمس كوبايات شاي فاضيين، مفتكرش شربتهم إمتى، ولا ازاي، أنا فاكر إني شارب 3 كوبايت بس، ولمَّا ناديت صبي القهوة عشان يحاسبني، لقيته بيقولّي:

-تلاتة شاي عشانك يا دكتور، واتنين عشان الضيف اللي كان قاعد معاك، يبقى كده الحسبة كلها 25 جنيه.

استغربت كلامه وقولتله:

-الضيف اللي كان قاعد معايا؟ مفيش حد كان قاعد معايا!

لقيته بيبصّلي كده وقالّي:

-ما توحِّد الله يا دكتور، دي الحكاية كلها كوبايتين شاي بعشرة جنيه، ولما مشي قولتلي حسابه عندي.

-أنا؟!

المشكلة مكانتش في الفلوس، الحكاية إني معرفش مين الضيف ده، ولا جه إمتى ومشي إمتى، ولا شوفت حتى صبي القهوة وهو بينزِّله شاي، كل اللي فاكره إني شارب 3 كوبايات بس!

على أي حال، حاسبت صبي القهوة ومشيت، بعد ما طلَّعت منديل قماش من جيبي، ومسحت الـ 3 كوبايت اللي متأكد إني شربتهم، وقولت يمكن حد قعد جنبي عشان القهوة زحمة، وأنا مشغلتش بالي به عشان الماتش، وصبي القهوة افتكره تبعي، عادي ياما بيحصل، ركبت عربيتي ورجعت على شقّتي، طلعت مفتاح الباب من جيبي وفتحته، وبتصرُّف لا إرادي بعمله علطول، طلعت المنديل القماش من الجيب التاني، ومسحت مقبض الباب مكان إيدي، عارفين المشكلة فين، إن يوصل بك الأمر إن تفاصيل شغلك تبهت على حياتك الشخصية، وجودك ساعات طويلة في مسارح الجريمة، وتفكيرك إزاي المجرمين بيحالوا يخفوا آثار جريمتهم، بقى يخليك تتعامل بطريقة لا إرادية زيهم، الموضوع عامل بالظبط زي بياع العرقسوس، لما بيشيل القِربة على جنبه ويمشي محني في الاتجاه التاني لساعات طويلة، برضو بتكون دي طريقة مشيته لما مابيكونش شايل القِربة، لما تتخيَّل المشهد قدامك، ممكن تبُص لنفسك على إنك قطعة صلصال، وجودها في شكل معين لوقت طويل، بيخليها تنشَف على كده؛ وتفضل في نفس الشكل.

مبقِتش مستغرب من تصرفاتي، ومع الوقت اكتشفت إن المنديل القماش اللي في جيبي، الغرض منه إني أمسح أي حاجة أمسكها مكان إيدي، كوباية، مفاتيح، أوكرة باب، معلقة، لدرجة إن صبي القهوة اتريق عليا كذا مرَّة، لما بيشوفني بمسح الكوبايت بالمنديل بعد ما أحاسب، ولما عرف إني طبيب شرعي، وبتواجد كتير في مسارح الجريمة، عرف إني وصلت لدرجة من الروتين اللي يخليني أتعامل مع كل الأماكن اللي بروحها، باعتبارها مسرح جريمة.

كنت محتاج أنام، لأن شُغلنا بيستمر لساعات طويلة، ما بنصدق نخلَّص ونروَّح ونشوف السرير قدامنا، عشان نرتاح ساعتين ولا تلاتة، وده اللي حصل بمجرد ما دخلت أوضتي، أوِّل ما شوفت السرير قدامي، اترميت عليه من غير حتى ما أغيَّر هدومي، لأني عامل حسابي إني ممكن أصحى على تليفون في أي وقت، وأتبلَّغ إن في جريمة جديدة، ولازم أتواجد في مسرح الجريمة، عشان كده اتعوِّدت أنام أحيانًا بهدوم الخروج، وفعلًا نمت، لكن المرَّة دي مصحيتش على رنة تليفوني، دا أنا صحيت على صوت جرس الباب، استغربت إن في حد جايلي، وأنا أصلًا مفيش حد بيزورني في شقتي، دا غير إني عايش وحيد، مبعملش حاجة في حياتي غير إني بشتغل، وبروح على القهوة، وبروَّح شقتي عشان أنام، دا حتى بواب العمارة مش بيطلعلي.

الموضوع لأنه جديد؛ وغريب في نفس الوقت، أزعجني جدًا، النوم طار من عيني، برغم إني كنت مرهق، قومت مفزوع من السرير، وأخدت بعضي وروحت فتحت باب الشقة، عشان أتفاجأ بمعاون المباحث على الباب، أوِّل ما شوفته استغربت، لكن مكنتش متفاجأ بدرجة كبيرة، أي نعم هو أوِّل مرة يجيلي، وغالبًا لو كان في حاجة تخص أي تقرير كان بيكلمني في التليفون، لكن وجوده قدامي دلوقت، وبشكل مفاجئ كده؛ بيدل على إن في حاجة عاوز يقولهالي بشكل سري، عشان كده قولتله:

-منوَّر يا "محمد" بيه، إيه المفاجأة السعيدة دي؟

-أزعجتك يا دكتور؟

-أكيد لأ، دا أنت منوَّرني، اتفضل ادخل.

دخلنا وقعدنا، وده كان أوِّل لقاء بينا بعيد عن الرسميات، وأعتقد هو مُش هييجي فجأة غير لو في حاجة مهمة، وسرية في نفس الوقت، وفضولي خلاني أستعجل وأسأله:

-في حاجة جديدة ظهرت في التحريات؟

-لأ أنا مُش هنا عشان القضية.

استغربت من إجابته وقولتله:

-أومال سعادتك هنا ليه؟

-عشان أسألك سؤال شخصي يا دكتور.

-شخصي؟! أنا حياتي مفيهاش أي ألغاز تستحق الأسئلة والإجابة عليها، وبرغم كده اسأل.

-إيه اللي يخلي طبيب شرعي، يروح قهوة بلدي في منطقة شعبية، ويتردد عليها من وقت للتاني؟!

ابتسمت كده بعد ما سمعت السؤال وقولتله:

-هو أنتوا مراقبيني ولا إيه؟

-الموضوع مش كده، ولكن كل الناس اللي لها علاقة بشغلنا بتكون تحت النظر، إحنا جهة قانونية، ولازم نتأكد من إن كل اللي بيشتغلوا معانا في السليم، عشان محدّش يزيِّف أي دليل أو مُستند، في مقابل شيء معين، وساعتها في حق ناس مظلومة ممكن يضيع.

-قصدك إيه بالظبط؟ إني مثلًا ممكن أرتشي عشان أكتب تقرير مش مظبوط؟

-بالعكس، أنا مقصدتش كده برضه، وبعدين إحنا بنعرف ازّاي نتأكّد إن كان التقرير مظبوط ولا لأ، وأنت من أكتر الأطباء في الجهاز اللي تقاريرهم مظبوطة.

-أومال إيه الغريبة في إني أقعد على قهوة بلدي، ويخليك تيجي مخصوص عشان تسألني؟

-أصل أنا شاكك في إن مرتكب جريمة "د. ولاء" يكون هو طليقها المهندس اللي كانت متجوزاه، يمكن يكون حب ينتقم منها لما كسبت قضية الطلاق.

-إزاي بقى؟ إذا كنت قولتلي بنفسك إن طليقها سافر بعد طلاقهم بأسبوع، ومرجعش تاني.

-ماهو ده بقى اللغز، اللي وجودك على القهوة هو اللي هيحله، مش يمكن جوزها سافر ومسافرش في نفس الوقت؟!

-أنا مُش فاهم حاجة؟

-مين اللي كان معاك على القهوة النهاردة؟ 

-مفيش حد كان معايا.

-يعني مشربتوش خمسة شاي؟ أنت تلاتة وهو اتنين.

ساعتها كلام صبي القهوة رن في وداني، ولقيته متطابق مع كلام معاون المباحث، ومكنش عندي غير رد واحد لما قولتله:

-فعلًا مكنش في حد معايا.

-بس أنا شوفتك بنفسي، وكان معاك شخص.

-أنت تقصد إن الشخص ده هو طليق الضحية؟

-أنت اللي المفروض تقولي.

-لأ معلش بقى أنا راجل بتاع علم، ماليش في أسلوب التحقيق والغموض، يعني أشوف حاجة قدامي، أقوم أستنتج منها، لكن أنا مش فاهم أي حاجة من اللي بتقوله ده.

-عمومًا؛ أنا جيت أستفسر منك، قولت يمكن عندك حاجة تساعد في القضية، بعيد عن شغل الطب والتشريح وكده، بس شكلك مُرهق، نام وخُد راحتك، ولما ترتاح ممكن ذاكرتك تسترجع أي معلومة، وساعتها اتصل بيا.

وسابني ومشي، لكنه ساب جوايا صراع كبير، صراع كان نتيجة لسؤال واحد بس، مين الشخص اللي هو وصبي القهوة مصممين إني كنت قاعد معاه ده؟!

من طبيعتي لما بقعد في البيت، بحس بخمول ورغبة في النوم، ولأني بذلت مجهود كبير اليومين اللي فاتوا، قررت أركن تفكيري على جنب، وأستسلم للنوم، وفعلًا نمت لحد بعد الفجر، وقومت من النوم صلّيت وبدّلت هدومي، وأخدت بعضي وروحت على المستشفى، عشان أستلم النبطشية من "حسام" زميلي، وصلت وركنت عربيتي وروحت على المكتب، ولما دخلت لقيت "حسام" قاعد، أوِّل ما شافني قولتله:

-صباح الخير يا "حسام"، في جديد؟

لكنه لا رد عليا الصباح، ولا حتى جاوب على سؤالي، وطبعًا دي مُش عادته، عشان كده كنت مستغرب؛ لأنه كان بيبصلي من فوق لتحت، وده اللي خلاني قولتله:

-مالك يابني؟ بتبصلي كده ليه؟!

في اللحظة دي؛ لقيت حد ورايا بيمسكني من دراعي وبيقول:

-اتفضل معانا يا دكتور "إياد".

بصيت ورايا، ولقيتهم ناس من جهاز الشرطة، أنا عارفهم كويس بحكم شغلي معاهم، عشان كده استغربت وقولتلهم:

-أتفضل معاكم على فين؟ إيه التهريج ده؟!

-تعالَ معانا بهدوء ومن غير شوشرة، وفي القسم هتعرف كل حاجة.

خرجت من المستشفى وأنا ماشي جنبهم، المنظر العام مكانش غريب على اللي شايفني، لأن طبيعة شغلي مرتبطة بجهاز الشرطة والأدلة الجنائية، فكان من الطبيعي أمشي معاهم، لكن في القسم، وبالتحديد في مكتب معاون المباحث، وأنا قاعد على الكرسي اللي قدام مكتبه، ومفيش حد معانا غير كاتب التحقيق، كان بياخد بياناتي، اسمي وسنّي وعنواني، عشان يبدأ بيهم محضر رسمي؛ لأني وقتها كنت بواجه تهمة القتل العمد، مع سبق الإصرار والترصد، وطبعًا الضحية اللي أنا كنت متهم بقتلها هي "د. ولاء"، اللي أنا كنت لأول مرة بروح شقتها وقت ما استدعوني عشان أساعدهم في مسرح الجريمة!

تاني يوم الصبح، في العرض على النيابة، أخدت 15 يوم على ذمة التحقيقات، والنيابة انتدبت محامي عشان يدافع عني، اللي بالمناسبة معرفش يعملي أي حاجة، لأن كل شيء كان ضدي.

خلوني أحكيلكم الحكاية من مكاني ده، عنبر 27 رجال، المخصص لحالات الانفصام، واللي أنا مُحتَجز فيه بحكم قضائي، لأني ارتكبت جريمة قتل تحت تأثير مرض نفسي، طبعًا أكيد وأنا بحكيلكم حكايتي هتكونوا مستغربين، يعني هتقولولي ازّاي ده حصل، وإمتى، زي ما أنا كمان بسأل نفسي إزاي ده حصل وإمتى؟ وبما إني مُش فاكر إني عملت كده، لكن خلوني أحكيلكم اللي التحقيقات أثبتته.

الحكاية بدأت من القهوة البلدي، اللي معرفش ليه بحب أروح أقعد فيها من وقت للتاني، وتقريبًا لما بكون في الحالة المرضيَّة، بكون هناك بالشخصية الوهمية اللي اتضحلي إني عايش بها وأنا معرفش، واللي اسمها "سامر كرم عياد"، اللي هو نفس اسم طليق الدكتورة "ولاء".

شايفين الحكاية جت ازاي؟ أنا مستغرب زيكم بالظبط، بس خلوني أحكيلكم، من بين الحاجات اللي كنت بسمعها في التحقيقات، هو إنهم لما راحوا مسرح الجريمة في البداية، كانت في حاجات اتحرَّزت، ولأني روحت متأخر لما استدعوني، مكانش عندي علم بالأحراز، اللي من بينها كانت وثيقة زواج "د. ولاء" من شخصيتي الوهمية، اللي هي "سامر"، وبمطابقة البصمة بتاعتي على وثيقة الزواج، طلعت مطابقة للبصمة اللي في الفيش والتشبيه اللي عملته وأنا بتوظَّف، ومن هنا اتحطيت تحت المراقبة.

خلوني أكمل حكايتي، اللي كنت بسمعها للمرَّة الأولى زيكم بالظبط، وهو إن في تاريخ قبل التاريخ اللي قسيمة الزواج بتقول إني اتجوزت فيه الضحية، اتقابلت على القهوة مع شخص اسمه "فريد الشوباشي"، شخص مُسجل خطر ومطلوب، لأنه بيشتغل في التزوير وفي حاجات كتير، وده بناءً على طلب طلبته منّه بشخصيتي الوهمية، لأني كنت بفكر في السفر، تقريبًا كان عندي طموح أنا معرفش عنه حاجة، وحد دلّني عليه وقالي إنه بيشتغل في الفيَز وبيخلص سفريات وجوازات، ولما قابلته عرفت إنه يقدر يخلص كل ده مقابل مبلغ مالي، وفعلًا أخد الفلوس، وفي خلال أسبوعين كان جايبلي الباسبورت بالفيزا، وعاملي بطاقة باسم "سامر كرم عياد"، دا غير إنه كتبلي مهنة مهندس، وعملي شهادة تخرَّج طبق الأصل؛ محدش يقدر يقول عنها تلت التلاتة كام، طبعًا أنا عرفت كل ده؛ لأنهم قالولي إن معاون المباحث لما شافني قاعد معاه عرفه، وتمت مراقبته والقبض عليه، وطبعًا معاون المباحث كان بيراقبني من بعد ما بصمة "سامر كرم عياد" طابقت بصمة "د. إياد مصطفى"، اللي هو أنا حاليًا، وإن الشخص ده اعترف بكل شيء، وطبعًا لما اتسأل عن علاقته بيا، قالهم إن هو اللي عمل كل الليلة اللي حكيتلكم عنها دي.

بعدها عرفت إن التحريات أثبتت إن أثناء زيارتي لعيادة طبيبة أسنان، بشخصيتي الوهمية، عشان أخلع ضرس كان تاعبني، واللي هي طبعًا عيادة "د. ولاء"، حصل كلام بينا وتعارف بشخصيتي الوهمية، وبعد كده حصل إعجاب، ونظرة فابتسامة فلقاء فجواز، التطور الطبيعي للحاجة الساقعة يعني، لحد ما اتجوِّزتها، لكنها بعد فترة رفعت عليا قضية طلاق للضرر، لأنها كانت مستغربة طريقتي، وحاسة إن قوايا العقلية مش مظبوطة، وإن الحياة معايا مستحيلة، وده طبعًا نص الدعوى اللي النيابة اطَّلعت عليها في محكمة الأسرة، واللي بسببها تم الطلاق بينا، أو عشان أكون دقيق، بينها وبين شخصيتي الوهمية.

مُش ده بس الغريب في الحكاية، الأغرب من كده؛ هو إن الشخص اللي زوَّرلي الأوراق دي، كان عاملي قناع، كنت بلبسة وأنا عايش شخصيتي الوهمية، وده طبعًا كان شكلي في صورة وثيقة جوازي وباسبوري وبطاقتي المزوَّرين، وبعد ما صدر الحكم لصالح الضحية بالطلاق، اتقابلت مع "فريد الشوباشي" عشان يجددلي البطاقة والباسبور اللي المفروض كانوا قربوا ينتهوا، لكنه أخدهم ومرجَّعليش حاجة، واتضحلي إنه سلِّم الباسبور لشخص هربان من حُكم، عشان يخرج به برَّه البلد، هو نفسه اعترف بكده لما اتقبض عليه، عشان كده التحريات أثبتت إن طليق الضحية سافر بعد الطلاق بأسبوع ومرجعش، فهمتوا ليه معاون المباحث قالّي: يمكن طليقها سافر ومسافرش؟ عشان اكتشفوا إن اللي على وثيقة الجواز بصمتي أنا. 

لما دخلت في الحالة المرضية، كان عندي رغبة في الانتقام؛ عشان طليقتي انتصرت عليا، عشان كده روحتلها يوم الجريمة، ومأخدتش بالي إن في كاميرا قريبة كانت مصوراني وأنا داخل بالقناع اللي لابسه، دا غير إنهم وصلوا للصيدلية اللي اشتريت منها المخدر، بدون وعي طبعًا، واتصوَّرت بالقناع وأنا باخد المخدر من الصيدلي، وباقي اللي حصل، اتبنى على الاستنتاجات اللي كتبتها بنفسي في تقرير التشريح، هو إن القاتل رن الجرس والضحية فتحت بشكل طبيعي، ولما فتحت الباب خدَّرها وخنقها، وبما إن روتين شغلي طاغي عليا في كل تصرفاتي، كان طاغي عليا برضه وأنا برتكتب جريمة في حالة من اللاوعي، عشان كده اتصرفت بالطريقة اللي تضلل الأدلة الجنائية، علقت الجثة بعد خنقها، وبعدها نزلتها في الأرض على ضهرها، متعمدتش ألمس أي شيء من محتويات الشقة، ولو حصل كنت بالمنديل اللي دايمًا في جيبي، كنت بمسح مكان إيدي، دا غير إن القناع اللي كنت لابسه؛ كان مانع تساقط الشعر، عشان كده مكنش في حاجة من أثري في مسرح الجريمة، أنا فعلًا عملت حساب كل حاجة وأنا في حالة اللا وعي، حتى باب شقة الضحية اللي خرجت وسيبته مفتوح، عشان ملمسش الباب وأنا خارج وأسيب بصمة بالغلط، عشان كده حد اكتشف الجريمة بعدها بكام ساعة بس، كل حاجة اتعمل حسابها، إلا إني أعمل حساب قسيمة الجواز اللي لقوها قبل ما أوصل لمسرح الجريمة، واللي بالمناسبة، لو كنت لقيتها بنفسي، مكنتش برضه هعرف إن "سامر كرم عياد"، هو نفسه أنا، "د. إياد مصطفى".

لما اتواجهت بكل ده أنكرت طبعًا، لأني بصفتي "إياد مصطفى"، معرفش حاجة عن الاتهامات اللي اتوجِّهتلي، لكن برضه مقدرتش أنكر تطابق البصمات، ولأن الحكاية غريبة، والتصرف مالوش أي مبرر، قرروا يعرضوني على الطب النفسي، اللي أقر بإني بعاني من حالة انفصام، وإني لما بخرج منها بنسى الناس اللي قابلتهم ساعتها، عشان كده نسيت "فريد الشوباشي"، ونسيت "ولاء"، وإن حالة الانفصام اللي عندي شديدة، بتسبب هلاوس، دا غير إن الشخصية المرضية اللي ببقى فيها بتكون عدائية جدًا، ودي كانت مبرر كافي إني أرتكب الجريمة دي، بدافع الانتقام، وبالطريقة اللي حكيتلكم عنها دي، أو بمعنى تاني، اللي اتحكالي أنا وأنتوا عنها، عشان يكون مصيري هنا، في عنبر 27 رجال، انفصام؛ وعشان كل ما أحِس إني "د. إياد مصطفى"، أحكي القصة من أول وجديد، يمكن أصدَّق، إني كنت في يوم من الأيام شخص تاني معرفش عنه حاجة، لكنه ارتكب جريمة بدفع تمنها لحد دلوقت! وإني كنت أقرب من عنكبوت، عقله مشغول في حاجة، لكن كان عنده 8 رجول، كل واحدة فيهم بتعمل جريمة هو مُش دريان بيها، لكنه في النهاية هو اللي هيحاسب على المشاريب، لأن اللي ارتكب الجريمة جزء منه.

تمت...

التعليقات علي الموضوع
تعليق واحد حتي الآن
  • أعجبتني رغم غرابتها ، و هل يمكن فعلا ان تكون هناك حالة انفصام بهذا الشكل الصارخ ، الذي يفصل الشخص الي شخصين منفصلين تماما ! 

المتواجدون حالياً

2334 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع