سقط...
وحين سقط، انكشفت كل الحقائق التي كانت تخفيها ابتسامته الصامدة طوال تلك السنوات.
كان رجلاً متماسكًا، هادئ الطباع، لا يشكو ولا يتذمر، معروفًا بين زملائه بانضباطه وتفانيه في عمله.
رغم تواضع ملابسه وضيق حاله، كان يحاول أن يبدو دائمًا أنيقًا. لكن خلف هذا الهدوء كانت تخفي حياته عبئًا ثقيلًا لم يشاركه مع أحد.
مرت السنوات وهو يحافظ على صمته وتحفظه. لم يعلم أحد عن همومه أو تفاصيل حياته الشخصية.
حتى ذلك اليوم... عندما باغتته أزمة قلبية أثناء عمله. ترنح للحظة ثم سقط.
هرع زملاؤه إليه، لكن محاولاتهم لإنقاذه باءت بالفشل. فارق الحياة فجأة، تاركًا صدمة كبيرة في نفوسهم.
احتاروا في أمره، فقد قضى بينهم سنوات طويلة دون أن يبوح بأي شيء عن أسرته أو منزله. احترموا صمته يومًا بعد يوم، ولم يحاولوا التدخل في حياته الخاصة.
لكن الآن، أصبح واجبهم البحث عن خيط يقودهم إلى أهله. بدأوا بتفحص هاتفه، فلم يجدوا فيه سوى أرقام قليلة تخص العمل. ثم لجأوا إلى محفظته.
كانت شبه خاوية من المال ، بها فقط عدد من الأوراق التي كشفت لهم القليل عن حياته:
الورقة الأولى: شهادة وفاة زوجته التي توفيت منذ سنوات طويلة. إنه أرمل.
الورقة الثانية: رسالة من ابنه الوحيد الذي استقر في دولة خليجية، متزوجًا ومكونًا أسرة هناك، تاركًا والده وحيدًا.
الورقة الثالثة: وصفة طبية تشير إلى انسداد في شرايين القلب، وأدوية تستنزف راتبه بالكامل.
فهموا أخيرًا مأساته. رجل فقد زوجته، وابتعد عنه ابنه، وعاش مريضًا ووحيدًا دون أن يطلب العون أو يفقد هدوءه وابتسامته.
كانت حياته رحلة مرهقة، كما كشفت عنها تلك الأوراق الصغيرة.
لم يتمالك زملاؤه دموعهم. أدركوا أنهم قد تركوه وحيدًا طوال حياته، لكنهم قرروا ألا يتركوه الآن.
أقسموا على أن يكونوا إلى جانبه خلال الساعات الأخيرة، قبل أن يعود مرة أخرى إلى وحدته الأبدية.