البَرد في اليوم دَه كان شديد.. كان مخلّي جسمي يقشعر وأسناني تخبَّط في بعضها.. كنت لابس جاكيت وكوفية وآيس كاب؛ ودافن كفوف إيدي في جيب الجاكيت، بَس كل ده كان بدون فايدة.
لما وصلت الجامعة؛ رُحت على الكافيتيريا لأن كريم كان باعت لي رسالة وقال لي: إنه وصل بدري وقاعد هناك، دخلت قعدت وسلّمت عليه بالكلام؛ لأني مكنتش قادر أطلَّع إيدي من جيب الجاكيت، وساعتها كريم سألني:
-مالك يا عصام؛ بترتعش ليه كده؟
استغربت لأن الإجابة معروفة، إحنا في أواخر ديسمبر، عِز الشّتا زي ما بيقولوا.. بَس لاحظت حاجة غريبة، كريم كان قاعد عادي؛ وواضح إنه مش متأثر بالبرد زي حالاتي، عشان كده جاوبت سؤاله:
-هكون برتِعش ليه يا كريم؛ ما أنت شايف الجَو عامل إزاي.
-الجو زي كل يوم، يظهر بَس إن العضمة كبرت.
-عَضمة آه، ماشي يا عم الجزار، بس أنت قاعد يعني والبرد ولا على بالك، أوعى تكون بتشرب مشروبات طاقة من ورايا.
-طاقة مين بس يا عصام.. سيبك أنت من الكلام ده وقول لي: هو الجليد ممكن يحفظ الكائن الحي لمدة قد إيه؟
-إيه اللي جاب بلح الشام لعنب اليمن؟ بكلمك في إيه وأنت بتكلمني في إيه؟
-أصل كنت بسلّي نفسي وبقرأ أخبار، وقرأت خبر إن بعض الباحثين عثروا على جثة امرأة تحت الجليد.. بيقولوا إنها ماتت من سنين طويلة لكن الجليد حفظ جثتها.
-وإيه المشكلة في الخبر، أنت لو حطيت كيس لحمة في الفريزر هتفضل اللحمة زي ما هي لو بعد ألف سنة، لأن التلج هيحافظ على نسيجها وعلى شكل الخلايا، وبعدين مش أنت اللي تسأل سؤال زي ده.
-عارف كل كلامك ده؛ بس حسيت من صورة الست في الخبر إنها عايشة.
-طبيعي تحِس الإحساس ده؛ لأن التلج هيحفظها ملامحها وكل حاجة فيها، لكنها ميّتة يا صاحبي، الموت حاجة تانية مالوش علاقة بالكلام ده؛ التلج مش هيحفظ الروح جوَّه الجسم وترجع له لما الجثة تفِك.
خلصنا حوارنا ويومنا العادي في الجامعة وكل واحد روَّح على بيته، كنت قاعد في أوضتي منتظر غروب الشمس كالعادة واللاب مفتوح، وبرغم إني مقفّل البلكونة والشباك، لكن جو الأوضة كان بنفس درجة البرودة اللي حسّيت بها الصبح، ومع الوقت سمعت صوت غريب طالع من اللاب، زي ما يكون في إزاز بيتشرخ وبيتكسّر، ساعتها عرفت إن صفحة الموقع ظهرت وبتعطيني إشارة إن الرحلة المعتادة هتبدأ، أخدت بعضي ووقفت قدام اللاب توب، لكن للمرة الأولى متكونش صفحة الموقع باللون الأسود، دي كان لونها أبيض وفيها شروخ، ومفيش ثواني وأدركت إن اللي قدامي طبقة جليد والشروخ بسترح فيها، وإن الصوت اللي سمعته من شوية كان صوت الجليد وهو بيتشرخ!
كالعادة مبلحقش أفكر؛ لقيت نفسي في مكان غريب؛ الجليد كان محاوطني من كل ناحية، درجة البرودة في المكان كانت نفس البرودة الغريبة اللي حسّيتها وأنا رايح الجامعة، وكأن الموقع خلاني أعيش الحالة دي طول اليوم؛ عشان أبقى متعوّد عليها لما أعيشها في الرحلة..
بصيت حوالين منّي وبدأت ألمح أشجار، هي مظهرتش فجأة ولا حاجة.. لكن اتضح لي إنها موجودة لكن الجليد كان مغطّيها، وعلى مسافات بعيدة، بدأت ألمح بيوت صغيّرة من الخشب، كانت أشبه بالأكواخ، الدنيا كانت ساكتة، ومكنتش سامع غير صوت الرياح المتلّجة اللي بتهِب من وقت للتاني، ومع الوقت صوت الرياح بدأ يقِل، لكن في صوت تاني بدأ يلفت انتباهي.. كانت صرخة واحدة سِت، صوتها كان بيقرّب مني، وده معناه إنها جاية ناحيتي، بصّيت حوالين منّي في كل مكان عشان أشوفها، وساعتها لمحت ناس كتير ناحية الأكواخ، كانوا لابسين هدوم كلها فَرو، واضح جدًا إنها من صوف الخرفان، وواضح كمان من طريقة لبسهم إنها بدائية جدًا، لدرجة إنهم معدّلوش في فروة الخروف ولا صنعوا منها هدوم زي اللي نعرفها، دول كانوا لَفّين بيها أجسامهم بطريقة تقليدية جدًا، وده خلاني أعرف إن الرحلة رجعت بيا لزمن بعيد مش قادر أحدده، زمن الناس فيه مكانتش تعرف اللبس اللي نعرفه دلوقت، لكن مُش ده اللي كان لافِت انتباهي، لأني كنت مركّز مع حاجة تانية، وهي الست اللي كانت نايمة في الأرض بين الناس، وكانوا رابطين إيدها ورجليها، وبيسحلوها على الجليد وجايين ناحيتي!
لما وصلوا في المكان اللي كنت واقف فيه، لقيت اتنين منهم بيحفروا الجليد بسلاح حديد شبه الرُّمح، وبعد شوية بدأت تظهر مَيَّه من تحته، عشان أفهم إن المكان ده عبارة عن بُحيرة متجمّدة، وبعد ما انتهوا من الحُفرة، شالوا الست ونزّلوها في المَيَّه بالمقلوب، كانت راسها تحت ورجليها فوق، وبعد ما السِّت قطعت النفس وحياتها انتهت، سابوها تنزل في المَيَّه، عشان التيار يحرَّكها ويجيبها ناحيتي، وبرغم طبقة الجليد كنت قادر ألمح جثتها اللي بتتحرَّك تحته، وده بسبب إن طبقة الجليد مكانتش سميكة لكنها كانت قوية من شدة البرد، وساعتها المَيَّه وقفت بالجثة قدامي، كان وشَّها لفوق، وفي اللحظة دي اتفاجئت إن عينها بتفتَّح، زي ما تكون بتبُص ناحيتي، بس أكيد مش أنا المقصود من النظرة دي، أنتوا عارفين إني بكون غير مرئي لكل أطراف القصة في رحلات الموقع.
في اللحظة اللي جثة الست فتحت فيها عينها، لقيت عيني بتروح ناحية الناس اللي ارتبكوا الجريمة، وساعتها سمعت واحد بيقول:
-خلصنا من الساحرة!
بعد ما سمعت الكلمة دي؛ بصيت للجثة من تاني ولقيت عينيها مقفولة، وبدأت تكمل طريقها مع تيَّار المَيَّه تَحت الجليد..
المكان رجع للصمت من تاني، الناس أخدت بعضها ورجعت للأكواخ، وفضلت لوحدي ومفيش حواليا غير الجليد، حتى جثة اللي قالوا عنها إنها ساحرة بعدِت عن المكان اللي أنا فيه، ومع ذلك سمعت نفس الصوت اللي كان طالع من اللاب توب قبل ما آجي الرحلة، ومعاه سمعت حركة ورايا، بصيت تحت منّي ولقيت شروخ بتسرح في طبقة الجليد، كانت ظاهرة بنفس شكلها اللي ظهر على صفحة الموقع، بدأت أتحرَّك من المكان عشان أبعد عن الشّروخ، وساعتها سمعت اللي بيقول لي:
-الجليد دَه تحته بحيرة وشكلنا هنغرق فيها!
كان كريم، اللي كنت فاكر إنه ظهر بعد ما الأحداث اللي شُفتها حصلت، لكن عرفت إنه كان موجود من غير ما آخد بالي لما قال:
-على فكرة؛ السِّت اللي غرَّقوها هي نفس الست اللي كانت في الخبر، وقالوا إنهم عثروا عليها متجمّدة.
ساعتها الحكاية بقت واضحة.. ردّيت عليه وجسمي بيتنفض من البرد وقُلت:
-يعني سيادتك اللي رميتنا في الفريزر ده؟
-والله المشكلة عندك يا عصام، أنت اللي بتظهر في كل حلم بحلم بيه، ومعرفش إيه السبب بصراحة.
دايمًا لما بنوصل للنقطة دي بتجاوزها، وطبعًا السبب بقيتوا عارفينه، وهو إنه بيتعامل مع رحلات الموقع على إنها حلم بيحلمه وإن أنا اللي بظهر معاه، عشان كده معلَّقتش على كلامه.
المكان اتبدّل، بَس عاوز أقول لكم إن الدنيا اختلفت تمامًا، لأننا كنا جوَّه بيت، وعرفت إن البيت ده مش في مكان بعيد بسبب الجليد اللي كان ظاهر من الشبابيك، وكمان الأشجار اللي الجليد مغطيها، واللي كانت طبق الأصل من الأشجار اللي في المكان اللي اتقتلت فيه الساحرة.. بَس البيت مكانش حديث، التصميم بتاعه بيقول إننا لسَّه متأخرين في التاريخ كتير، لأني ملمحتش تليفونات ولا أي حاجة من اللي بتكون في أي بيت، دَه غير إني لمحت ساعة شمعية، وهنا سمعت صوت كريم للمرة التانية بيسألني:
-الشمعة دي إيه؟
ردّيت عليه وجاوبته:
-دي ساعة شمعية، كل ما الشمعة تسيح واللهب بتاعها ينزل، بيكون عند مستوى رقم من اللي محفور في المعدن اللي وراها، والفرق بين الرقم ده واللي قبله؛ بيكون هو مقدار الوقت اللي فات.
-يعني على كده إحنا رجعنا بالزمن!
-تقريبًا رجعنا قَرنين بحالهم.
قطع كلامنا صوت بنت صغيرة، كانت بتقول وهي جاية تجري في صالة البيت:
-أندريا؛ أندريا.. هخرج مع آرثر نقطف أغصان للزينة، معادش فاضل غير أسبوع على ليلة عيد الميلاد.
وفي اللحظة دي، ردّت عليها أندريا، اللي كان واضح إنها أختها الكبيرة، عمرها تقريبًا 18 سنة، وساعتها قالت:
-متبعدوش عن البيت يا ماريا، ومتروحوش ناحية البحيرة المتجمّدة الأيام دي، طبقة الجليد مُش مستقرَّة.
الأحداث كانت سريعة، لقينا نفسنا ماشيين ورا ولد وبنت سنّهم صغيّر، واللي هُمّا ماريّا وأرثر، رجلينا كانت بتغرس في الجليد، وكنا رايحين ناحية منطقة أشجار قريبة من البيت، الجليد كان مغطّي معظمها، وبعد لحظات هبَّت رياح شديدة، بدأت تهِز الأشجار وتطيَّر الجليد المتراكم فوقها، وفي عز ما الرياح كانت شديدة، سمعت صوت ضحكة مخيفة، كنت فاكر إني لوحدي اللي سامع الصوت ده، لكن لقيت كريم بيسألني:
-سامع؟
ردّيت عليه وقُلت:
-ضحكة واحدة سِت، وغالبًا هو نفس صوت الست اللي كانت بتصرخ قبل ما تموت وجثّتها تمشي تحت الجليد.
الحكاية موقفتش عند الضحكة، لأن بعد الضحكة الصوت كمّل وقال:
"الجليد في انتظاركم، الموت في انتظاركم".
بعد ما الكلام ده اتردد أكتر من مرَّة الصوت اختفى، ساعتها أرثر قال لماريّا:
-إحنا لازم نرجع البيت.
لكن ماريّا كان لها رأي تاني، وده عرفناه لما قالت:
-كلها كام خطوة ونوصل للأشجار، هنقطف الأغصان ونرجع البيت، طول ما إحنا بعيد عن الجليد اللي في البُحيرة هنكون في أمان.
بدأوا يكملوا طريقهم وكنا ماشيين وراهم، وقبل ما نوصل للأشجار حصلت حاجة غريبة، كان في أسهم بتترسم في الجليد، الأسهم كانت بتظهر من نفسها وكأن في حد مختفي بيرسمها، وكانت بتشير لاتجاه تاني عكس اتجاه الأشجار، وعرفنا إنه اتجاه البحيرة لما أرثر قال:
-الأسهم بتشير ناحية البحيرة، في حاجة بتحاول تستدرجنا لحد هناك.
في الوقت ده ماريّا تراجعت عن قرارها وقالت لأرثر:
-إحنا نرجع البيت، ونبلَّغ أندريا باللي حصل.
***
-ابنك مُختفي من إمتى؟
-من امبارح.
-آخر مرَّة كان فين؟
-كان بيلعب قدام البيت، وبيقطف الأغصان من الأشجار اللي جنبنا عشان زينة ليلة الميلاد.
-شُكرًا، إحنا هنقوم بالواجب، وهنبلَّغك بأي شيء جديد.
دَه كان الحوار اللي اتفاجئنا إننا بنسمعه وأنا وكريم وإحنا موجودين جوَّه مكتب.. الحوار كان ما بين شخص بيبلغ عن اختفاء طفل عمره 6 سنين، وبين مُحقّق بيكتب مواصفات الطفل، بعدها لقينا نفسنا في البيت اللي كنّا فيه، وكانت ماريّا بتوصف اللي حصل وبتقول لها:
-سمعنا صوت عند الأشجار بيقول الجليد والموت في انتظاركم، وبعدها شُفنا أسهم بتترسم في الجليد في اتجاه البحيرة!
المكان اتبدّل من حوالينا، ولقينا نفسنا في منطقة جليدية واسعة، بَس مكنتش أنا وكريم بس، كان في أندريا وأرثر وماريا، والمُحقّق ومعاه كذا شخص؛ والشَّخص اللي كان بيبلَّغ عن اختفاء الطفل، وساعتها كان بيبكي وهو نازل في الجليد قدام جثة ابنه؛ اللي كانت ظاهرة من تحت طبقة الجليد ووشّه لفوق، بنفس الطريقة اللي شُفت فيها الست اللي الناس غرَّقوها في البُحيرة.
***
-ملاحظتش حاجة غريبة على ابنك قبل ما يروح ناحية البحيرة؟
ساعتها أبو الطفل رَد وصوته كله حزن:
-حاجة غريبة إزاي؟
-يعني؛ حد كان بيحاول يستدرجه، أو حد غواه عشان يروح هناك، طبقة الجليد الفترة دي مش مستقرة، وارد جدًا تكون انكسرت تحت رجليه وسقط في المَيَّه، عشان كده غرِق واتجمّد.
بعد كلام المُحقِّق، ملامح أبو الطفل كانت بتقول إنه بيحاول يفتكر حاجة، وبعدها قال:
-مكان ما ابني كان بيلعب، كان في أسهم بتشير ناحية البحيرة.
لمّا المحقق سمع الكلام ده حسّيت إنه استغرب، لكنه رد عليه وقال:
-في الحقيقة الأسهم اللي بتقول عليها ملهاش تفسير غير إن الطفل رسمها وهو في طريقة للبحيرة، قبل ما طبقة الجليد تنكسر تحته ويغرق.
***
-لولا الأسهم اللي قُلتم عليها، مكانش حد اكتشف جثة الطفل.
ده كان كلام أندريا لأرثر وماريا، وساعتها ماريّا ردَّت عليها وقالت:
-لمّا حسّيت إن في شيء غريب رجعت البيت مع أرثر وحكينا اللي شُفناه، أنتي أختنا الكبيرة وتقدري تتصرَّفي.
-عشان كده رُحنا عند البُحيرة؛ ولمّا شُفنا الطفل ميّت تحت الجليد بلَّغنا المُحقق، واتضح إنه طفل مختفي، عشان تعرفوا إن تحذيري لمصلحتكم، جليد البُحيرة الفترة دي خطر.
ساعتها رد أرثر وقال:
-لكن الأسهم اختفت وإحنا راجعين في الطريق.
-لكني شُفتها وإحنا رايحين البحيرة، على كل حال الأثر اللي في الجليد بيختفي مع الوقت، رغم إني لحد دلوقت مُش قادرة أفسَّر سبب ظهور الأسهم من نفسها، وإلا بقى لو كانت دي حركة أنتوا بتعملوها وعاوزين إني أصدَّقها.
إصرار أرثر وماريا على إن الأسهم ظهرت من نفسها متغيَّرش، وبسبب الحكاية دي؛ كان في خوف ظاهر وبوضوح على ملامح أندريا، ولأنها أكبر من إخواتها كانت مُدركة إن الحكاية مُش طبيعية، ويمكن إدراكها ده فسَّر اللي حصل بعد كده..
المكان اتغيَّر، كنا واقفين قدام بيت بنشوفه لأول مرة، ومن قدامنا كانت أندريا واقفة بتكلم شخص واقف على باب البيت، والشخص ده كان أبو الطفل اللي اكتشفوا جثته تحت الجليد، ولحد هنا لقيت كريم بيسألني:
-هي بتعمل إيه هنا؟
معرفش إزاي كريم فكّر يسأل ومكانش عنده إجابه، وساعتها قُلت له:
-أندريا اكتشفت جثة الطفل تحت الجليد وبلَّغت عنها، لكنها متعرفش سبب مرواح الطفل هناك، وكمان محضرتش التفاصيل اللي كانت بين المحقق وأبو الطفل، ولأن ظهور الأسهم اللي بتشير ناحية البحيرة واختفاءها من نفسها كان حدث غريب، أكيد فضول أندريا هيخليها تحاول تعرف تفاصيل أكتر عن موت الطفل.
قطعت كلامي مع كريم، لما لقيت صوت أندريا وأبو الطفل بدأ يظهر، والحوار بينهم بقى مسموع، ساعتها أبو الطفل كان بيتكلم معاها وبيقول:
-لما خرجت أدوَّر عليه اكتشفت أسهم في الجليد بتشير ناحية البحيرة، بس عمري ما توقّعت إنه يروح هناك في الفترة اللي طبقة الجليد مبتكونش مستقرة فيها، لأني حذّرته كتير، ولما حكيت للمحقق عن الأسهم، رجَّح إن الطفل رسمها وهو في طريقة للبحيرة.
***
-يعني كان في أسهم فعلًا عند بيت الطفل؟
دَه كان سؤال ماريّا لأختها الكبيرة أندريا، وفي حضور أرثر، وساعتها نبّهت عليهم محدّش فيهم يقرَّب من منطقة الأشجار لحد ما يعرفوا إيه الحكاية.
بعدها ماريّا وأرثر اختفوا من المشهد.. كانت أندريا لوحدها، واقفة قدام مكتبة فيها مجموعة كتب قديمة، شكلها كان بيقول إنها بتدوَّر على كتاب محدد، وبعد شوية لقيناها بتسحب كتاب من بين الكتب وبتقلّب فيه، لحد ما وصلت عند صفحة ووقفت عندها، ولأنها كانت واقفة على مسافة قريبة جدًا مننا، قدرت أقرأ عنوان الصفحة "حكاية الساحرة نيللي"، ومن بعدها قدرت أقرأ التفاصيل اللي تحت العنوان، واللي كانت بتحكي عن ساحرة بنفس الاسم اللي في العنوان، وإنها اتولدت في المكان ده من قرنين، وعاشت لمدة قرن كامل، كان معروف عنها السحر وأهل القرية بيخافوا منها، وقبل ما تقوم بعمل سحري كبير في نهاية عمرها، أهل القرية قتلوها، لكنها سابت وراها لعنة هتبدأ في وقت مش معروف، واللعنة دي هتسكن الجليد اللي هي ماتت تحته".
***
-أندريا؛ ليلة عيد الميلاد بعد أسبوع، هخرج مع أرثر نقطف أغصان الزينة.
ساعتها الخوف ظهر فجأة على ملامح أندريا ورفضت، وفي اللحظة دي ملامح ماريّا اتغيَّرت، وهنا كريم سألني سؤال:
-هي الحكاية بتتعاد من الأول ولا إيه؟
جاوبته وعيني على الخوف اللي في ملامحهم وقُلت:
-لأ، كل الحكاية إن في سنة فاتت، حكاية الطفل اللي مات تحت الجليد اتنست، والناس رجعت تعيش طبيعتها، حتى لاحظ ماريّا، كبرت شويّة في السنة دي.
تحليلي كان صحيح، لأن بعدها ماريّا ألحَّت على أندريا إنها تسيبها تقطف الأغصان، وإنهم معرفوش يحتفلوا بليلة عيد الميلاد السنة اللي فاتت، وبعد كلام كتير، أندريا وافقت بشرط إنهم يرجعوا للبيت لو شافوا أي حاجة غريبة، سواء أسهم ظهرت في الجليد، أو أي شيء تاني.
المشهد انتهى لحد هنا، أندريا كانت لوحدها، لكني لمحت أرثر من شباك البيت؛ وهو راجع بيجري لوحده، الخوف كان باين في عينيه، ولما دخل البيت راح ناحية أندريا وقال:
-سمعنا الصوت من تاني عند الأشجار "الجليد في انتظاركم، الموت في انتظاركم"، وبعدها الأسهم ظهرت من تاني في الجليد وكانت بتشير ناحية البحيرة، لكن ماريّا مشيت ورا الأسهم، الصوت استدرجها لحد هناك، مقدرتش أروح وراها ورجعت عشان أبلَّغك.
المشهد اختلف تمامًا، كنا في نفس المنطقة الجليدية، وكان في ناس كتير، أندريا وأرثر، والمحقق ومعاه كام شخص، أما بقى بالنسبة لماريّا، فكانت غرقانة في البحيرة وجثتها ظاهرة من تحت الجليد، ووشّها لفوق وكأنها بتبُص ناحية الناس اللي واقفة.
أزمنة كتير اتغيَّرت، الشيء الثابت بس، هو إننا في كل مرة كنا بنشوف نفس الحادثة في نفس المكان، كانت بتحصل مرَّة كل سنة في نفس التوقيت، لكن باختلاف الناس، لحد الحادثة الأخيرة، المنطقة كان فيها مباني حديثة من اللي متعوّدين نشوفها في حياتنا، لكن مكانش في جليد، لأن كان في شوارع مرصوفة وكان بيتم إزالة الجليد من عليها باستمرار، وده كان واضح من كمية الجليد المتراكمة على جوانب الطريق، أما البحيرة، فمكانتش متجمّدة، كانت عادية لكن فيها بعض قطع جليد متناثرة، وده دليل على إن الطقس اختلف شوية مع مرور السنين الطويلة، لكن الحكاية متغيَّرتش، لأنهم في نفس التوقيت كانوا بينتشلوا جثة طفل غرقان في البُحيرة.
***
-هي الحكاية كده انتهت؟
كنت لسَّه هجاوب على كريم وأقول له إنها منتهتش؛ لكن الزمن اتغيَّر من تاني ورجعنا لأيام الجليد والأكواخ، بالتحديد قدام كوخ كان قدامه ناس كتير من أهل القرية، كانوا بيحاولوا يفتحوا الباب بالقوة، وبعد ما الباب اتفتح، دخل شخص منهم جوَّه الكوخ، وفي اللحظة دي لقينا نفسنا جوَّه عشان نشوف الأحداث، ونسمع الحوار اللي دار بين نيللي، السِّت أو الساحرة اللي اتقتلت، لأننا رجعنا بالزمن قبل ما تتقتل عشان نعرف إيه الحكاية بالظبط، وساعتها الشخص ده قال لها:
-أنتي ملعونة يا نيللي؛ هتجلبي لعنة على أهل القرية، عهدك مع الشيطان لازم ينتهي، أو تخرجي من القرية عشان أهلها يعيشوا في سلام.
ساعتها نيللي ضحكت ضحكة استهزاء وقالت:
-العهد تَم والحكاية انتهت، طول حياتي كنت بدوَّر على الخلود، ورغبتي هتتحقق ليلة الميلاد، كلها أيام والحكاية تنتهي.
-أنتي ساحرة ملعونة يا نيللي؛ ولو مخرجتيش من القرية في سلام، هتخرجي بالقوة، عشان السِّحر اللي بتمارسيه هيتسبب في لعنة للناس.
-الساحرات بيمارسوا السِّحر عشان يقدروا يعيشوا أطول فترة ممكنة، كل خدمة بيخدموها للشيطان عُمرهم بيطول في المقابل، لكن أنا تجاوزت كل ده ووصلت للخلود، اللي هيتحقق ليلة عيد الميلاد.
بعدها المشهد اتكرَّر من تاني، لمَّا شُفناها وأهل القرية بيسحلوها فوق الجليد وهي مربوطة من إيدها ورجليها وبتصرخ، قبل ما يحفروا في الجليد ويغرَّقوها في البحيرة!
***
معرفش ليه كنت حاسس إن الحكاية لسَّه فيها حلقة مفقودة، وقبل ما أفكَّر في أي حاجة، لقينا نفسنا في كوخ نيللي؛ أو الساحرة.. الزمن رجع بينا من تاني قبل ما تموت، ساعتها شُفناها وهي واقفة قدام راكية نار وبتقول كلام غريب، مقدرش أجزم إنها طلاسم أو تعاويذ من اللي بنسمعها، أو جايز طريقتها في الكلام هي اللي خلتني أحس الإحساس ده، ونظرتها المُخيفة للنار، وبعد ما كرَّرت الكلام ده أكتر من مرَّة، النار بدأت تزيد، اللهب كان بيعلى وزي ما يكون بيتجسّد في هيئة مخلوق غريب، وساعتها نيللي نزلت في الأرض وأخدت وضعية أشبه بالسجود، وبدأت تطلب منه الخلود، وفي اللحظة دي شُفنا إيد من نار بتخرج من اللهب وبتمسك نيللي من رقبتها، ولما سابتها وقعت في الأرض جثة هامدة.
النار رجعت لطبيعتها، لكن الجثة بدأت تتحرَّك، زي ما يكون في شيء مختفي بيسحلها، لحد ما وصلت عند باب الكوخ اللي اتفتح من نفسه، الدنيا برَّه كانت ليل، لكن الشيء المختفي فضل يسحب الجثة في الجليد، وبعد مسافة كان الجليد مغطّي الجثة، أو عشان أكون دقيق في الوصف، الشيء الخفي ده سحب الجثة تحت الجليد، وبعد اللي شُفناه بنفسنا، سمعنا صوت نيللي في الكوخ من تاني وهي بتضحك، ولما بصينا عشان نشوف إيه الحكاية، لقينا راكية النار مطفية، ونيللي واقفة قدامها بتضحك وفي عينيها تحدّي غريب.
***
رجعت أوضتي وجسمي كان بيتنفض من البرد، لقيت نفسي قدام اللاب توب ومبحلق في صفحة الموقع، اللي التلج المشروخ اختفى من فوقها ورجعت باللون الأسود، ساعتها تليفوني رن، المكالمة الموعودة من كريم بعد كل رحلة، ولما فتحت المكالمة قال لي:
-صورة الست اللي كانت في الخبر الصبح.
-اشمعنى!
-شُفتها في الحلم على إنها ساحرة كانت عايشة من زمن طويل، لكن شُفتها ماتت مرتين، مرة أهل القرية غرَّقوها تحت جليد البحيرة المتجمدة، ومرة ماتت بطريقة غريبة مش فاهمها، واندفنت تحت الجليد قدام الكوخ.
لما كريم قال كده، عرفت إنه رجع من الرحلة معايا في الفاضي، مقدرش يربط الأحداث ببعضها ويفهم الحكاية صح، عشان كده طلبت منه يحكي الحلم، اللي هو في الأصل الرحلة اللي كان معايا فيها، واللي أنا بقيت حافظ تفاصيلها، وبعد ما حكى لي الحكاية كلها قُلت له:
-أنا بقى هقول لَك، نيللي كانت ساحرة في زمن قديم، وحسب الأساطير إن الساحرات كان عمرهم طويل، لأنهم بيعقدوا عهود مع الشيطان عشان يخدموه، في المقابل بيبقوا مُعمّرين، وفي الأول والآخر دي بتكون لعنة وغضب مش حاجة كويسة يعني، ربنا بيطوّل في أعمارهم عشان يزدادوا إثمًا، لكن نيللي حبَّت تعمل اللي أكتر من كده، وهي إنها تطلب الخلود من الشيطان في مقابل خدمته، ولأن الشيطان دوره يغوي البني آدم، أقنعها إنه هيمنحها الخلود في مقابل إنها تبيع نفسها، لكن متنساش إن الخلود ده حاجة خاصة بالشيطان، وعمره ما هيوافق إن حد من بني آدم يمتلك حاجة هو بيمتلكها، إذا كان استكتر على آدم نعمة ربنا عليه، والكبرياء خلَّاه يعصي أمر ربنا، فمستحيل يمنح حد الخلود والكلام اللي بعض الناس المريضة بتفكّر فيه ده، والنهاية إنه قتل نيللي وأخفاها تحت الجليد، وبعد كده ظهر في صورتها وبدأ يتعامل مع أهل القرية على إنه نيللي الساحرة، لحد ما تحين ليلة الميلاد زي ما نيللي اللي هي أصلًا الشيطان كانت بتقول عليها، وكان واضح إنه مدبّر شيء لأهل القرية، لكنهم قتلوه باعتباره نيللي، ولأن الميِّت مش بيرجع، فمقدرش يظهر لهم تاني، لكنه ساب لعنة في القرية، أو في المكان عمومًا.. اللعنة اللي سكنت الجليد وكانت بدايتها موت الطفل اللي عنده 6 سنين، وهو ده الزمن اللي مكانش متحدد في الكتاب اللي بتقرأه أندريا، لعنة شبه الندّاهة عندنا، وده فهمته من الصوت اللي استدرج ماريّا للبحيرة، وأكيد من قبلها استدرج الطفل، وأكيد هو اللي استدرج كل اللي ماتوا تحت الجليد هناك، ولسه بيستدرج اللي بيغرقوا في البحيرة حتى بعد ما الجليد قَل فيها.. وإن الحادثة دي بتحصل كل سنة، في نفس الوقت اللي أهل القرية قتلوا فيه الساحرة وكانوا فاكرين إنها نيللي.
-يعني الست اللي عثروا عليها دي خلتني أحلم إن في ساحرة كانت عايشة زمان، ودماغي تفصّل الأحداث دي كلها وأنا نايم.
-أو جايز تكون ساحرة فعلًا وماتت بالطريقة اللي بتقول عنها، ودماغك في الحلم خلَّتك تشوف الحقيقة.
-حقيقة إيه بس يا عصام؛ بطَّل هزار.. أنا بس مستغرب من حاجة.
-إيه اللي أنت مستغرب منه؟
-مستغرب إنك بتفهم أحلامي أكتر منّي.
مُش عارف أجيبها لكريم إزاي؛ عشان يفهم إنه كان معايا فعلًا في رحلة الموقع، لكن أنا اللي سايبه يتعامل على إنه حلم، ومجيبتش له سيرة عن الموقع ورحلاته، عشان كده قفلت معاه المكالمة وأنا بهزَّر وبقول له:
-دي قُدرات بقى يا عم كريم، أنا بَس ليا طلب عندك، بلاش الأحلام اللي في أماكن جليدية تاني، عضمنا هيسوّس وإحنا مش واخدين على الطقس ده.
تمت...