هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة صفا غنيم
  3. علي جبين القمر - الجزء الأول

                                          " إهداء "

إلى حبيبي

ذلك الرجل الذى أحبني بكل ما يملك من مشاعر، رغم أنني لست الأجمل،أحبني رغم متناقضاتي ، متباهيا دوما بأنني أبنته، إليك "أبي"، سوف تبقي حي بداخلى، تملأ روحي وقلبي وعيني حتى نلتقي، أعلم أنك تراني وتسمعني، لك مني كل دعوات الدنيا أن يرزقك الله جنة عدن عرضها كعرض السموات والأرض.

إلى "أمي"  أدامك الله  فى حياتي سند وقوة ودعوة حلوة دوما ما تمسح  عني كل ما يؤلمني.

إلى كل من شاركني  كتابة هذه الرواية، التى كُتبت بمشاعر صادقة لأنها تحمل الكثير من واقعي  شاكرة لكم دعواتك  ووقوفكم بجانبي.

إلى "صفا"  التى بداخلي ، أبقي دوما قوية من  أجلي.

                                                                             صفا غنيم

  

                                           "مقدمة"

لم نُخلق كاملين دون نقص ، لم نُخلق منزهين من الأثم ، نحن خليط بين هذا وذاك ، لا نحمل ملاك بين ضلوعنا دون شئ من الشر ، ولا يتلبسنا دوما شيطان دون خير ، جميعا نشبه البحر من السطح صافى ، أما من الأعماق ، يخلتط كل شئ ، كل شئ ، الأمان والخوف ، الوضوح والغموض ، الصخب والسكون ، نظل نتخبط بين ما نحن عليه وما نطمح إليه  ، تمر بنا الحياة بين غالب ومغلوب ،  وطيب وشرير  ، وشريف ودنيء  ، وارد أن نسقط ، مؤكد سوف نُخذل ، نظل نعافر ، حتى لا يسقط الإنسان ، الذى نحمله بداخل عراك أيامنا ونقص نفوسنا ، نظل نتشبث بأخر طوق نجاة ، ورغم ذلك ، منا من يسقط ويستسلم ، ومنا من يظل يمسك بلجام فرسه ، ليبقي فارس نبيل ، حارب بشرف ، وإن كان يحارب وحيد داخل مضمار الحياة ، فى النهاية يبقي من نزف الدم ، فى سبيل أن يظل  كما خُلق ، إنسان يحمل بداخله شئ من روح الله ،  جميعا كالقمر، مهما ظهر نورنا ، يبقى هناك جانب مظلم ، دوما هناك شئ لا نعرفه ، مهما ادعينا أننا نعرف ، تظل الصورة ناقصة شئ كى تكتمل ، فلا تُقسم أنك تعرف كل شئ ، ولا تُراهن بكل ما تملك على أحد ، أترك مسافة أمان ، حتى أن جائتك الطعنة لا تكن نافذة ، لا تُصدق دوما حدسك ، فمن الممكن ٱن يكون البرئ مذنب والمقتول قاتل  ، دون أن تدرى ، تذكر دائما ، أننا كالقمر الذى يحمل النور والظلمة ، نحن أيضا نحمل الخير والشر لأننا بشر .       

                                      " الفصل الأول"

     

                                    " جسد بلا روح "

كل شئ  كان فى أبهي صورة له ، حركة سريعة بين العاملين بفيلا" زين العابدين أبو القاسم" ، فهنا طباخ يزين تورتة كبيرة ، تحمل بمنتصفها صورة لشاب يافع ، وهناك من ينسق باقات الزهور والأضواء ، على مقربة منهم وقفت سيدة فى عقدها الرابع ، جميلة الملامح ، لكن جمالها لا روح فيه ، تشبه كثيرا اللوحات الزيتية ، التى تُعرض فى أكبر المعارض ، بيضاء البشرة مشربة بحمرة خفيفة ، لها عينين واسعتين سوادهما كالليل ، بهما شئ لا يُريح من ينظر إليهما ، ترفع دوما شعرها للأعلى ، وكأنه تريد أن تخبر من حولها أنها كشعرها ، ليس من السهل أن يصل إليها أحد ، أخذت تمر على كل منضدة ، تضع لمساتها وكيف لا تفعل ذلك ؟! وكل هذا الحفل من أجل ولدها الوحيد ، "ريان " الذى يشبهها كثيرا فى الملامح ، ويشبه أبيه " زين العابدين أبو القاسم"  ،  فى طباعه وأخلاقه ، وكأنه أراد ألا يترك شئ من والديه لم يأخذه ، بأشارة من أصابعها كانت تقف الدنيا على قدم وساق  ، ظلت تنظر حولها ، مشيرة إلى أحد المشرفين على الحفل قائلة:

-سوف أذهب  كي أستعد للحفل ، فالوقت يمر والضيوف سيأتون فى أى وقت ، من فضلك أنتبه للتفاصيل النهائية ، لا أريد خطأ واحد الليلة ، أومأ لها الواقف برأسه ، تركته ماضية ناحية الفيلا الكبيرة ، التي أختارت كل شئ فيها بعناية فائقة ، حتى موقعها بمنطقة المريوطية ، كان من أختيارها ، فكل شئ يجب أن يخضع لقانونها ، قانون عائلة " أبو المجد" ، أشهر وأكبر العائلات فى مصر ، حلم كل شاب ، أن يقترن بأحد يحمل لقب تلك العائلة ، ذات السمعة والنفوذ ، وكم دق باب قصرهم ، عائلات ومناصب ، متمنيين أن يحظوا بهذا الشرف ، الذى يورثهم السلطة والنفوذ ، لم يستطع أحد الفوز بصاحبة العصمة ، غير " زين الدين أبو القاسم" أشهر قاضيا  بمصر والمعروف عنه نزاهته ونظافة يديه ، وكيف لا يحظى بأبنة تلك العائلة ؟ وهو المعروف بأصوله الصعيدية العريقة  ، فوالده  كان من أكبر موردي الفاكهة ، لمصانع " أبو المجد" ، فهو يمتلك نصف أراضي المنيا ، يمسك بزمام أمورها فى يديه ، وأشهر عضو بمجلس الشعب والمعروف عنه البر والخير ، والذى رأى أنه من الحكمة ، أن يُعمق صلته بتلك العائلة أكثر من كونه مجرد مورد لهم ، فما كان منه غير أن أقسم بينه وبين نفسه ، أن لا أحد غير أبنه الأكبر " زين" ، يفوز بصاحبة العصمة السيدة "ناهد" ، مهما كلفه الأمر ، حينما رأها فى  إحدى زياراته لوالدها ، السيد " أشرف أبو المجد "  ، تارك مهمة إقناع أبنه ، على والدته السيدة " آمنة" ، كبيرة بيت أبو القاسم وعزبته شرقا وغربا ، صاحبة الأمر النافذ والكلمة التى لا ترد ، فقد ورثت عن أبيها عمدة منشية أبو القاسم صلابة الرأس وقوة الشخصية ، فقد رأت فى هذا الأمر خير وسبب يجعلها تفعل كل ما بوسعها ، كى  تبعد  أبنها وفلذة كبدها ، كما تدعوه دوما ، عن  الصعيد وعاداته وتقاليده القاسية  ، حاول مرارا أن يرفض عرض أبيه وطلب أمه ، كم من مرة أخبرهما أنه لا يريد الإرتباط ، فما زال الوقت لم يحن لهذا ، فما يزال أمامه طريق طويل ، عليه أن يقطعه ومستقبل يحلم به  ، لكن كل محاولاته باءت بالفشل وصموده أنهار ، أمام دموع أمه وعزوفها عن الطعام ، تزوج من أبنة "أبو المجد " مرغما ، كى لا يخسر أبيه ورضاء أمه ، تم عرسه فى حفل كبير، ظلت شخصيات مصر الهامة تتحدث عنه ، مرت سريعا عشرون عاما على هذا الزواج ، كان ثمرته الوحيدة هو أبنه الوحيد " ريان" ، الذي أختار أسمه وأصر عليه ، بعد أختياره من وسط أسماء كثيرة طرحتها زوجته ، لكنه رفضها جميعا ، فأسم "ريان" أرتبط معه بذكريات ، ما زال يتجرعها جرعة جرعة كمسكن له ، يساعده كي تمضى الأيام ، فحياته تخلوا تماما من أى مشاعر أو دفء ، رغم مرورعشرون عاما على زواجه من سيدة المجتمع ، التى يحيا معها تحت سقف واحد ، حاول خلالها كثيرا أن يقترب منها ، أن يحبها ، لكن لم تستطع "ناهد" أن تجعله يحبها أو تكسب وده ، حاولت كثيرا أن تقربه من مجتمعها ، من دنياها الخاصة التى لا تخلوا من الصخب ولغة المصالح ، ولنفس السبب فشلت فى أن تجعله يعطيها قلبه ، قلب " زين العابدين أبو القاسم" ، ذلك القلب الذى يشبه قلب الأطفال فى نقائة وطيبته وبساطته ، رغم ما يظهره للجميع من شدة وقوة شخصية وشموخ وأعتزاز بنفسه ، فبقدر ما يظهر من شدة وقسوة ، بقدر ما يخفى من رقة وحنان ، الوحيدة التى تعرف حقيقته ولا يستطيع أن يخفيها عنها ، هى أمه وولده " ريان"وصديق عمره ورفيق دربه ، أبن عمه وعمدة منشية "أبو القاسم"  " حمزة"  ، الذى دوما ما يهرب من القضايا والمحاكم وزيف المظاهر وغش المشاعر ، إليه ببلدتهم الصغيرة مرة كل شهر ، يغسل نفسه معه من كل شئ ليعاود من جديد إلى حياته وأروقة محاكمه ، وكأنه يستمد منه قوة أضافية وطاقة أمل تجعلانه يستمر ، رغم أعتراضه الشديد لفكرة الثأر ، التى يؤيدها رفيق روحه "حمزة "  ويراها شئ طبيعي فمن قُتل يُقتل ، ذلك كان ميراثهم ومبدأ من أهم مبادئهم المحفورة بداخلهم وتجرى بدمائهم.

وقفت السيدة " ناهد" أمام خزانة ملابسها ترتدي فستان يناسب حفل عيد ميلاد نجلها ووريث عائلة "أبو المجد" و"أبو القاسم" ،  أمسكت بفستان من صنع أكبر دور الأزياء العالمية صنع لها خصيصا لتحضر به هذا الحفل ، وضعته على جسدها ووقفت أمام مرأتها ترى كيف يكون عليها ؟ ابتسمت فى زهو هامسة فى نفسها:

-ما أجملنى ، أننى أزيد هذا الفستان جمالا فوق جماله ، وكيف لا أزينه وأنا أمتلك مثل هذا القوام الممشوق وتلك الملامح المنحوتة بدقة ، غابت فجأة أبتسامتها وقد رفعت حاجب عينيها البسرة وظهرت من بين ثنايا وجهها نظرة غضب قائلة:

-الجميع يريدنى ، الجميع يثنون على فى كل المناسبات ، يشعروننى أننى ملكة متوجة ، يسعى الجميع للفوز ولو بكلمة منها - ألا شخص واحد دوما ما أجده بعيدا ، لم أرى ولو لمرة واحدة نظرة أعجاب واحدة وكأنه لا يرانى ولا يروقه شئ بى ، ضربت زجاج مرآتها بعنف حتى كاد أن يكسر مردفة :

-سوف يظل دوما فلاح لا يقدر قيمة الجمال والجاه ، سيبقى أصله الصعيدى حاجز بينى وبينه ، حسنا كما تحب يا "زين العابدين " ، أبقي هكذا معى جسد بلا روح ، أما أنا فقد أخترت أن أحيا كما أحب ، ظل هكذا تتحدث عن المشاعر والحب وكأنها طعام لك ، أنسي دوما منصبك ومكانتك ومن قبلهم مكانة من أرتدت بك زوج ، لولا وجود أبنى " ريان " لما أستمرت حياتى معك ، أخرجها من شرودها هذا صوت طرقات على باب غرفتها ، إستدارت  قائلة:

- تفضل يا " رامز" ، يدلف شاب رياضى عشريني السن يرتدي قميص مزدحم بالالوان حتى يظن من يراه أنه رداء لأمرأة وليس رجل ، يقترب منها وقد رفعت إليه كفها كى يصافحها قائلة وقد ارتسمت فوق شفاهها ابتسامة واسعة:

- اهلا "رامز" أريدك الليلة أن تجعل منى اميرة الحفل ، فكما تعلم سوف يحضر حفل الليلة لفيف من كبار رجال الدولة وسيدات المجتمع ، وكما تعلم " ناهد أبو المجد" يجب أن تكون أجمل أمرأة فى أى مكان تتواجد به ، وضع الشاب حقيبة كان يمسك بها قائلا:

-لقد أحضرت لك اليوم مجموعة من أدوات الزينة الجديدة ، لا تشغلي بالك سوف أجعل منك شئ مبهر الليلة .

يهتمون دوما بأشكالهم وملابسهم معتقدين أنها من تجعلهم أمراء وسلاطين ناسين أن القلوب والأرواح هى فقط ما تصنع مكاننا وتضع لنا مقاعد بقلوب من أمامنا ، ماذا عساها ان تصنع أدوات الزينة يقلوب غشيتها القسوة وأرواح هجرتها المودة ودفء واحتواء ، أخذ يعمل واضعا ألوانه فوق ملامحها ، ليوقفه عما بدأ  ، صوت طرقات خفيفة على باب غرفتها ، تنظر فى المرآة أمامها ترى من الطارق فى مثل هذا الوقت ، وقبل أن تجيبه ، يفتح الباب ويطل من خلقه أبنها "ريان" ، تبتسم له رافعة يديها إلى "رامز" كى يتوقف عن عمله ووضع مساحيق التجميل لها قائلة وهى تشير إلى ابنها :

-أهلا بعريس الليلة ، يدلف إلى الداخل على أستحياء وقد علت ثغره إبتسامة رقيقة واضعا يديه بجيب بنطاله الأسود الذى كان يرتدي فوقه قميص وردى اللون أضفى بهاء على بشرته البيضاء وشعره البنى الناعم ، أقترب من أمه يقبلها قائلا:

-أعتذر لك لم أكن أعلم أنك مشغولة ، أشارت إلى مقعد خلفه قائلة:

-أجلس حبيبي وأخبرنى لم لم ترتدى حلتك الجديدة حتى الأن ؟ لقد أبتعتها لك من أكبر بيوت الأزياء لتلك الليلة ، أقترب "رامز" مرة ثانية يكمل عمله فى وضع لمساته على وجهها وشعرها ، نهض "ريان " من مكانه قائلا:

-أبي لم يرجع من عمله حتى الأن وقد أقترب اليوم على الأنتهاء ، نفخت بشئ من الضيق قائلة:

-من المؤكد أنه غارق فى قضية قتل أو قضية مخدرات يقرأ أوراقها ، لا تهتم أنت وأذهب كى تستعد لحفلة عيد ميلادك ، اليوم أكملت الخامسة عشر من عمرك ، صرت رجل يا "ريان"

استدار يغادر الغرفة قائلا:

-سوف أذهب لأحادث أبي فى عمله لأرى ما سبب تأخره آولا ، أغلق الباب خلفه وأختفى ، لتزفر هي بشئ من الضيق قائلة:

-لا يعجبنى تعلقك هذا بأبيك يا "ريان" ، يضحك "رامز" الذى كاد ينتهى من عمله قائلا:

- دوما كلما أتيت إلى هنا فى أى مناسبة ، أجد "ريان" لا يسأل عن أحد سوى أبيه ، من الواضح أنه يشبهه فى كل شئ ، تقف "ناهد" تتلمس شعرها الذى أنتهى "رامز" من توه من عمل تسريحة تتماشي وكلامح وجهها قائلة:

-"ريان" ما يزال صغير ، وسوف أنجح مع مرور الأيام فى أن أغير من نظرته للحياة وتعلقه هذا بأبيه ، شكرا لك على ما فعلته جعلتنى حقا عروس مبهرة ، مدت يديها ببعض النقود إليه ، أخذها حياها بأبتسامة وإيماءة من رأسه ماضيا في طريقه.

                                       "الفصل الثانى"

                                          "لن نتفق"

دقت الساعة السابعة مساء ، وهو ما يزال غارق حتى أذنيه بمكتبه ، يقرأ قضية الموسم التى كانت من حظه ، أن تقع ضمن القضايا التى يباشرها ، لم ينتبه "زين العابدين" إلى مرور الوقت وقرب يومه من الأنتهاء ، هكذا هو لا يسرقه شئ من الحياة ، سوى قضاياه والساقية القديمة بعزبة "أبو القاسم" ببلدته بالصعيد ، خرج من تركيزه فجأة ، على صوت هاتفه ، رفع رأسه عن الأوراق وهو يتنهد،  يمد يديه يمسك بهاتفه يرى من المتصل ؟ يبتسم عندما يرى شاشة الهاتف تضئ بأسم "ريان" يجاوبه بلهفة قائلا:

-أهلا بقاضي المستقبل ، يأتيه صوت أبنه قائلا بشيء من العتاب:

-القاضى الكبير قد نسي أن اليوم  ،عيد ميلاد قاضيه الصغير ، لذلك لم يحضر حتى الأن إلى المنزل  ، ضرب "زين" مقدمة رأسه بكفه  ، وهو يحاول أن يبتلع مفاجأة أنه نسي حقا ، أن اليوم هو يوم مولد أبنه الوحيد ، وقد سرقته تلك القضية  ، من كل شئ حتى من أبنه قائلا :

-من كذب عليك وأخبرك بأن أبيك نسي يوم مولدك ؟ نصف ساعة على الأكثر ، وترانى أمامك أحمل أجمل وأغلى هدية بالعالم ، أغلق الهاتف دون أن يترك له فرصة للرد ، يعلم أنه مقصر فى حقه ، يعلم أن عمله دوما ما يأخذه من كل شئ ، لكنه قسم أقسمه يوم أن عمل قضايا ، بأن يحافظ على شرفه وشرف مهنته من قبل ، لملم أوراقه وأودعها أحد أدراج مكتبه ، نهض ممسك بجاكت بذلته ومفاتيح عربته مغادر المكان ، أستقل سيارته من أمام دار القضاء العالى ، أنطلق فى طريقه ، متذكر كلمات زوجته ، التى دوما ما كانت ترددها على مسامعه قائلة:

-إلى الأن تقود سيارتك بنفسك ، من هم فى مركزك ومكانتك ، يجب أن يكون لهم سائق خاص بهم ، أبتسم وهو يمسك محرك السيارة ، ونسمات شتوية باردة تلمس وجهه قائلا:

-لم تعلمى يا "ناهد" ، السبب وراء أننى أقود سيارتى حتى الأن ، لأننى أرى فى القيادة شئ من الحرية ،  التى  تجعلني  أتنفس قليلا ،  وأنا أجوب الشوارع والطرق ، أتصفح وجوه البشر بمفردى ، بعيد عن تحكماتك والمظاهر ،  التى  تخنقى نفسك بها وأنا معكِ ،  وقف بسيارته أمام أحد المتاجر الكبيرة ، عرج على أحد محال بيع الساعات ، التى ما أن رأه  صاحبه ، حتى هلل مرحبا به قائلا:

-اهلا بك ، تفضل ، حياه "زين" بأبتسامة رقيقة قائلا:

-شكرا لك ليس لدى وقت ، هل أنتهيت من إعداد الهدية التى طلبتها منك؟ أبتسم له الرجل وهو  يمد له يديه  ، بعلبه قطيفة حمراء ، تناولها منه وفتحها ليشهق من جمالها ، لقد أبتاع  "لريان" ساعة من  إحدى الماركات العالمية ،  طالبا من صاحب المحل ، أن يكتب بداخلها  إسم "ريان" بماء الذهب ، أغلق العلبة شاكرا الرجل ومضى مغادر  ، وصل إلى حديقة فيلته ، ليجدها فى أبهى صورها  ، عامرة بضيوف من مختلف الأعمار والثقافات ، ترجل من سيارته وقف ينظر حوله يشاهد ما أمامه ، من باقات زهور ،  وأضواء أنعكست ألوانها بمياه حمام السباحة ، القابع بحديقة الفيلا ، رأه "ريان " الذى كان يقف مع جمع من أصدقائه فهرول إليه ، إبتسم حينما رأه قادم ناحيته ، فتح له ذراعيه ، ألقى بنفسه بين ذراعيه ، أخذ يضمه إلى صدره ، كمن يتلمس الأمان  داخل حضن أحد ، مد يديه إليه بهديته له قائلا:

-كل عام وأنت أبن قلب أبيك ، أتمنى أن تعجبك هديتى لك ، لقد صنعتها خصيصا من أجلك ، تناولها من يديه بلهفة ، فتحها لتصدر منه صافرة عالية ، تلفتت  إليهما  "ناهد" ، التى وقفت ترحب بالمدعوين  ، يتابع  "ريان"  مردفا:

-كم هى رائعة يا أبي ، شكرا لك ومال على وجهه يقبله ، أقتربت منهم "ناهد" وقد رفعت حاجب عينيها قائلة:

-لن تتغير يا "زين" ، دوما تنسي نفسك فى عملك ، تعود إلى البيت بعد أنتهاء اليوم ، حتى يوم مولد أبنك الوحيد ، أنسحب " ريان " من بينهما قائلا:

-سوف أذهب إلى اصدقائى ، أُريهم هديتك الجميلة يا أبي ، تركهم ومضى مبتعدا عنهم ، لينظر "زين " حوله ، يحي ضيوفه بابتسامة منه ، تشعر "ناهد" بأنه لم يعيرها أهتمام ، ضغطت فوق أسنانها ، محاولة أن تكبح زمام غضبها ، فى مثل تلك الليلة مقتربة منه أكثر قائلة:

-أذهب الأن إلى غرقتك ، فقد أعددت لك حلة ورابطة عنق ، كى تحصر بهما الحفل ، وضع يديه بجيب بنطاله ، قائلا دون النظر إليها:

-أظن أن ما أرتديه يليق بالحفل لا تشغلى بالك ، مررت أناملها بين خصلات شعرها قائلا:

-أنا أرى أنه لا يليق ، وعليك أن ترتدى ما أعددته لك ، نظر إليها نظرة أخرستها قائلا:

-إلى متى سوف تظلين هكذا ؟! تريدين من الجميع أن ينفذو لك أوامرك دون نقاش ، الحياة ليست هكذا ، ليست مظاهر فى كل شئ ، أتركينى ولو مرة واحدة ، أتنفس بحرية ، أتحرك كما يحلوا لي

مطت شفتيها قائلة بشئ من اللامبالاة:

-أظن أن ما أطالبك به شئ من الذوق ، لا دخل له بحريتك سيادة القاضى ، حاول ولو لمرة أن تنسي  أصولك وجذورك الصعيديه ، والعصبية التى تحكمك ، ضحك بصوت مرتفع مائلا برأسه للخلف قائلا:

-أعتقد أن تلك العصبية ، كنت ترينها من قبل رجولة ، لا يتمتع بها الكثيرين من مدعوينك ، الذى لا يشغلهم غير المظهر ، نفخت بضيق واضح قائلة:

-ألم ننتهى من تلك المعضلة التى استمرت بيننا عشرون عاما ؟ أشار بيديه إلى "ريان" الذى  أشار إليهما قائلا:

-هيا حان موعد  إطفاء الشمع ، خطى خطوتين ثم وقف ينظر إليها قائلا:

-وإذا مر علينا عشرون عاما مثلهم ، لن نتفق يا "ناهد" ، تركها تقف مكانها ، تضرب الأرض بقدميها ، كطفل صغير غاضب من شئ قائلة:

-فلاح ، ستبقى طيلة حياتك فلاح ، مهما حاولت أن أنسيك أصلك ، ستظل تحن إلى جذورك ، وقف "زين" بجانب "ريان" ، لحقت بهما "ناهد" التى وقفت بالجانب الأخر ، أُطفأت الشموع وعلا صوت الجميع ، يهللون ويهنئون "ريان" بعامه الجديد ، ضمه إليه أبيه يهنئه ، ممسك بكفه سائرا به مبتعد عن الزحام ، ساروا سويا حتى وصلوا ، إلى  إحدى المناضد المتناثرة بالحديقة ، جلسا الأثنين معا ، نظر "زين " إلى أبنه شارد بوجهه الطفولى ، وقد علت ثغره أبتسامة صافية ، نظر إليه "ريان" متعجبا قائلا:

-ماذا هناك يا أبي  ؟ ألهذا الحد تشتاق إلى النظر إلى وجهى؟ مد أنامله يمسح وجهه قائلا:

-إن أخبرتك أننى أشتاق إلى نفسي وملامحى التى أراها دوما بوجهك ، هل تصدقنى ؟! عندما أنظر إليك أنا أنظر إلى نفسي ، عليك أن تعرف شئ يا "ريان" ، أنت القطعة الخضراء وسط هذا الخراب ، أنت بقعة الضوء التى أرى من خلالها ،  كنز صغير نحتفظ به ، يجعلنا أغنياء  ، وإذا حدث وفقدناه نصير فقراء ، أبتسم له "ريان" قائلا:

-وأنت يا أبي أكثر شخص أحبه ، لأنك بالنسبة لى أب وأخ وصديق وسند ، أحبك كثيرا ، لكن بداخلى سؤال يلح عليا دوما ، ولا أجد له أجابة ، هل لى أن أجد لديك إجابة عليه ؟ وضع "زين " يديه فوق المنضدة مقترب منه قائلا:

-ما هو يا " ريان" ؟ أخذ الأخير ينظر بكفيه قبل أن يجيبه قائلا:

-لم دوما أشعر بوجود فجوة بينك وبين أمى ؟ شئ ناقص بينكما لا أعرف ما هو؟ حاولت كثيرا أن أبتلع هذا السؤال ، حاولت أن أتناساه ، لكننى كل يوم أكون بحاجة ، إلى إجابة واضحة عليه ، أخرج "زين" علبة سجائره من جيبه ، أمسك بواحدة يشعلها ، ينفث دخانها فى الهواء قائلا:

-صدقنى ، أنا لا  أكره أمك ، لكنها من بيئة لا أحبها ، ولا أجد راحتى بها ، حاولت أن أدخل إلى هذا العالم ، أن اصبح واحد منهم ، لكننى فشلت ، لم أستطع ، صدقنى لم أستطع ، ربت " ريان" فوق كفيه ،  قائلا بشئ من الحب والأسف:

-أعرف ذلك يا أبي ، أنا الأخر لم أستطع أن أحب هذا العالم الخالى من الروح والدفء ، أخبرك سر ، أننى أحب الصعيد ، وجدتى آمنة وعمى "حمزة" ، حتى الساقية القديمة التى دوما ما أذهب معك إليها أحبها عن هنا ، لم يكد ينهى كلمته تلك ، حتى رأى طيف  إبتسامة مريرة ، فوق شفاه أبيه ، شعر أن هناك عاصفة مرت سريعا بين ملامح وجهه ، عندما ذكر الساقية القديمة ، سمع صوت تنهيدة ، تخرج من صدر أبيه  ، أكدت له أن وراء تلك الساقية ، حكاية كبيرة ، جذورها ضاربة بقلب أبيه ، صمت أحتراما منه  ، لذكرى نبشها بقلبه ، دون أن يدرى ولا يعرف حقيقتها ، أخذ ينادى عليه ، لكنه لم يكن يسمعه ، لم يكن معه ، بل سافر بروحه لسنوات كثيرة مضت ، سافر إلى بلدته والساقية  ، التى ترك روحه وقلبه معلقين بها قبل أن يرحل إلى هنا .

                                          "الفصل الثالث"

                                         " جُرح مفتوح "

تعيش بعض الأماكن بين حنايانا ، نأتيها حينما يستبد بنا الشوق ، ويرهقنا الحنين إلى أرواحنا ، نأتيها مرغمين ، مهما حاولنا أن ننساها وتهجرها أقدامنا ، نشعر  كأتها روح أخرى ، تشعر بنا وتسمع أناتنا ، دون أن تطلب منا الصمت  ، ووقف ثرثرت قلوبنا ، بعض الأماكن تظل شاهدة على أننا يوما أحببنا وخُذلنا ، تظل شاهدة على ما كان فينا وما كان منا ، رغم مرور العمر تبقي تنادينا ومهما فعلنا لا نقدر أن نهجرها .

الليلة ليلة النصف من شهر شعبان ، لا يستطع "زين " مهما كان خلفه ، من مسؤوليات ومشاغل أن ينساها ، لم يمر عام واحد عليه ، دون أن يقضيها فى بلدته ، منشية"  أبو القاسم" ، فهذه هى الليلة التى يري فيها ، أمه وأبن عمه وصديق عمره "حمزة " ، تظل أمه السيدة "أمنة" ، تُعد لتلك الليلة من العام للعام ، تذبح الذبائح وتطعم كل فقراء البلد ، فى صحن البيت الكبير ، أستيقظت فى هذا اليوم باكرا ، لتقف بمنتصف بهو البيت ، تصدح بصوتها الرنان الأمر قائلة :

-هيا  أنهضى يا "سعدية" ، الشمس أصبحت فى كبد السماء وما زلت نائمة ،  دخل عليها رجل فى العقد السابع  من العمر ، أسمر البشرة ، له عينان كلون الزرع ،  يعلوهما حاجبان  ، كثيفين ، ليس بالطويل ولا بالقصير ، وقف بالقرب منها قائلا:

-صباح الخير يا "آمنة" ، ألتفت إليه مبتسمة قائلة:

-صباح الخير أخى الغالى ، أشارت له بيديها  ، وهى تهم بالجلوس فوق أريكة ، من شغل الأربيسك ،  فُرشت  بقطيفة  حمراء ،  مثل باقى قطع الأرابيسك المتناثرة بالمكان ،  يقع خلفها سلم خشبى كبير  ، مطلى باللون العسلى ، يصل الدور الأرضي بالدور العلوى ، الذى يضم خمس غرف  نوم  ، من  أجل "زين" وعائلته ، وأى زائر غريب ، يفصلهم عن بعضهم ، طرقة طويلة فى نهايتها صالة كبيرة ، بها شرفة تطل على حديقة البيت ، وضع بها غرفة جلوس وجهاز تليفزيون  ومكتبة كبيرة ، تضم أمهات الكتب ، كانت ملك لوالد "زين" قبل وفاته ، ومن بعده صارت ملك للأخير ، يقضى بها الكثير من الوقت ، فى القراءة والهروب من الزحام ، جلست السيدة" آمنة" قائلة:

-تعال أجلس بجوارى  يا " أمين " ،  قد أشتقت إليك ، لم أراك منذ أسبوع مضى ، أعلم أنه لولا ليلة النصف من شعبان  ، والعادة التى أسأل الله أن تدوم  ، ما كنت أتيت اليوم ، أقترب منها وما تزال  أبتسامته  ، تعلوا ثغره ، مال على رأسها يقبلها قائلا:

-وٱنا الأخر أشتقت إليكِ  يا بنت أبي ، أعلم أنك غاضبة منى لغيابى عنكِ ، لكن عندما تعلمين أننى كنت أنهى مشكلة ، نشبت بين عائلتين بأحدى القرى ، التى تقع فى البر الشرقى ، من البحر الكبير ، مؤكد سوف تسامحينى ، أنت تعلمين أنك أكثر من أحبه ، بتلك الحياة فقد أخذتى  ملامح  أمى وطباع أبى ، رحمة الله عليهما ، وتعلمين أن ليس لى شقيقات غيرك ، سامحينى على تقصيرى الأيام  االماضية ، ضحكت قائلة :

-أنت نصف روحى يا أخى ، فقد قسمت روحى نصفين ، بينك وبين ولدى "زين العابدين" ، ليس لى أحد غيركما ، بهذه الحياة ، وإن كنت أعرف أنك تحب "زين " أكثر منى ، مال برأسه للخلف يضحك بصوت مرتفع قائلا:

-لا أنكر هذا ، كما تعلمين أننى لم أرزق بالخلف ، وجعلت من "زين" كل أولادى ، ودوما يا "آمنة" نحب أولادنا أكثر من أنفسنا ، أكثر من أى شئ ، مهما حاولنا أن نخفى ، أو ندعى غير ذلك ، مدت يديها إلى صينية  ، وضعت أمامها فوق المنضدة ، تمسك بأناء نحاسي صغير تصنع  به القهوة قائلة:

-كم تمنيت أن تتزوج بعد أنفصالك عن زوجتك ، كم دعوت الله لك ، فى كل سجدة أن تنسي ما كان وتحيا حياتك  ، بعيد عن كل ما مضى ، تنجب أولاد وبنات ، تملأ الدنيا من حولى وحولك ضجيج لا ينتهى ، لكنك دوما ما كنت تغلق معى هذا الحديث ، وتبتر تلك الأمنية ، مدت يديها  إليه تعطيه فنجان قهوته ، أخذه منها وهو صامت ، يرتشف منه وعينيه زائغة ، فى الفضاء أمامه ، شعرت أنها نكأت جرح قديم  ، بداخله دون أن تشعر ، حاولت أن تخرجه من افكاره ، وروحها تقطر مرارة عليه ، تنهدت قائلة وهى تحاول أن تداعبه:

-لم تخبرنى بعد ، ماذا ستنشد لنا بصوتك الجميل تلك الليلة ؟ كما تعلم أننى أحب المعلقات ، وأحب أن أسمعها منك ، حاول أن يبتسم لها ، وقد شعر بما تريد فعله من التخفيف عنه قائلا:

-أول شئ سوف أنشده لك ، غالية يا أم زين ، وكم هو رخيص طلبك ، ربتت على كتفيه بحنان بالغ قائلة:

-كل شئ سيكون على ما يرام ، كل شئ سيكون كما تحب ، لو بعد حين سيرد لك الله حقك ، الله هو العدل ، ومهما مر من زمن ، لا تحسب أن الله غافل ، أو ٱنه نسي حقك ، ستأخذه يوم ما ، نهض واقفا وقد مال على رأسها يقبلها قائلا:

-أنت كما أنت "آمنة"  ، التى لا تهدأ ولا يغفو لها جفن ، قبل أن تطمئن أن جميع من حولها بخير ، كبرنا يا "آمنة" ، كبرنا وصرنا رجال بما يكفى ، سوف أقول لك شئ واحد فقط ، ما كان يرضينا ونحن صغار ،  صار لا يمثل لنا شئ الأن ، وما كان يبهرنا ونحن صبية  ، لم نعد نراه حتى الأن  ما أحببناه فى شبابنا ، عزفت عنه روحنا حينما خُذلنا ، لا تشغلى بالك بنا ، أتركى كلا منا يحيا كما يحب ، سوف أذهب كى أرى الذبائح ، وما يحتاجه الفلاحين بالخارج ، من أجل  إحتفال الليلة ، تركها ماضيا ناحية الخارج  ، وما أن وصل للباب ، حتى وقف ناظرا حيث تجلس قائلا:

-آمنة ، ليس كل ما ترينه أنت صواب  ، يراه غيرك بعيينك ، كل إنسان يرى ما يريد أن يراه ، وهناك من يرون بأرواحهم  ، لذلك رؤيتك شئ ،  يحتمل الصواب والخطأ ، أما رؤيتهم فدوما صواب لأن الأرواح لا تكذب ، تركها مغادر البيت  ، حيث الفلاحين والذبائح ، وقفت " آمنة" تنادى بصوت مرتفع  ، وكأن كلمات "أمين" كان كرباج ، ألهب بها مشاعرها ، ورسالة أسقطت عنها كبريائها ، الذى يصور لها دوما ،  أنها الوحيدة التى على صواب قائلة:

-"سعدية" هيا أنهضىي ، سيدة البيت بل عزبة "أبو القاسم" ،  بأكملها نهضت من الفجر ، وأنت ما تزالين نائمة ، ضربت الحائط بكفها ، وهى تزفر بضيق شديد  ،وصوت يتردد بداخلها ، لا يسمعه غيرها هامسا:

-ماذا حدث لك يا "آمنة" ؟ أوجعتك كلمات "أمين" ؟ أم أنه ألهبك بذنب دوما ما يشعرك به  ، وأنك تحملينه برقبتك مهما مر من زمن ؟ لم تترك لها الخادمة "سعدية" ، فرصة لتسمع رد ، خرجت تهرول من المطبخ ،  فهى تعلم كيف يكون بطش سيدتها "آمنة" ، حينما تغضب ، قائلة برعشة بادية :

-نعم  سيدتى ، كنت أنهى أعمال المطبخ من أجل حفل الليلة ، لست  نائمة كما تعتقدين ، ضغطت على أسنانها بغيظ تحدق بها قائلة :

-أسمى " أم زين العابدين " ، ولست سيدتك ، هل فقدتى الذاكرة د أم تراك كبرت وصرت تهذيين يا "سعدية" ؟ ضربت صدرها بكفها فزعة ، فهى تعلم كم تعتز سيدتها بكنية " أم زين العابدين" ، ولا تحب أن يناديها أحد بغيره ، وكيف لا تحبه ؟! وهو وحيدها وقطعة من روحها ، إن فارقتها تفارقها الحياة ، حاولت أن تصلح "سعدية" ما أفسدته ، أقتربت منها تداعبها قائلة:

-كل عام وأنت كبيرة منشية أبو القاسم  ، وضياء هذا البيت يا "أم زين العابدين" ، أبتسمت رغما عنها ، عندما سمعت  أسمع  أبنها قائلة بزهو واضح:

-عرفتى كيف تطفئين نار غضبى ، أسم "زين " حينما أسمعه ،  أشعر أن هدوء العالم تسرب إلى قلبى ، وأننى أختلست الأمان كله لى ، فقط دون غيرى ، "زين" هو كلمة السر ، التى تربطنى بالوجود ، ولولاه ما حييت يوم واحد ،بعد رحيل أبيه ، إذا أخطأتِ مرة أخرى ، ولم تنادينى به لن أعفيك من العقاب ، أنه "زين" عينى وقلبى ، أشارت لها بيديها ، كمن يريد أن ينهى حوار ، لمس شئ بداخلها قائلة:

-هيا أذهبي كى تنادين ، من يساعدونك الليلة فى طهو الطعام ، الذى سنقدمه لمجاذيب وأهالى المنشية ، جرت "سعدية" تاركة البيت ، تنفذ أوامر سيدة البيت الأولى ، التى وقفت أمام صورة "زين العابدين" ، المعلقة بجوار صورة أبيه الراحل ، على أحد جدران البيت ، مبتسمة له قائلة بصوت مسموع ، وقد مدت أناملها تتحسس الصورة:

-مهما كان حولنا من أحبة ، تظل أعيننا لا ترى سوى أبنائنا ، العالم كله يغدو وجههم ، والفرح لا يعنى شئ سوى رؤيتهم ، أنا غير كل أمهات الدنيا ، أنا أم القاضى وكبير بيته ، "زين العابدين أبو القاسم" ، لم  أرعاه بالطعام والشراب فقط ، بل رعيته بأيام عمري وشبابي ، هيا يا فلذة كبدى لا تتأخر ، أحضر سريعا ، أمك فى  إنتظارك  ، على أحر من الجمر .

يقطع حديث عشقها مع معشوقها  ، صوت وقع أقدام تقترب من الباب ، إستدارت تنظر من الأتى ، تبتسم مشيرة له أن أقترب ، يدخل مسرعا ، يجلس بجوار قدميها على الأرض قائلا:

-"آمنة" متى يحضر "زين " ؟ الوحيد " بمنشية أبو القاسم" ، من يناديها بأسمها مجرد ، الوحيد الذى يدخل بيتها دون  إستأذان ، معه لا تستطيع أن ترفض شئ ،  أو تعترض على أن يناديها بأسمها مجرد دون لقب ، وكيف تملك أعتراض على ذلك ؟!  وهو " البدر" ، مجذوب البلدة صاحب الكرامات والدعوات المستجابة  ، وحبيب حبيبها "زين" ، هو أول من بشرها بأنه سيصير قاضيا عادلا ، تتفائل به ، رغم ذلك تخافه ،  وإن كانت لا تُظهر ذلك ، تخاف بصيرته التى ترى القلوب من الداخل ، تخاف نظرة عينيه ، التى تخبر الكاذب أنه لا ينطق صدق ، تخاف صمته الذى يقول كل شئ ، به شئ رغم طيبته وصدقه  ، ألا أنه يُرعب ، شئ رغم  حكمتها ومكانتها تخافه ، عل أحساسها ،  بأنه يعرف أنها فى  يوم  ، ظلمت وجرحت ، عل ذنب سيبقي عالق برقبتها ، وهىي تعلم ذلك ،  ورغم هذا يتحكم بها كبريائها ، ترفض أن تعترف بما فعلته ، حاولت أن تطرد هذا التفكير قائلة:

-هل أحضر لك طعام كى تأكل يا "بدر" ؟ هز رأسه بالنفى قائلا:

-لم أحضر اليوم من أجل الطعام ، بل حضرت كى أخبرك ، أن "زين العابدين " سيحضر مع أذان المغرب ، لا تجعليه يرحل قبل أن أراه ، وكما جاء كريح خفيفة ، نهض مسرعا تارك المكان وكأنه لم يكن به من لحظات ، هكذا هو يحضر دون أن تدرى ، ويرحل دون أن تنتبه أنه حضر ، وضعت كفها فوق قلبها هامسة ، كمن يتمتم بدعوات  قائلة :

-تصحبك السلامة بنى ، فى كل طريق تسير به ، هيا يا مغرب اليوم أحضر سريعا ، كى تري عينى أحبتها  ، وتدب الروح  بأوصالى ، هيا يا مغرب اليوم أطوى ، صفحة الساعات سريعا وأتنى بحبيب القلب .

                       

                                        "الفصل الرابع"

                                        " قلب لا ينام  "

يهجر النوم أجفاننا حينما نهجر أحبتنا ، يمر الزمن ويبقوا كما هم عالقين بأهدابنا ، لا نستطع الهرب منهم ، لا نملك الأنفصال عنهم ، كلما أغمضنا أعيننا هربا منهم  ، وجدناها تهرب منهم إليهم ، تمر السنين وهم مرسومين كالوشم بين جفوننا ، كدعوة بجبيننا ، لا نمتلك طريق نهرب إليه علنا نضل طريقنا ، ولا نعود نبحث عنهم ، نظل نعيشهم  بين تفاصيل أحلامنا ، نحاول ونحاول أن ننام ليلة دونهم ملء أجفاننا ، لكننا لا نستطع إلا أذا ضمتنا  أحضانهم ، يتسرب إلينا دفء أنفاسهم وأمان براحهم  ، وقتها فقط ننام ، ننام ونحن مبتسمين ، فقد علمنا أننا سنبحر معهم ، عبر سطور كتاب بليلة قمرية ، لا يشاركنا بها أحد سوانا .

حاول " زين " أن يغفو قليلا ، قبل قيامه برحلة اليوم إلى بلدته ، أغمض عينيه وهو يدعوا الله أن ينام ، دون أن يزوره نفس الحلم ، الذى ظل راسخ بعقله ، لا يتركه ولا يسقط منه ، دون رجعة طيلة عشرون عاما ، منذ أن ترك الصعيد وتزوج من " ناهد" ، أخذ يتقلب فى  فراشه  ، يستجدى النوم أن يزوره ولو لساعة واحدة ، يتوقف بها عقله ، ويرحل وعيه عن هذا العالم ، كانت تغفو بجواره زوجته ، شعرت بقلقه وعلمت أنه لم ينم بعد ، وإن كان مغمض العينين ، للحظات سرقه النوم رغما عنه ، نتيجة إرهاقه الشديد فى عمله اليوم ، ونطقه بالحكم فى قضية أغتصاب طفلة صغيرة وقتلها ، بيد المجرمين الذين قاموا بارتكاب تلك الجريمة ، رأى نفسه يجرى بجوار الساقية القديمة ، هناك بمنشية أبو القاسم ، فجأة رأى فتاة جميلة ، تسقط داخل الساقية وهى تصرخ وتناديه أن ينقذها ، مد إليها يديه وهو يصرخ وينادى عليها ، لكنها سقطت ببئر الساقية ، ولم يستطع أن ينقذها ، سمع صوته مرتفع  ، يقول "حكمت المحكمة حضوريا ، بإحالة أوراق المتهمين إلى فضيلة المفتى ، ولو كان الأمر بيدي ،  لأعدمتهم  مائة مرة ، تكفير عما فعلوه بزهرة بريئة لم تعرف شئ ، عن خبث النفوس بعد ، هب مذعورا من نومه ،  والعرق يتساقط من جبينه ، فزعت " ناهد" حينما رأته على تلك الحالة ، أقتربت منه تربت على كتفه ، تمسح عنه قطرات العرق ، التى تغرقه ، مدت يديها تمسك بكوب الماء  ، الذى تضعه بجوار فراشهم قائلة :

-أهدأ  يا "زين" ، أهدأ وأستعذ بالله ، تناول بعض من الماء ، أخذ من يديها كوب الماء يرتشف منه ، عائدا برأسه للوراء ، ماسح على شعره ، أغمض عينيه قليلا يلتقط أنفاسه ، إقتربت منه  قائلة:

-نفس الحلم الذى تراه منذ عشرون عاما ، وترفض دوما أن ترويه لى ، علينا أن نذهب إلى طبيب نفسي ، ليرى ماذا نفعل فى هذا الأمر الذى طال ، وضع قدميه على الأرض قائلا:

-الأمر لا يستدعى طبيب ، أنا بخير ، سأذهب إلى كى أحصل على حمام دافئ ، كى  أرتدى ملابسي  وأسافر إلى الصعيد ، تركها ومضى ناحية الحمام الملحق بغرفتهما ، توقف مستديرا إليها قائلا:

-من فضلك  أخبرى "ريان" ، أن يرتدى ملابسه كى لا نتأخر عن سفرنا ، لم يترك لها فرصة للرد أو الأعتراض ، تركها ودلف إلى الحمام ، خلع عنه ملابسه ، وقف تحت الماء الدافئ ، تغلغلت المياه بين خصلات شعره ، متفرقة فوق جسده، ظل هگذا مغمض العينين كمن يريد أن يكمل نومه تحت الماء ، عله يستطيع هنا ألا يرى هذا الحلم ولو لمرة واحدة ، أنتهى من حمامه ، أغلق صنبور الماء ، تارك قطراته العالقة بشعره وجسمه تتساقط  هامسا بصوت منخفض:

-"قمر" .

دلف إلى غرفته ليجد "ناهد" ، كما هى تجلس بالفراش تطالع مجلة بيديها ، أقترب من المرأة يمشط شعره قائلا:

-هل أخبرتى "ريان" بما طالبته منكِ ؟ قلبت صفحات المجلة دون النظر إليه قائلة:

-لا لم أخبره ، تطلع بصورتها المنعكسة أمامه بالمرأة قائلة بتعجب:

-لم ؟ ما السبب وراء أنك لم تخبريه ، أن يستعد للسفر معى ؟ أغلقت  ما كانت تطالعه ، ملقية بها فوق الفراش قائلة:

-ولم تريده أن يذهب معك ؟ تحدثنا بهذا الأمر عشرات المرات ، بأننى لا أريد أن يختلط أبنى بأهل الصعيد ، لا أريده أن يرث منكم تلك العادات البدائية ، لا أريده أن يأخذ شئ منكم ، من صعيدكم ، أريد أن أبعده عن كل ذلك ، مد يديه يمسك برابطة عنقه  ، يرتديها دون النظر إليها قائلا:

-لا أحد مهما كان يمتلك أن ينزع فرع من جذعه ، لا يستطيع أحد أن يأخذ أحد من أصله ، عليك أن تعرفى شئ هام ، من الواضح أنك تناسيته  ، متعمدة وواجب على أن أردده على سمعك مرة أخرى ، "ريان " أبنى الوحيد ، ينادى بلقب أبو القاسم وليس بلقب  أبو المجد ، أراك نسيتِ هذا مع أنه أمر لا ينسي ، سواء  رضيتى ، أم  لن ترضى ، هو أبن "زين العابدين أبو القاسم" وحيث يكون أبوه يجب أن يكون ، مال على فراشه  ، يأخذ حلته ومفاتيح عربته ، مكمل حديثه قائلا وهو يشير إليها بسبابته:

-لا تنسي كلامى هذا ، لأننى لن أعيده عليكِ مرة أخرى ، ليس لدى وقت أرد إليك عقلك ،  كلما أتت فرصة أو مناسبة  ، تقتضى سفرى إلى الصعيد ، قصد باب الغرفة كى يغادر ، أمسك بمقبضه وقبل أن يذهب  إستدار قائلا:

-سوف أترك "ريان" تلك المرة ، لن أصحبه معى ، لكن ليس السبب كل هذا الهراء ، الذى  تفوهتِ به ، لكننى لا أريد أن أتأخر عن سفرى ، ولا أريد أن أرهقه  ، بقرارى المفاجئ  بصطحابى  له رغم أننى نبهتك ، بأننى أريده معي ، لم يعطيها فرصة للكلام ، صفق الباب خلفه ماضيا فى طريقه ، توقفت قدميه أمام غرفة "ريان" ، فتحها ببطء شديد ، كى لا يوقظه من نومه ، دلف مغلق الباب خلفه ، أقترب من فراشه ، كان يغض فى نومه ولم يشعر به ، جلس أمامه على حافة الفراش ، ظل يتطلع فى وجهه ، أبتسم يحتضنه بعينيه ، مسح فوق شعره برقة وصوت بداخله يهمس :

-أنت بقعة الضوء فى حياتى الحالكة يا بنى ، أنت الشئ الأخضر وسط الخريف الذى يملأ عمرى ، لولاك ما كنت أعرف كيف سأكمل حياتى ؟ أنت فقط من جعلتك شريك بقلبى مع…… ، صمت فجأة ، صمت وكأن من أراد أن ينطق أسمها ، يخاف عليها ، من أن يعرفها أحد غيره ، وقلبه الذى عاش عمره كله ، يخفيها بروحه ، يدثرها بين جلده وعظمه ، لاحت دمعة بعينيه  ، رفضت أن تغادرهما ، أقترب من "ريان" يقبل جبينه ، مغادر الغرفة والمريوطية بأكملها ، قاد سيارته وهو يستمع إلى صوت فيروز الدافئ ، الذى تسرب رويدا رويدا إلى روحه ، ليستسلم له وكأنها يد حانية تمسح عنه الموقف ، الذى كان بينه وبين "ناهد" ، خرجت منه تنهيدة  ، شعر أنها آتية من أغوار بعيدة ، حاول أن يفهم ما تريد أن تقوله ، فوجد نفسه يغمض عينيه قائلا:

-يا تنهيدة آتية من بين الضلوع ، بربك أخبرينى  وصدقينى القول ، هل أنت رقائق عشق ، أم ٱنك ألم الفطام ممن نحب ؟ عاد يفتح عينيه ، حينما سمع صوت سيارة تسير بجواره بسرعة رهيبة ، منبهة إياه أنه يقود على الطريق الصحراوى ، تمسك بمقود سيارته جيدا ، يستحلف الوقت أن يمر ويجد نفسه بالبلدة داخل حضن أمه ، يضحك على نكات صديق عمره  ، وأبن عمه "حمزة" ، يخرج كل ما بداخله ، بين يدى خاله "أمين" ، يتبرك بدعوات "البدر" ، ويا ليت القدر يمنحه فرصة واحدة كى يملأ عينيه من التى سكنت القلب والعقل.

                                        "الفصل الخامس"

                                            "حنين"

مالت الشمس للمغيب ، لم تنسي أن ترسل أشعتها الدافئة ، فوق زجاج سيارة "زين" ، التى وصلت إلى منشية "أبو القاسم " ،  قبل أذان المغرب بدقائق ، لم يعرج إلى البيت الكبير ، بل عرج إلى المسجد الكبير ، صاحب المئذنة  ، التى تخطى عمرها  مائة عاما ، يتذكر جيدا عندما كان يصلى به العصر  ، وهو أبن السبع سنوات  ، سأل خاله "أمين"  ، الذى كان يؤمهم ،  فى الصلاة عن عمر هذا المسجد ،  الذى دوما ما يجد به سكينة غريبة ،  تتسرب إلى نفسه ، يومها أخبره بأن عمره يكبره بحوالي سبعون عاما ، ترجل من السيارة  ، بعد أن أوقفها فى أحد الأركان ، وقف أمام باب المسجد ،  يتطلع إلى مأذنته مرة  ، وإلى حوائطه مرات ، أبتسم أبتسامة تحمل حب وحزن وحنين  ، ومشاعر كثيرة متداخلة  ، هو فقط من يعرف ماهيتها ، سار ناحية الباب ، خلع حذائه ، دلف إلى صحن المسجد ، سمع صوت خاله وهو يقول:

-حى على الصلاة ، حى على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر، لا آله إلا الله ، وقف خلفه يصلى ، وقلبه يدعوا أن تطول تلك الصلاة .

نقسم على الوقت ألا يمر ، نستحلف  الزمن أن يقف ، نستجدي الأرض لتتوقف عن الدوران ، نتمنى أن نفقد الذاكرة دفعة واحدة ، كى تبقى اللحظة التى نحياها ، متمنين أن نذوب بها أكثر ، نتوحد أكثر ، نبقى شئ واحد ، لا يستطع أحد ٱن يأخذنا مما نحياه .

أفاق "زين"  ، على كلمة السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله ، أنهى صلاته ، رأه بعض المصلين من أهل المنشية ، أخذوا يصافحونه  ، مرحبين به ، مهنئين  إياه ، بليلة نصف شعبان ، غادر الجميع المسجد ، لم ينتبه خاله"أمين" إلى وجوده ، فقد جلس مكانه يختم صلاته ، تقدم منه وعلى محياه أبتسامة حلوة ، جلس بجواره يمد له يديه قائلا:

-تقبل الله ، مرت ثانية قبل أن ينتبه إلى صوته ، فالتفت ناحيته بفرحة غامرة ، وهو يطوقه بين ذراعيه ، حتى علت صوت ضحكاتهم قائلا:

-أشتقت إليك يا ولدى ،  أشتقت إليك ، كم كان اليوم طويل وأنا هنا ، أحسب ساعاته كى ينتهى وأراك أمامى ، حمدا لله على سلامتك ، أستند على يد "زين" واقفا وهو يجذبه قائلا:

-هيا "آمنة"  تنتظرك منذ الفجر ، أنها تموت شوقا إليك ، هيا بنا ، نهض يمسك بيد خاله ، شرد قليلا دون أن يتحدث ، سمع صوت خاله يقطع شروده  ، وعلى شفتيه إبتسامة حزينة قائلا:

- ليس اليوم يا "زين" ، ليس اليوم ، أتركها للغد ، الظلمة قد حلت ،  ولن تسطع أن ترى شئ هناك الأن ، غدا  إن شاء الله أفعل ما يحلو لك ، مضيا سويا مغادرين المسجد ، قاصدين بيت "آمنة" ، صعد "أمين" إلى السيارة بجوار "زين"  ، الذى تبدلت ملامحه  ، وكأنه عاد بالسنين للخلف عشرون عاما دفعة واحدة ، ظهرت بعينيه لمعة جميلة ، لم يعرف أكانت لمعة فرح  ، أم لمعة شجن ؟ أبتسم خاله دون أن ينبش فى شئ ، يحاول أن ينهي  ذلك الصمت قائلا:

-كيف حال "ريان" ؟ كنت أظنك ستأتى به معك ، قد  أشتقت إليه ، لم أراه منذ سنة ، عرج "زين" بأحدى الطرق الزراعية الصغيرة  ، التى تربط بيته بالمنشية قائلا :

-أمه لا تريده أن يحضر إلى هنا ، تتهم الصعيد بالعصبية وعلى حسب قولها ، لا تريد له أن يأخذ شئ من صفاتنا ، نظر إليه "أمين" وقد علا وجهه علامة إستفهام قائلا:

-ومن منا يستطيع أن يمنع أحد عن أهله ؟ من يملك أن يقطع  فرع  من أصله ؟ لا أفهم ما الشئ الذى  يخيفها  ، من تواجد أبنك هنا معنا ، مع عزوته وعائلته ؟ وما الذى لا يعجبها هنا ، تراها قد نسيت أنك من هنا ؟! أنت زوجها ، أم تراها قد نسيت مكانتك ،التى وصلت إليها ويقسم بها الجميع ؟ تنهد "زين" بقوة  ، وهو يدق مقود سيارته بأصابعه قائلا:

-تلك المكانة لا تنساها ، دوما تتباهى بها أمام معارفها  ، والوسط الذى تحيا به ، لكنها دوما تُسقط متعمدة من ذاكرتها ، من أنا وأين ولدت ونشأت  ؟! تحاول بدورها أن تُنسي "ريان " هو الأخر بأبعادها له عن هنا ، "ريان" يحب المنشية  ، ويحب أن يأتى معى دوما ، هى التى تتعمد إبعاده ، تركته اليوم  بأرادتى ، لم أحب أن أفعل معها مشكلة أو مشادة كلامية ، من أجله ومن أجلى أنا الأخر ، شعر "أمين" أن "زين " ،  بحاجة للتحدث ، بحاجة لأن يُخرج شئ حبيس بداخله ، لكنه لم يعلم أيضا أنه لا يتحدث بسهولة ، لا يُخرج ما بداخله ، دون أن يُخفى منه جزء كبير ، هكذا هو منذ صغره  ، يخفى مشاعره وأوجاعه  ، ولا يظهرها مهما كلفه الأمر ، لكن تلك المرة شعر أن قناع القوة التى يرتديه دوما قد شرخ ، به شئ لم يعد كما هو ، شئ موجوع ، شئ مُتعب ، شئ أكتفى  ، ولم يعد يستطع أن يحمل المزيد فوق  أكتافه ، تركه لم يشأ أن ينبه ، تركه يتحدث وهو يدعوا الله أن يكمل حديثه ولا يتوقف ، تمنى لو كان  بيده ،  لو أختفى من جواره كي لا يخجل ويُكمل ، داعيا الله ٱن ينسي أنه ،  أطلق سراح ما سجنه بداخله ، لكن ما جاهد لفعله ، لم يفلح تلك المرة أيضا ، صمت "زين " وهو يمر من أمام الساقية القديمة ، صمت به كل شئ ، حتى عينيه صمتت ، لم يظهر بها أى تعبير أو أى شئ ، أطلال ماضي لاحت تحمل بها الكثير والكثير ، لم يكن بيد "أمين " شئ يفعله  ، غير أن صمت هو الأخر ،  وكأنه فى  حضرة شخص ، يتلوا صلواته داخل معبد ، صمت لأنه لم يكن لديه كلام يرسلها له ، نصمت دوما ، كلما عظم أحساسنا ووصلت مشاعرنا لوهج صدقها ، نصمت إذا ما شعرنا ، أن كلامنا  سوف يفتح جراح وينهش ذكرى ، دفنت منذ زمن ، نصمت دوما عندما نحاول ، أن نلملم  حروف العربية  ،نعبر بها عن أحساسنا ولا نستطع ، كل ما نستطع فعله وقتها ، هو أن نصمت ، نصمت ونترك بختيارنا الحنين ينهش ما  أودعناه مثواه الأخير  ، وكأنه لم يرحل يوما عن أرضنا ، أكملوا الطريق وهم هكذا ، كلاهما غارق فى صمته ، وإن كان صمته هذا ، مسموع للأخر ، وصلا إلى الممر الطويل الذى تكسوه أشجار العنب ، الذى يوصلهم إلى بيت المنشاوى ، ترجلا من السيارة معا ، سار "زين " بجوار خاله  ، يتلفت حوله يطفئ  إشتياقه للبيت ، يحاول أن يجمع ما أستطاعت عينيه الوقوع عليه ، وقف أمام نافذة غرفته ، يمسك بأغصان شجرة الياسمين ، التى تلتف حولها ، كان قد زرعها منذ سنوات طوال ، وجد فروعها قد جفت  ، وأزهارها البيضاء تساقطت على الأرض تحت أقدامه ، مال عليها يتناول أحداها بين يديه ، قربها من أنفه يستنشقها ، علت وجهه علامات الحزن على ما أصابها ، إقترب منه خاله ،يربت كتفيه قائلا:

-لا عليك ، سوف ترويها من جديد ، سوف تعود كما كانت ، الزرع يموت إذا ما غاب عنه من زرعه ، أنه بالضبط كالبشر ، يموتون عندما يرحل عنهم أحبتهم ، جذبه من يديه ، متجه ناحية باب البيت الذى أضاءت جميع مصابيحه ،  فنشرت نورها فى المكان كله قائلا:

-هيا بنا "آمنة" تنتظرك منذ الصباح الباكر ، قد أكل منها الشوق وشرب ، هيا بنا ، وصلوا حتى باب البيت ، وقف أمامه يتطلع إلى أمه ،  التي وقفت  ، ببهوه تنتظر ظهوره ، وما أن شعرت به حتى تقابلت ضحكاتهم وبكائهم فى نفس الوقت .

                                    "الفصل السادس"

                                           " قمر "

جلست بغرفتها  تمشط جديلتها الطويلة ،  التى تشبه لون صفرة الشمس ، تتماشي مع لون بشرتها الأبيض وعينيها الخضراوين ، الذي لا يستطع أحد النظر بهما ، دون أن يسقط بداخلهما ، يتمنى الغرق فيهما دون نجاة ، لها ذقن صغير ، به طابع حسن حُفر بدقة ، ممشوقة القوام ، لها قلب يحمل براءة الأطفال وحكمة الكبار ، وقسوة الحق ، لم يعرفها أحد  ، إلا وسقط صريع حبها ، أخذت تجدل جديلتها ، وهى  شاردة فى الفراغ أمامها ، جائها صوت رقيق من خارج غرفتها ، يستأذنها كى  تسمح له بالدخول ، ألقت بجديلتها خلف ظهرها قائلة:

-تعالى يا "غالية" ، فتحت الباب وطلت من خلفه صبية تشبهها كثيرا ، من يراهن يحسبهن توأمين ، وإن كان الشئ الوحيد ، الذى يثبت أنهم ليسوا بتوأمين ، هو فارق السن ، دخلت "غالية" التى كانت ترتدى جلبابا فضفاضا ، من الحرير الأحمر المنقوش  ،بورود صغيرة بيضاء اللون ، ممسكة بمشط عاجى بيديها ، أقتربت منها تحتضنها من الخلف قائلا:

-"قمر"  أريدك أن تمشطين شعرى ، إستدرات إليها تضحك ، قد أمسكت بيديها تجلسها أمامها قائلا:

-كبرتى وما زلتِ ، لا تستطيعين تمشيط شعرك ؟ إلى متى سوف أظل أمشط لك شعرك يا "غالية"

نظرت إلى صورتها المنعكسة أمامها فى المرآة قائلة:

-سوف تظلين تمشطين لي شعرى ، حتى يصير عندى أولاد فى مثل سنى هكذا ، حتى وإن كنت أعرف ، كيف أصنع جديلتى ، سوف أظل أتيك ، كى تصنعيها لى بيديك يا "قمر" ، أنسيتى أنك أختى الكبيرة وأمى ، التى لم أعرف غيرها بعد وفاة  أمى ، وكنت ما زلت طفلة ، فتحت عينى على تلك الحياة ، فلم أجد أحد غيرك بجوارى ، أمسكت " قمر " شعرها برفق ، مقبلة رأسها قائلة:

-وأنت أبنتي  التى لم أنجبها ، سوف أصنع لك جديلة حلوة تشبهك ، لكن أخبرينى أين أبي الأن ؟ لم أراه منذ الصباح ، وقد غربت الشمس ، مدت " غالية " يديها تتحسس شعرها قائلة:

-أبي بحديقة البيت  ، منذ ساعة يقرأ القرآن الكريم ، لم يشأ أن يزعجك ، وطلب مني أن أتركك تستريحين قليلا ، فمنذ أستيقاظك مع الفجر ، تظلين تعملين بالبيت ،  تتابعين الفلاحين بالأرض .

مسحت "قمر" على رأس "غالية " مقبلة إياها قائلة:

-تعب الأحبة راحة ، لا نشعر مع ما نقدمه لهم ،  بثمة تعب ، بل نشعر معهم دوما بالمتعة ، والأن هيا أذهبي لتبدلين  ملابسك ، سوف نخرج سويا  ، الليلة سوف تقام الإحتفالات بالقرية ، من أجل ليلة النصف من شعبان ، سوف  أبتاع لك ما تحبين من حلوى ، قفزت "غالية " فرحة بما قالته شقيقتها قائلة:

-وأريد كذلك "حب العزيز" ، ضحكت "قمر" قائلة:

-سوف أحضر لك كل ما تشتهين ، جرت ناحية الباب مغادرة ، كى تبدل ملابسها ، إستعدادا لنزهة الليلة ، إلا أنها توقفت فجأة كمن تذكر شيئا قائلة:

-لكن أبي لن يسمح لنا بالخروج بمفردنا ، هو دائما يخاف علينا ، لا أعلم لماذا؟! شردت "قمر" عبر نافذتها قائلة:

-أتركي  أبي لي ، سوف نخرج لا تخافين ، هيا أنت  إذهبي  إلى غرفتك ، بدلى ملابسك ، وأنا سوف أذهب لأطمئن عليه  ، أستأذنه فى  الذهاب سويا ، غادرت "غالية" الغرفة ، مغلقة الباب خلفها ، تاركة "قمر" واقفة تبحث عن وشاح رأسها ، الذى ما أن وجدته ، حتى وضعته فوق شعرها  ، تاركة خصلة منه تسقط فوق جبينها ، وكأنها رافضة أن تصبح مقيدة ، كروح صاحبتها ، هبطت إلى أسفل ، حيث حديقة المنزل ، التى تمتلأ  بأشجار النخيل والليمون والتوت والورد مختلف الألوان ، تفترش أرضها حشائش خضراء ، رص فوقها مقاعد كثيرة ، من خشب الأرابيسك ، فرشت بمفارش زاهية الألوان ، سارت متجهة نحو أبيها ، الذى جلس فى ظل شجرة التوت الكبيرة ، أخذ يقرأ القرأن الكريم بصوت عذب دافئ ، وقفت أمام أحدى شجيرات الورد ، قطفت من إحداها ، وردة حمراء صغيرة ، أخذت تستنشقها ، سامعة صوت يتناول منها الوردة يضعها بخصلات شعرها قائلا:

-تبهرك تلك الوردة بجمالها ، دون أن تدري أنك أجمل منها بكثير ، ضحكت بصوت عالى ، ضحكة طفولية قائلة:

-سوف تظل هكذا تخبرنى أننى جميلة ، حتى يأتى يوم لن تستطع أن تحدثنى ، سوف أصبح مغرورة بسبب مدحك هذا ، تناول كفها بين يديه يقبله ، مسافر بعينيها قائلا:

-أنت حقا جميلة فى كل شئ ، جميلة القلب والروح ، حتى تلك الضحكة الحلوة التى تنير لي الطريق ، وتمسح الكون من شوائبه ، أراها جميلة كأنها جمعت بها كل جمال العالم ، صدق من أختار لكِ ، أسم "قمر"  ، يا قمر روحي ، عادت من شرودها على صوت  ، "زاد الدين " أبن عمها  ، وهو ينادي ،  من الخارج على عمه ،  انتفضت   فى  مكانها  ، ملقية بما كانت تمسكه بيديها ،  من وريقات الوردة الحمراء ، التى تساقطت منها دون أن تشعر هامسة:

-دوما  كنت  تنادينى يا قمر روحي ، الأن   أخبرنى  ، أين أنت وأين أنا ؟ لن أسامحك ما حييت ، لن أنسي ما فعلته بي ، عدلت من وضع الوشاح فوق رأسها ، رافعة رأسها لأعلي ، ذاهبة حيث جلس أبيها  وأبن عمها ،  الذى دلف لتوه ، داخل الحديقة يصافح عمه ، أقتربت منهم "قمر" مبتسمة قائلة:

-أهلا بك يا "زاد الدين" ، أشتقنا إليك ، منذ أسبوع لم تأتى لزيارتنا ، ألم تشتاق إلى عمك ؟ إبتسم خجلا قائلا:

-لا يغنيني عنكم شيئا ، سامحنى يا عمي ، كنت مسافر ، أنهي بعض الأعمال الخاصة بتجارتي ، مد يديه بلفافة إلى "قمر"  ، التى لم يستطع أن يرفع عينيه بوجهها قائلا:

-هذه الحلويات من أجلك أنت وغالية ، كانت قد طلبت مني أن أحضرها لها عندما أسافر ، تناولتها منه مبتسمة قائلة:

-شكر لك يا "زاد" ، طيلة عمرك تتذكرنا ، لم يشأ الله أن يكون لي أو "لغالية" أخ ، لكنه جعلك عوض لنا وسند ، نستند إليه بعد الله سبحانه وتعالي ، أجلس مع عمك قليلا ، سأذهب أعد لكما فنجانين من القهوة التى تحبها ، لقد طحنت البن اليوم ، كأنني أعلم أنك ستأتى لزيارتنا ، تركته واقف مكانه ، ينظر بالأرض  ، مضت داخل البيت ، رفع عينيه ينظر إليها ، بعد أن أولته ظهرها وكأنه كان يخاف أن ينظر بوجهها ، يحتضنها  بين يديه ، خاف أن تري صورتها المطبوعة فوق ماء عينيه ، هكذا نحن عندما نحب ، نخاف ، نخاف أن ننظر إليهم ، فيسلبونا العقل والقلب ، نخاف أن يروا بأعيننا لهفتنا ، نخاف أن نضعف ، ونعترف لهم بما أخفيناه عنهم ، بين ضلوعنا ، نظل نسترق النظر إليهم من بعيد ، نطعم أرواحنا الجائعة إليهم  ، ما نقتاته من نظرات  إليهم ، نرى ضحكاتهم ، فنبتسم صامتين وكأن ضحكاتهم شئ منا ، نراقبهم حتى تحين الفرصة لنسافر عبر ملامحهم ، إلى مدن أبوابها من حرير ، وحراسها ملائكة وسكانها عاشقين ، هكذا نحن كلما  كبر عشقنا كلما  كبر خوفنا . 

                                  "الفصل السابع"

                                    "ِلم يا أمي"

تثائب "ريان" فى كسل شديد ، أخذ يفرك عينيه ناظرا بالمنبه ، الموضوع بجوار فراشه ، يجد الساعة تشير إلى السابعة مساء ، هب واقفا تاركا فراشه ، قصد غرفة أبيه ، وقف يطرقها طرقات خفيفة ، لم يجيبه أحد ، فتحها بهدوء ينظر إلى الداخل ، لكنه لم يجد بها أحد ، عاد يغلق الباب ، مغادر إلي أسفل ، حيث البهو الكبير ، وجد أمه تجلس تطالع بعض مجلات الموضة  ، وهى تحتسي فنجان قهوتها ، جلس بجوارها بعد أن قبلها ، أبتسمت له وعادت مرة أخرى ، تطالع المجلة التى بيديها ، قطع "ريان" هذا الصمت قائلا:

-أين  أبي ؟ لقد بحثت عنه فى غرفته لكننى لم أجده ، أخذت تقلب صفحات ما تقرأ به ، دون أن ترفع عينيها عنها قائلة:

-لقد سافر إلى منشية  أبو القاسم ، إعتدل فى جلسته مفزوعا قائلا:

-ماذا ؟ لقد  إتفقت  أن  أذهب معه إلى الصعيد ، لقد أشتقت  إلى جدتي ،  وأريد أن أراها ، كما أريد أن أرى الأرض والبراح  ، وجدى "أمين" وعمي "حمزة" ، زفرت بشئ واضح من الضيق مغلقة المجلة التى كانت تتصفحها ، ناظرة إليه قائلة :

-أنا من رفضت أن يصطحبك معه ، نظر إليها مستغربا ما قالته ، حاول أن يكتم غيظه قائلا:

-إلى متى يا أمي  تقررين لى حياتى  ؟! وما يجب أن أفعله وما لا يجب ؟!  لم فعلتِ ذلك ؟ أعتدلت فى جلستها تنظر إليه قائلة :

-"ريان" تحدثنا كثيرا فى هذا الأمر من قبل ، أخبرتك مرارا ، أننى لا أريدك أن تختلط بأهل البلدة ، لا أريدك أن تأخذ شئ ، من عاداتهم البالية ، أشاح  بوجهه بعيدا عنها ، كى لا ينظر إليها قائلا:

-وأنا أخبرتك مرارا أننى قد كبرت ، لم أعد هذا الطفل الذى تختارين له  ، وتقررين ما يجب عليه فعله ، لقد كبرت يا أمي وصرت رجل ، تراك لا ترينني ، أبتسمت  رغما عنها  ، محاولة أن تمسك  بزمام الموقف بين يديها قائلة :

-أعرف أنك كبرت ، ومن أجل هذا لا أريدك أن تسافر حيث أهل أبيك ، أنت الأن أبن القاضى وسيدة المجتمع ، وكم من عيون تترصد بك ، تريد أن تأخذك زوج لأبنة من بنات المنشية ، جحظت عينيه وهو يضرب كفا بكف قائلا:

-أمي هل أنت مقتنعة بما تقولين ؟ أم ترينى طفل صغير أمامك  ، سوف تُقنعيه بما قلتِ ؟ بنات من؟ وعريس  من؟ ما زال  أمامى الكثير من الوقت  ، على ما تقولينه ، تناولت أخر شئ بفنجان قهوتها معتدلة فى جلستها ، رافعة حاجب عينيها قائلة بتحدى:

-أنت محق لم تعد ذلك الطفل ، الذى من الممكن أن أقنعه بأى كلام ، حسنا سوف أخبرك ، لم فعلت ذلك ،  ببساطة لا أريدك أن ترى حياتهم  ، وتأخذ من تقاليدهم ، أنفلتت من بين شفتيه أبتسامة ساخرة قائلا:

-تُراك نسيتى شئ هام  ، وسط حساباتك تلك يا أمي ، نسيتى أنهم أهلي وأنا أبنهم ، نسيتى أنني من هؤلاء الذين تخشين منهم علي ، أمي أنا من هؤلاء الناس ، ومهما حاولت أن تغلقِ على عالمى بعيدا عنهم ، لن يحدث ذلك ، لأننى ببساطة أحبهم  ، وأجد معهم راحتي ، هم ليسوا كما تتخيلين كل حياتهم ثأر وقتل ، هم يحيون الحياة بحب أكثر منا ، أكثر من هذا العالم  ، الذى جعلتِ منه سجن لي ، عالم مزيف كله رياء وخبث ، هبت واقفة وقد إستشاطت غضبا قائلة بصوت مرتفع :

-تتحدث كأبيك ، أشعر أن "زين" هو من يتكلم وليس أنت ، قلت لك شئ ولن  أرجع عنه ، ذهاب إلى منشية أبو القاسم لن يحدث ، نهض واقفا أمامها واضعا يديه بجيب بنطاله قائلا بهدوء:

-وأنا سوف أذهب يا أمي ، لم تجعلي أبي يأخذنى معه ، خوفا علي ، وأنا سوف أذهب إليه بمفردى غادر المكان قاصدا غرفته ، تاركا "ناهد" غارقة فى شرودها  ، وصوت بداخلها يدق رأسها يهمس قائلا:

-هل هذا "ريان" أبنى ؟ الذى  كان بالأمس طفل ؟ أم تراه قد كبر  ، كما  أخبرني الأن وأنا من ترفض الأعتراف بهذا الأمر؟ ماذا أفعل إذن ،  كى أبعده عن عائلة أبيه ؟ أشعر أن "زين" قد أورثه حبه العميق لهم ولبلدته ، أخاف أن تتكرر قصة أبيه معه مرة أخرى ، تلك القصة التى مر عشرون عاما وما زالت تقف بينى وبينه ، حتى جعلت  كلا منا يحيا حياة أخرى ، لو كان بيدي لقضيت على منشية أبو القاسم بأكملها بمن فيها ، لكننى إن لم أستطع فعل ذلك ، فما زال بأمكاني أن أمنع  أبني عنهم ، لا أريد له قصة ،  تشبه قصة أبيه ، وقتها فقط لا أعرف ، ماذا بإمكانى أن أفعل ؟ دفع "ريان" باب غرفته بعصبية ، جلس على حافة فراشة يضربه بكفه قائلا:

-ماذا عساي أن أفعل ، كى تكف أمي عما تفعله ؟ إلى متى سوف أظل حبيس تلك الغرفة ، أخرج بأذن منها وأعود وقتما تريد ؟! وقف قاصدا نافذة حجرته ، أزاح عنها ستائرها البيضاء ، فتح زجاجها وأخذ يستنشق الهواء بعمق ، هامسا لنفسه:

-هناك شئ أخر أشعر أنه السبب وراء ما تفعله أمى معى ، الحكاية ليست كما تدعى ، أشعر أن فى الغيب شئ كبير  ، قد حدث فى الماضي ، وهو السبب أيضا وراء تلك الفجوة ، الواقعة بين أبي وأمي ، لن أهدأ حتى أعرفها ، تنهد بقوة رافعا رأسه ناظرا إلى السماء هامسا:

-كم أتمنى يا الله أن تكون حركة تنقلات عمل أبي ، تتضمن أسمه وينتقل من هنا إلى الصعيد ، وقتها بأمكاني أن أرحل معه إلى هناك ، ليت الأيام تمر سريعا وتظهر نتيجة نقله إلى محافظة أخرى.

                                       "الفصل الثامن"

                                       " حضن دافئ"

وقف "زين " بمدخل البيت ،  بعد أن صعد سلم صغير من الرخام الأبيض ، وقف ينظر إلى أمه التى كانت تقف أمام مائدة الطعام ،  تشرف على ما وضع فوقها ، من  أنواع متعددة من مختلف أنواع الطعام  ، التى يحبها "زين العابدين" ، أخذ يملأ عينيه منها دون أن يناديها ، أراد أن يشبع جوع روحه إليها ، علت شفتيه أبتسامة رقيقة  ، وهو يضم كل جزء منها إليه ، شعرت برائحته تخترق أنفاسها ، همست قائلة :

-أشتم ريح " زين " ، نعم أنا لا أخطأه أبدا ، إن ضل أحساسي كل شئ  ، وأى شئ لن يضل الطريق إليه ، رفعت رأسها تنظر بأتجاه الباب ،  كأنها علمت أنه يقف به  ، ينظر إليها هو الأخر كى يمتلأ بها ، تلاقت أعينهما أبتسم  معا فى  لحظة واحدة ، فتحت له ذراعيها على وسعهما قائلة:

-وإن كذب أحساسي فى كل ما يشعر به ، فقلبي الذى رأك قبل عيني ، لن يكذب أنك جئت ، جرى إليها يلقي بنفسه ، وبكل ما يحمله بقلبه وروحه بين ذراعيها ، ضمته إليها بشوق جارف ، كأرض عطشى  للماء  ، فى يوم هجير ،  أطبق عليها ذراعيه  ، كغريق يمسك بطوق نجاة ، ظلا كلاهما داخل حضن الأخر دون كلمات ، دون صوت ، دون همهمات ، تركوا لأحضانهم  المطبقة ولأيديهم  المتشابكة ، مهمة الثرثرة والحديث ، أخذت تمسح على رأسه قائلة بعد مرور وقت من الصمت:

-دعني أشتم ريحك يا عزيز قلب أمك ، دعني أستشعر دفء حضنك ، فقد أستبد بي الشوق إليك يا "زين" ، ثلاثة شهور لم ترى عيني النور ، لأنها لم تكن تراك ، ثلاثة شهور كأن كل الساعات ليل لا يأتيه نهار ، اليوم فقد اشرقت الشمس وجاء النهار ، ضمها إليه أكثر كمن يريد أن يخبرها أنها هو الأخر أشتاق إليها لكن الكلمات لا تسعفه كي يخبرها بما يحمله بقلبه ، خرج من بين ذراعيها ببطء يقبل رأسها ويديها وهو يضحك لعينيها قائلا:

-ليسامحنى الله ويغفر لي ، تغافلي عنكِ يا أمي ، لكن أنتِ تعلمين ثقل مهام عملي  ، وأنشغالي الذى لا ينتهي بقضايا الناس ، لقد تركت كل شئ  ، وجئت إليك أستريح قليلا بين يديك ، مدت يديها تمسك بوجهه بين كفيها قائلة :

-لقد نسيت أنشغالك والثلاثة شهور ، بأكملهم بمجرد أن رأيت طلتك يا ولدي ، قبل أن يجيبها "زين" بأى كلمة ، سمعا صوت "أمين" ، الذى كان ما يزال واقفا مكانه ، أمام الباب قائلا وهو يضرب كفا بكف:

-هل لى مكان هنا ؟أم تراكما لا ترحبان بضيوف تلك الليلة  ، من أجل قصة الحب تلك ، التى أراها والتى يعلمها الجميع ، ضرب "زين " مقدمة رأسه بكفه قائلا:

-وجهي منك فى الارض يا خالي ، عذرا تغافلت عنك ، عندما رأيت أمي ، تعلم كم أشتقت إليها ، نظرت إليه " أمنة" قائلة:

-أنت هنا منذ متى يا أبن أبي؟ سار "زين " ناحيته يجذبه من يديه قائلا:

-أنه حضر معى يا أمي ، تعرفين أننى أعرج على المسجد الكبير أولا ، أصلي به وأتى بخالى معى إلى هنا ، لقد تشاغلنا عنه ، أستحلفك برأس جدي ألا تغضب مني ، تقدم "أمين" خطوتين حتى وقف بالقرب منهما ، أمام مائدة الطعام قائلا:

-لو تركتمونني أجلس أتناول طعامي ،  أولا سوف أنسى كل شئ ، رائحة طعام "أمنة" بمقدوره أن ينسيني أى شئ ، ضحكوا جميعا متجهين إلى المائدة ، التى أفترشت بمختلف أنواع الطعام والشراب ، أحتفالا بقدوم "زين" ، الذى وقف مكانه ينظر بأتجاه الباب ، كمن ينتظر قدوم أحد ، جلست "أمنة" بجوار أخيها ، ناظرة إليه قائلة:

-أجلس يا ولدي ، "حمزة" سوف يأتى حالا، هو يعلم أنك سوف تحضر الليلة ، وكما تعلم أنت رفيق دربه وصديق عمره ، الذى لا يتأخر عليه ، تنهد وهو يبتسم قائلا:

-أشعر أنه توأم لروحي يا أمي ، عمي دوما كان يخبرنى بذلك ، عندما يرانا دوما ملتصقين ببعضنا البعض ، كان يقول أنت تكبر "حمزة"  ، أبن عمك بسنة يا "زين" ، لكنني أشعر من شدة أرتباطكما  ، أنكما جئتما من حبل سري واحد ، أتذكره عندما كان يغضب ، إذا وقع من أحدنا خطأ ويخبرني أنه لا يجب أن نخطأ ، فأولاد الرجال يجب أن يكونوا رجالا ، كم سقطت السنين سريعا وكبرنا وزحف ، البياض إلى رؤوسنا  ، صرنا رجالا بحق يا أمي ، كما كان يريد أبي وعمي رحمهما الله ، صرت قاضيا و"حمزة" صار عمدة لمنشية أبو القاسم ، وعضو مجلس الشعب وإن كان منصب العمدة ، بالنسبة له منصب شرفي ، خلف لعمي ، فالجميع يقصدونه ، فى حل مشكلهم وخلفاتهم ، كم هى ذكريات ، أعادتني للخلف  سنوات وسنوات ، جلس "زين" ينتظر قدوم "حمزة" نهضت "أمنة" تحضر كاسات للماء ، نظر إليه خاله هامسا :

-"حمزة" فقط هو توأمك يا "زين" ؟ أنسيت توأم أخر لك ،  كان أكثر ألتصاق  وتشبث بك ، توأم قلبي ،  يخبرني أنه رغم مرور تلك السنين الطوال ، ألا أنه ما زال يحفظ عهدك وودك ، ويخفى حبل وريد لك بداخله ، مرت عاصفة بوجه "زين" ،  التى  أضطربت ملامحه فجأة ،  وطفت دموع بمقلتيه ،حاول ألا تغادرهما  قائلا:

-كم أشتقت إليها يا خالي ،  شوق أكل مني وشرب ، أشتقت إلى رؤية ضحكتها ، التى كانت تشرق لها الشمس  ، فتحول ليل أيامي إلى نهار ، أشتقت إلي طيب كلامها ، الذى كان يشبه قطعة الثلج التى تطفأ نار بداخلي ، أشتقت إلى جمال ملامحها ،  التى كانت تمسح قلبي ، بيد طفلة لم تتلوث بعد ، أشتقت إلى نفسي القديمة ،  التى تركتها معها ، هنا قبل أن أغادر وأرحل ، كيف هى يا خالي ؟ كيف حالها ؟ وقبل أن يجيبه "أمين" ، سمع صوت عالى أتى من أمام الباب ينادي قائلا:

- أشتم ريحك يا رفيق عمري ودربي ، منشية أبو القاسم ترقص فرحا ، بقدومك الليلة كما يرقص قلبي  ، لحضورك  يا "زين" ، يهب الأخير واقفا فاتح ذراعيه قائلا:

-وأنا الأخر أشتقت إليك يا "حمزة" ، يدخل بطوله الفارع وعينيه السوداء ،  وشاربه الكثيف الذى يعلو شفتين  مكتنظتين ،  على رأسه وضع عمامة ،  تخفى شعره الأسود ، تزيده هيبه وجمالا ، ألقى بنفسه بين ذراعي "زين" ، يضمه إليه بشدة وقد علت ضحكاته قائلا:

كم كنت أنتظر قدومك  ، فقد أشتقت إليك كثيرا ، ضمه هو الأخر قائلا:

-أشعر بقدر إشتياقك لي ، لأنه نفس قدر إشتياقي إليك ، ترك كلاهما حضن الأخر ، ليمد يده يصافح "أمين" قائلا:

-عذرا يا شيخنا الجليل ، رؤيتي لصديق عمري وأبن عمي ، أنستنى أن أصافحك عند دخولى ، صافحه "أمين" وهو يضحك قائلا:

-أحمد الله أننى فقط الموجود هنا ، وزوجة عمك بالداخل ،  وألا ما كانت تتركك تتناول طعامك معنا عقاب لك ، يضحك "حمزة" بصوت منخفض قائلا:

-أحمد الله حقا  ، أن كبيرة المنشية وبيت أبو القاسم ،  لم ترى فعلتِ تلك ، يقاطعه صوت "أمنة" أتية من الداخل ، تحمل كاسات الماء قائلة :

-"حمزة" لم تأخرت هكذا الطعام كاد أن يبرد ؟! تقدم إليها يصافحها ويقبل يديها قائلا:

-سامحينى كما تعلمين الليلة ، هى ليلة إحتفال النصف من شعبان ، وكان علي أن أتابع تجهيزات الأحتفال ، لا أريد حوادث تلك الليلة ، سوف تكون وصمة بوجهي إن حدث ذلك ، تربت على كتفيه قائلة:

-لا عليك يا ولدي ، هيا  أجلسوا لنتناول طعامنا معا ، فقد إشتقت إلى تلك اللمة الحلوة ،  التى حرمت منها منذ مغادرة "زين " المنشية ، ومنذ أن صرت أنت عضو مجلس الشعب ، وكأنكما كبرتما  كى تتركونى  وتذهبوا، هيا هيا  تناولوا الطعام ، التفوا جميعا حول المائدة يتناولون طعامهم  ، فى جو من الضحك والنكات ،  وكأن الجميع أسقط عن كاهله ، أعباء الزمن والتجارب ، هكذا نحن ننسي كل شئ وأى شئ ، ننسي الماضى ،  وكل ما يحمله من تجارب وألم ونعود أطفال بقلوب خضراء ، حينما نجتمع بمن نحب وتضمنا أرض واحدة .

                                      " الفصل التاسع"

                                     "دون  إرادتي"

جلس "زاد الدين" بجوار عمه  ، الذى  أغلق مصحفه وهو يبتسم قائلا:

-أنا هنا بجوارك يا ولدي ، لم عينيك لا تنظر إلي ؟! وأراها ذهبت مع من كانت٤ر

 تقف هنا ، منذ قليل ، أحمر وجه "زاد" خجلا ، ناظرا إلى الأرض دون أن يجيب ، مد عمه كفه يربت كتفه فى حنان بالغ قائلا:

- أشعر بما تخفيه بقلبك ، وأعلم ما تعانيه من حبك "لقمر" ، منذ أن كنتم أطفال تلهون سويا ، العاشق تفضحه عينيه ، وتوشي به نظراته ، هم أن يتكلم لكنه عاد إلى صمته مرة أخرى ، وإن كانت هناك تنهيدة  ، خرجت حارة من بين ضلوعه ، تحمل الكثير والكثير ، من الكلمات التى أبت أن تترك قلبه وتخرج ، أعتدل فى جلسته ، ناظر إلي عمه ، قائلا بصوت يشبه الفار من حرب :

-أحبها أكثر من ذاتي ومن أي شئ يا عمي ، أحبها كما أحب جميع أهلي ورفاقي ، أراها كل الحياة ولا معنى للحياة بدونها ، لكنها لا تشعر بي ، ولا تلتفت إلى قلبي ، ولو مرة واحدة ، لا أعرف ماذا أفعل كي تشعر بما أخفيه بقلبي لها ؟ صدقنى يا عمي ، حاولت كثيرا أن  أنزع حبها من بين ضلوعى ، حتى وإن وصل الأمر إلى أن أكسره ، لكننى كل مرة أرجع ، وأنا أحمل الفشل بيدي ، أشعر أن كل شئ بي لم يعد معي ، بل أشعر أنه معها ، يخصها وحدها وكأننى أرث تمتلكه ، كل شئ ، كل شئ يأبي أن ينساها ، يأبي أن ينتزعها مني ، أخبرك سر دون أن تسخر مني ، أوقات كثيرة أشعر بالغربة ، حينما  أفكر بالرحيل عنها ، وكأنها وطن لم أعرف سواه ، كأنها إسمي الذي أحمله ببطاقة هويتي ، تعبت يا عمي ، تعبت وتعب الصبر مني ، ولا أعرف كيف أنساها ؟! ولا أملك القدرة  للرحيل عنها ، كل شئ يحدث دون  إرادتي ، إبتسم فى محاولة منه لأن يضحك ويهون من وقع  كلماته ،على عمه مداعبا إياه قائلا:

-أتركنا من كل هذا الهراء يا عمي وأخبرني ، هل ستأتي معي الليلة ، كى نحضر ليلة النصف من شعبان ؟ نظر عمه ناحية باب البيت ، ليجد "غالية" أتية من بعيد تضحك ، بطفولتها المعهودة صائحا بصوتها الجهوري قائلة:

-"زاد الدين "  هنا ! كان علي أن أعرف ذلك ،عندما سمعت صوت العصافير تغنى والشجر يرقص ، نهض "زاد" واقفا ، يصافحها وهو يضحك بصوت مرتفع قائلا:

-أنتِ كما أنتِ ، مهما كبرتي يا "غالية " ، طفلة صغيرة ، تملأ الكون من حولها مرح ، نعم أنا هنا  جئت أراكِ وأطمئن عليكِ ، مالت علي أبيها تقبل رأسه ، وهى ما تزال على ضحكها ومرحها قائلة:

-لقد أنرت البيت يا أبن عمي ، كيف حالك ؟ عاد يجلس بجوار عمه قائلا :

-دوما بخير ، طالما كل من أحبهم معي وبخير ، غمزت له غمزة صغيرة ، من عينيها قائلة بصوت منخفض وهى تميل على أذنه :

-كل ما تحبهم ؟ كل من تحبهم ؟ أم هناك شخص واحد ، تقصد به كل من تحبهم  تلك ، أقترب منها قائلا بهدوء :

-كما قلتِ هى وأنتم معها ، أخبريني متى سينتهي تحقيق النيابة هذا ؟ ضحكت قائلة:

-حسنا أنتهيت الأن ، عندما رأيت بعينيك تلك اللمعة ، التى توشي بك كل مرة ، أيها العاشق الولهان ، الآن حديثى مع أبي ، أبي  أريد أن أذهب إلى  حفل  ليلة النصف شعبان ، أريد أن أُحضر بعض الحلوى والألعاب ، وأريد أن أجعل " قمر " هى الأخرى ، تستنشق هواء غير هواء البيت ، منذ فترة طويلة لم تخرج ، ولم تترك البيت ساعة واحدة ، طيلة عمرها ترعانى وترعاك وتنسي  نفسها ، كما هى عادتها دائما ، صمت أبيها قليلا ، كمن يفكر فى  أقتراحها هذا ، مضت دقائق قبل أن يجيبها قائلا:

-ليس لدى ما يمنع ، من الموافقة ،  على  إقتراحك هذا ، لكننى أخشي أن يصيبكن مكروه ، أنتِ تعلمين أن الإحتفال هذا ، سوف يقام بأرض أبو القاسم ، وهذا ما أخشاه يا "غالية" ، عقدت ذراعيها أمام صدرها قائلة  بأنفعال:

-أريد أن أفهم شئ واحد فقط ، لم دوما تبتعدون عن تلك العائلة ؟ وعندما يذكرهم أحد ، أجد ملامح وجوهكم جميعا تتغير ، وكأن تلك العائلة  ، تحمل بين طياتها ، سر دفين تخفوه علي ؟ أستحلفك  بالله يا أبي ، أن تخبرني ما السر وراء ذلك ؟ حتى " قمر " ذاتها ،التى لا تهاب أحد سوى الله إذا ذُكر أسم أحد منهم ، أو اسم الست "آمنة" ، أرى رياح عاتية ، تعصف بها وإن كانت لا تتفوه بذلك ، يكفى نظرة الحزن التى أراها بعينيها  ، والأن أنت يا  أبي ، تخشي علينا من الذهاب إلى الحفل لأنه مقام على أرضهم ، قبل أن يجيب أحد على سؤالها ، كانت " قمر" قد حضرت تحمل صينية بها فنجانين من القهوة ، وعلى ثغرها نفس الإبتسامة الراضية  ، التى ترسمها دوما ، وكأنها تريد أن تخفى  شئ بداخلها ، وضعت القهوة أمامهم ، ناظرة بوجوههم ،  التى  نبأتها  بأن هناك شئ ما  نظرت إليهم قائلة:

-ماذا حدث أرى وجوهكم  عابثة ؟! هل هناك خطب ما لا أعرفه ؟! أقتربت منها "غالية" تحتضن ذراعيها قائلة :

-سوف أخبرك يا "قمر" ، وقبل  أن تتحدث ، جائها صوت أبيها ، يأمرها بأن تصمت ، تعجبت "قمر" مما يحدث  ،وقد علمت وقتها أن إحساسها صادق ، وهناك شئ حدث ، نظرت إلى أبيها مستفهمة بعينيها ماذا هناك ؟ لكنه  أشاح بوجهه بعيد عنها ، ضمت "غالية" إليها جامعة شعرها للخلف سائلة إياها:

-أخبرينى ما كنت تريدين قوله ولا تخافي ، أختلست "غالية" النظرات ، إلي أبيها و"زاد الدين " الذى وقف صامت ، تنهدت قائلة :

-كل ما فى الأمر ، أننى أريد أن أذهب لحضور أحتفال ، ليلة النصف من شعبان ، أستنشق بعض الهواء ، وأحضر الحلوى ، لكن أبي رفض دون أن يبدى لي السبب ، كل ما قاله أن الإحنفال بأرض أبو القاسم ،  وهو يخشي علينا الذهاب ، أرتعشت شفاه "قمر" ، ومرت بعينيها نظرة إنكسار وحزن ، رأها "زاد " الذى تعلقت عينيه بها ، وكأنه يريد أن يحميها داخلهما ، لكنها للحظة أستجمعت شتات نفسها ، ورفعت رأسها عاليا قائلة  بأصرار :

-لا عليك ، سوف نذهب للأحتفال ، حتى ولو كان بأرض أبو القاسم ، نظر إليها أبيها قائلا:

-ماذا تقولين يا "قمر" ؟ أبتسمت له بهدوء ، شعر أنه يكسر ضلوعها قائلة:

-ما سمعته يا أبي ، ألسنا من أهل القرية ، ومن حقنا أن نحضر الحفل ، الذى يقام مرة واحدة فى العام ، أبي لا تخشي علينا شئ ، نحن نعرف كيف نحمى أنفسنا جيدا ، هم أبيها أن يرد عليها ، لولا أن تدخل "زاد" قائلا:

-سوف أذهب معهن يا عمى ، لا تخشي شئ ، نحن جميعا فى حفظ الله ، نظرت "قمر" إلى "غالية" قائلة:

-هيا أذهبي وبدلى ثيابك وأنا سألحق بك ، قفزت فى الهواء فرحة ، وججرت ناحية البيت ، كي تبدل ملابسها ، إستعدادا للذهاب إلى الإحتفال ، نظر أبيها إلى "قمر" ، نظرة عتاب فهمتها جيدا ، أقتربت منه تقبله هامسة له:

-لن نبقي طيلة العمر هكذا يا أبي ، بجب أن نواجه ،  كى نثق أننا شُفينا من جراحنا القديمة ، فقد ثق بي ولا تخشي شئ سوى الله .

                                        "الفصل العاشر"

                                         " مشرط طبيب "

ألتف الجميع حول مائدة الطعام ، فى بيت " أبو القاسم" ، يتناولون طعامهم ، وسط ثرثرة وضحكات تعلن عن ونس ومحبة ، يسقط منا كل ما يؤرقنا ويشغل بالنا ، عندما يجمعنا مكان واحد بمن نحبهم ، يسرى الدفء بعروقنا ، تخدر أعصابنا بخدر لذيذ اسمه الونس ، ذلك السحر العجيب الذي يُسقط منا فجأة  ، كل شئ وأى شئ ،  آلا شئ واحد ، يبقي عليه ، وهو نحن على طبيعتنا دون نفاق ، دون رتوش ، دون مزايدة .

تناول "زين" قطعة من اللحم وهو ينظر إلى أمه قائلا:

-لا أعرف ما سر هذا الطعم ، وتلك النكهة التى لا أجده ، ألا بطعامك يا أمي ؟ ترفع أمه عينيها عن طبق طعامها وهى تضحك قائلة :

-أنه الحب يا عزيز قلب أمك ، أى شئ تفعله بالحب يصير مذاقه حلو ، مذاق مختلف لا تجده فى أى طعام أخر ، يتناول خاله  "أمين" ،  كوب الماء من أمامه قائلا:

-الطيبة  هى الأخرى ،  تضفى طعم مختلف على الأشياء ، لكن أخبرنى ، هل زوجتك السيدة "ناهد" ، رغم حياتها فى القصور ، لم تستطع أن تتفوق على "آمنة" ،  في طريقة الطهي؟ وضع "زين" يديه تحت ذقنه ناظر إلى خاله قائلا:

-هي تفوقت على أمي فى شئ واحد فقط يا خالى ، تفوقت عليها  ، فى كيف تجعلني أكره كل شئ ، أبتلعت "آمنة" ريقها بصعوبة ، ناظرة إلى "أمين" ، الذى نظر إليها نظرة لوم شديد ، لم ينتبه إليها أحد سواها ، حاول "حمزة"  ، الذى كان يتابع الحديث  ، أن ينهي هذا الحوار وهذا الجو الذى تلبد فجأة  ، بتلك الكلمات القاسية قائلا:

-أخبرني يا سيادة المستشار ، ألم يحن الوقت كى تنتقل إلى محافظتنا وتحيا معنا ؟ ألم تمل من الغربة بعيدا عن ديارك ؟ القاهرة  أصبحت شديدة الزحام ، عاد "زين " بظهره إلى الخلف قائلا:

-هناك حركة تنقلات ، وقد طلبت أن  أنتقل إلى هنا ، وأمل فى الله أن يتحقق طلبى ، لقد أشتقت العودة إلى مسقط رأسي ،  إلى أن أحيا وسط أحبتى ، يكفيني ما ضاع من عمرى وأنا بعيد عنكم ، يبعد "حمزة" طبق طعامه من أمامه ، بعد أن  أنتهي من تناوله قائلا:

-كم أتمني ذلك يا "زين" ، فكم أنا بحاجة إلى وجودك هنا بقربي ، فمنذ رحيلك إلى القاهرة وأنا أشعر أننى مبتور ، أحيا هنا وحيدا دون صديق أو ونس ، لم أستطع أن أجد من هو مثلك ، يشبع حنينى إليك ، وألقي بثقل حملى فوق كتفيه ،  وأنا أثق أنه سيحمله عني ، الحياة أصبحت صعبة ولا أمان لأحد ، نظرت " آمنة" إلى "زين" ، الذى جلس يستمع إلى "حمزة" قائلا:

-أتعلم أننى منذ سنوات ،  ولدى رغبة شديدة ،  أن تعود إلى هنا أنت و"ريان" أبنك ،  كى يكبر وسط أهله ويعرف عائلته ، أخاف عليه من القاهرة وشبابها ، "ريان" ما زال صغير ولا يمتلك الخبرة الكافية  ، التى تعينه على فهم من حوله ، لذلك كله  ،  أدعو الله من قلبي ، أن يحالفك الحظ ويكون مكان نقلك من عملك ، إلى هنا حيث جذورك يا ولدي ، بعصبية واضحة  أزاح "أمين" مقعده مبتعد عن المائدة ، لاحظ "زين" الضيق البادى على وجهه ، عقد بين حاجبيه ناظرا إليه قائلا:

-ماذا حدث يا خالي ؟ هل ثمة شئ يزعجك ، نهض "أمين" وهو يمسك بمسبحته قائلا:

-لا يا "زين" ، لكنني لا  أريدك أن تعود إلى هنا ، رغم أنه لا يوجد شئ أحب إلى قلبي ، من وجودك بجواري ، وعودتك إلى مسقط رأسك ، لكن فى بُعدك عن هنا خير لك ولأبنك ، لا تستمع إلى "حمزة"  وأمك ، وابقي يا ولدي بعيد ، دقت "آمنة " المنضدة أمامها  ، قائلة والشرر يتطاير من عينيها :

-لم يا "أمين" لا تريده ، أن يعود إلينا ويحيا وسطنا من جديد ، فى تركته من أبيه وجده ؟ ما السبب وراء رأيك هذا ، بأن يظل "زين" يحيا غريبا فى بلد ونحن فى بلد ؟

فلتت من بين شفتيه أبتسامة ساخرة قائلا:

-الأمان له ليس هنا يا أبنة أبي وأمي ، الأمان أحيانا يكون فى البعد وليس القرب ، الأمان هناك وليس هنا ، حتى وأن كان يحيا وحيدا ، وأشار بسبابته إليها مردفا:

-وأنتِ تعرفين السبب جيدا ، أنتِ أكثر من يعلم تلك الحقيقة يا "آمنة" ، أم تُراكِ قد نسيتي ؟ إن كنتِ قد أصابك الزهايمر ، وفقدتى الذاكرة ، أخبريني كي أردها إليك ، وأخبرك أنا ، نظرت "آمنة" إلى الأرض صامتة  ، لا ترد عليه بأى كلمات ، زفر "حمزة " بحرقة واضحة ، وظل "زين" شارد وعلى محياه أبتسامة ، تقطر حزن واضح ، تحرك "أمين" من مكانه قائلا:

-سوف أذهب كى أتوضأ لصلاة العشاء ، خطي خطوتين ، ثم توقف والتفت ناحية "زين" ، ناظر إليه بنظرة حنان وألم قائلا:

-"زين" سامحنى ، أقسمت عليك برأس أبيك ، أن تسامح خالك ذلك الرجل المسن ، أعتبر كل ما تفوهت به الأن ، تخاريف رجل بلغ من الكبر عتيا ، أسقط ما قلته من رأسك ، صدقنى يا ولدي ما قولته الأن  ، من باب الخوف عليك ، أنت تعلم أنك أحب ما خلق الله ، إلى قلبي ولو أننى قدر لي الله أن أنجب  ،لما أحببت ولدي كحبي لك ، لا يوجد شئ أحب عندى  من أن ترجع إلى هنا وتحيا بكنفي ، وأنا فى أخر أيامى ، أستند إليك  ، وأعيش ما تبقي لي من أيام إلى جوارك ، لكن ما بيدي حيلة ، ليتنى أستطع تغيير الواقع  ، و أعود بالزمن للوراء ، لمنع حدوث ما كان ، وكان السبب فيما نحن فيه الأن ، وجعلك تحيا بعيدا عنا ، سامحنى لأننى نكأت جرح قديم بداخلك ، أخفى "زين" وجهه بين كفيه ، تنهد بشدة ثم نهض مغادرا مقعده ، ذاهب حيث توقف خاله ، يمسك كتفيه بهدوء قائلا:

-لا عليك ، أنسي أنت ما يؤلمك بسببي ، وتذكر كما علمتنى دوما ، أن الله خير حافظا ، أعلم أن كل ما تقوله من خوفك علي ، أعلم أن كل ما قلته حق ، نحن فقط من نسينا ، نسينا ظلمنا ، نسينا جبروت أرواحنا ، وقسوة قلوبنا على غيرنا ، وميراث الدم  ، الذي  ورثناه  لأنفسنا ولغيرنا ، لا عليك أيها الرجل الطيب ، الذى ظل باقي على نقائه ، متمسك بطهر يديه ، كلماتك كانت بالنسبة لي كمشرط طبيب ، وضع مشرطه بكل قوة ورقة ،  فى نفس الوقت ، على مكان الجرح كى يفتح وينظفه ، من قيحه ودمائه الفاسدة ، كلماتك تلك أفاقت الجزء الغافى داخلي ، هل لي أن أخبرك حقيقة ، دسستها بقلبي الأن دون أن تعرف ؟ كلماتك تلك ، جعلتنى أُصر أكثر على نقلي إلى هنا ، إلى بلدتى ،  التى تعانى قهر وظلم ، سوف أسعى جاهدا ، أن أعتلى منصة القضاء ،هنا كى أنصر المظلوم وأعين الضعيف  ،وأنهى ذلك الصراع الذى حرمنى من حقى فى الحياة ، وحق أجيال فى أن تحب وتحيا ، لا تخف علي  ، أدعوا لي الله ، أن يساعدنى ، ويكون بجانبي كى ألملم تلك الجراح المفتوحة منذ زمن ، من يدري لعلي أنا الأخر ، أعود لأحيا وأرمم  ، حياتى من جديد ، من يعرف يا خالي ، عل الخير يكمن فيما نراه شر ، لا تخف وأدعي الله لنا جميعا ، أن يمسح الأمس بكل ما فيه من قلوبنا ، نظر إلى عينيه ، كمن يريد أن يقتنص منهما أعترافا قائلا:

-تريد أن تُوقف ميراث الدم فقط يا قاضي العدل؟ أليس هناك شئ أخر ، غير الدم معلق برقبتك تريد أن ترده إلى  أصحابه ؟ تنهد "زين" بقوة ، كمن يريد أن يُخرج شئ مدفون بأعماقه ، تاهت نظراته لدقائق ، تاهت وكأنها عادت سنوات كثيرة للخلف ، عبر طريق مظلم مملوء بأشواك ، كلما حاول أن ينتزع روحه منها ، خدشته تلك الأشواك ، وتركته ينزف دون أن يرى أحد نزفه سواه ، تركه خاله وذهب يتوضأ للصلاة ، تركه غارق بأفكاره ، وكأن كلماته كانت سوط ، ضرب به قلبه فأعاده لواقعه لكن بطريقه قاسية ، وقف "أمين" أمام صنبور الماء ، يفتحه واضعا كفيه تحت قطراته  قائلا:

-سامحني يا ولدي ، لم أقصد أن أنكأ جراحك ، لكننى لا أعتقد أنك قد برأت منها بعد ، فما نكتب له عقد موثق ،  بمنحه قلوبنا لا ننساه ، من نغرسه بين الضلع والضلع ، ونذيبه بدمائنا ، والله لو نزعت منا روحنا ، لا يكن بمقدور أى شئ ، أن يجعلنا نُشفي منه ، نظل ممسكين به ، حتى ولو كان سكين يمزق أيدينا ، سامحني وسامح قسوتي تلك ، لكنها قسوة كانت مقصودة ، قسوة متعمدة مع سبق الأصرار والترصد ، قسوة فى باطنها رحمة ، أردت بها أن أجعلك ، عادلا مع نفسك قبل أن تكون عادلا مع غيرك ، أوجعتك بها ، كي ترد الحق إلى أصحابه ، وتداوي جراح قلب ، كنت أنت السبب فيها ذات يوم ، ملعون من كان السبب ، وراء ما حدث وجعلك أنت الأخر هكذا ، تحيا دون روح ، كتمثال شمع ، سامحني كي يسامحني الله على قسوتي تلك.

وقف "حمزة" يتحدث بهاتفه دقائق ، أغلقه بعدها ، قائلا وهو يضعه بجيب جلبابه الصعيدى الفضفاض:

-سوف أتركك الأن وأذهب يا "زين" ، إلى مكان الأحتفال ، فقد  أصبح المحافظ على وصول ، ومعه لفيف من المسؤولين ، أنت كما تعلم أوجه لهم الدعوة كل عام ، لحضور الأحتفال بنصف شعبان ، أتجه إلى باب البيت مغادر مردفا:

-سوف أنتظرك لا تتأخر ، سوف أحجز لك بجوارى مقعد ، كما هى عادتنا كل عام ، غادر مسرعا دون أن يترك "لزين العابدين " ردا على كلامه ، أبتسم ساخرا قائلا:

-لن تتغير يا "حمزة" ، مهما كبرت لن تتغير ، كما أنت تتحدث وتغادر ، دون أن تترك لغيرك فرصة الرد ، استدار ينظر ناحية أمه ، التى مالت على مائدة الطعام ، ترفع عنها الأطباق هى و"سعدية" التى تعمل بالبيت ، أبتسم "زين" حينما رأها قائلا :

-كيف حالك يا خالتي ؟ أشتقت إلي طلتك الهادئة ودعواتك الحلوة ، رفعت عينيها إليه بطيبة شديدة قائلة :

-بخير ، الخير كله فى أن أراك وأري وجهك ،  الذى طالما مسحت عليه بالمعوذتين ، كيف حال "ريان" ؟ ألم يشتاق إلى جدته "سعدية"  ؟! لم أره منذ شهور طوال، أحدث صوت الأطباق فى يد "أمنة"  ، صوت قائلة قبل أن يجيب "زين" ، تشتاقين إليه كما  أشتاق إليه أنا الأخري ، لكنه من الواضح أنه لم يشتاق إلى أحد هنا ، عل حياته بعيدا عنا جعلته يقسوا علينا ، جعلت قلبه لا يرق ، ضرب "زين" الأرض بقدمية ، وهو يضع يديه بجيب بنطاله قائلا:

-سوف أحضره معي المرة القادمة يا خالة ، سوف يأتي ليرى أهله ، هو الأخر أشتاق إلى هنا ، "ريان" كأبيه لا ينسي أهله ، توقفت" سعدية"  أمامه وهى فى طريقها إلى المطبخ ،  لتضع ما بيديها من أطباق قائلة :

-علمه يا ولدي ،  أنه دون أهله يهلك ، أخبره أن الأمان هنا ، حيث العزوة والخلان ، بعيدا عنهم لن يجد حياته ،  ولن يملك  ثروة ، ثروته وأرثه الحقيقي ، حيث أرضه وموطنه ، مدت يديها تربت كتفه مردفة :

-ليبارك الله لك فيه ، ويجعله عوضا لك ، عن كل ما فقدت ، وكل ما رحل عنك من أحبة ، مضت فى طريقها تاركة " زين " واقف مكانه يهمس بينه وبين ربه قائلا:

- اللهم أمين .

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

1857 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع