هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة صفا غنيم
  3. علي جبين القمر - الجزء الثالث

                                  "الفصل السابع والعشرون"

                                           "رحيل"

لا نهتم أن ننظر خلفنا، حينما نشعر أن ما مضي منا وما سقط من أعمارنا ، فارغ من كل جميل ، بخيل شحيح المشاعر، نسير فوقه كورق شجر جاف، سقط عنوه حينما أتت، رياح فاسقطته من شدة ضعفه، نسير فوقه بكل قوتنا غير عابئين به ، لا يترك بنا شئ غير صوت تكسُره، معلنا لنا أن ما كُسر لا يمكن أن يُجبر من جديد، حتى وإن فعلنا المستحيل.

إنتهت إجراءت الطلاق سريعا، وكأن كل شئ مهيأ لها، وكأن حتى الأشياء يأتيها وقت، تقف معلنة الإستسلام ، فقد نضب معينها، ولم يعد لديها ما تقدمه من أنفاس، كى تستمر باقية وموجودة حزمت "ناهد" حقائبها فى نفس اليوم الذى تم فيه طلاقها من "زين"، مغادرة حيث أخيها وشركة أبيها بأمريكا، أقتربت من "ريان" الذى كان شاحب الوجه ، حزين العين ، زائغ النظرات ، مدت يديها تصافحه ، لكنه أشاح بوجهه بعيدا عنها ، كان "زين" يجلس فى مكتبه يجمع أوراقه وكل ما يخصه هو الأخر، رأى ما يجرى أمامه ، أخذ يتابع "ريان" بعينيه ، فكل ما يهمه هو وليس شخص أخر ، كان يتألم من داخله لأنه يشعر به ، يشعر بما يحمله ويحاول إخفائه ، سمع صوت أقدام "ناهد" مغادرة ، توقف عن لملمة أشيائه ، وقف يتبعها بنظره من خلف زجاج النافذة القابعة خلفه ، لم يكن يودعها ، بل كان يودع سنوات وأحداث مضت ، كان يودع كم مرة حاول أن يجعلها تشعر به ، أن تهتم لحاله، أن تحارب من أجل أن تنتزع الماضي من داخله ، لكنها أبدا ما رأته ، كان كل إهتمامها بما تحبه وتريده ،  تنهد بقوة ، يريد أن يفقد الذاكرة دفعة واحدة ، يريد أن يستريح عقله ولو يوم واحد فقط ، من كثرة التفكير والإحتياج ، كم حاول أن ينسي  كى يستطيع أن يحيا ، لكنه ما أستطاع ، وكأن الماضي قد ذاب بدمه وأقام له سكن  داخل أوردته ، فصار كل ما يحياه ، ترك غرفة مكتبه، قاصدا البهو الكبير و"ريان" الذى كان ما زال واقفا مكانه، ينظر فى الفراغ ، أقترب منه يبتسم له، ليبتسم له هو الأخر، فى محاولة منه أن يطمئنه أنه بخير، نشعر بخوف من يحبوننا علينا ، تتعبنا لهفتهم لأنها تمزقهم ، يصلنا أحساسهم ، نحاول أن نكون شجعان ،أن نخبرهم أننا بخير وعلى ما يرام، حتى وإن كنا عكس ذلك ، شئ عجيب حقا ذلك الحب ، الذى يجعل منا ملائكة تشعر بمن معها دون كلام ، نحاول أن نرفع عن كاهلهم كل ما يؤرقهم ، وكل ما يُتعب أرواحهم .

ضغط "زين" على كف "ريان" قائلا:

-أنا معك ، أنا هنا ، ألا يكفيك ؟! لا تحزن فكل شيء خلق بقدر، غدا سوف تنسى ، مع الأيام ستصير الأمور سهلة ، كل شئ فى بدايته فقط صعب ، لكن أنا بجوارك ، استند علي ولا تخف ، أبيك قوي بما يكفي ، من له أب لا يخاف شئ ، أحاطه "ريان" بذراعيه دون كلام ، وإن كان قد شعر بكل ما يريد قوله ، كلما عظمت مشاعرنا ، كلما قل الكلام ، ضمه "زين" بحب كبير قائلا:

-هيا أصعد إلى غرفتك ، أجمع ملابسك وكتبك وأدوات رسمك ، أجمع كل ما يخصك وما تحتاج إليه ، لا يوجد أمامنا سوى يوم واحد ونغادر ، بعد غدا أن شاء الله  أول رمضان ، نريد أن نفطر بالمنشية مع جدتك ، أم تراك تريد أن تعلن علينا "آمنة" حربا ضروسا لا قبل لنا بها ، ضحك "ريان" بصوت مرتفع ، يقبل أبيه قائلا وهو يهم بالصعود إلى غرفته :

-لا طبعا كله آلا جدتي "آمنة" ، أريد أن أكسب ودها ، فسوف أقيم معها من الأن ، وعلي أن أرفع الراية البيضاء ، أمام جميع ما تقوله ، تلاشت أبتسامة "زين" شيئا فشيئا قائلا:

-لا يا "ريان" ، لا أريدك أن تكون تابع لرأي أحد ، أو تخضع لأمر أحد ، حتى وإن كان أنا ، حياتك تخصك وحدك ، أخترها كيفما شئت ، وعشها كما تريد ، لا تترك غيرك يرسم لك مستقبلك ، أو أن يفرض عليك من تحب ومع من تحيا ، تمسك بمن تريد ، لا تتخلي عمن تحب ، إن أحببت يوما فكن قوي ، كن رجل وتمسك بحبك حتى وإن دفعت عمرك مهر له ، لا تفعل مثلي ، غلطة واحدة ، جعلتني كما تري ، أحيا حياة خالية من الونس والدفء والرأفة ، ضعفت مرة واحدة أمام دموع جدتك ، والنتيجة كما تري ، زواج فاشل لم يستمر ، أنا من دفعت الثمن ، لم تشعر بي جدتك ،لم يشعر بما كنت أعانيه أحد ، الجميع عاش حياته بحلوها وتركوا لي وحدي مرها ، لهذا لا تستمع إلى أحد ، أختر سعادتك وتمسك بها ، لأنك فى النهاية مهما فعلت لترضي من حولك ، لن ترضي أحد ، وسوف تظل واقف فى المنتصف ، هز "ريان" رأسه تاركا المكان ، ذاهب إلى غرفته يجمع ما له ، جلس "زين" فوق الأريكة ، عائدا بظهره إلى الخلف ، شارد بعيدا ، عبر سنوات كثيرة مضت ، ذاهب إلى الساقية القديمة وصوت يعشق بحته ، جعله يضع يديه فوق أذنيه ، يستمع إليه وقد أمتزج بضحكة طفولية قائلا:

-"زين" أخبرني حينما نتزوج ، هل ستظل تحبني كما هو الحال الأن؟ أم سوف تزهدني وتحب غيري؟ يعقد ذراعيه  أمام صدره قائلا:

-لا طبعا مؤكد سوف أحب غيرك ، تضربه فى كتفه غاضبة ، مبتعدة عنه ، ذاهبة إلى الساقية تقف أمامها ، يقترب منها يحيط ذراعيها بذراعه قائلا:

-أخبريني أنت ، كيف لي أن أحب غيرك وقد صار قلبي عندك ، يقيم بين ضلوعك ، أنت من تملكينه بعد الله سبحانه وتعالي ، لم تتركِ لأحد غيرك مكان ، كيف أحب غيرك وأنت أبنتي وحبيبتي وأمي؟ لم يعد شئ بي ليس لكِ ، لم يعد شئ بي لا تسكنين داخله ، لقد أدمنتك ، صرت بعضي وكلي ، ويومي وغدي وأمسي ، أنا لم أعد أحبك فقط ، بل صرت أتنفسك ، أحيا على وجودك ، عاد من شروده على صوت البواب يناديه قائلا:

-سيدي لقد وصلت عربة النقل التى سوف تنقل أشيائك إلى البلدة ، نظر إليه "زين" يحاول أن يجمع الكلمات فوق شفاهه قائلا:

-حسنا أذهب إلى المكتب وخذ ما به ، وسوف أري إن كان "ريان" قد أنتهي هو الأخر من جمع ما لديه أم لا؟

تركه البواب قاصدا غرفة مكتبه ، يحمل ما بها من كتب وأوراق وملفات تخصه ، مسح "زين" فوق شعره هامسا:

-أقسم لكِ يا "قمر" أني لم أستطع أن أحب غيرك ولن أحب غيرك ، ليس منة مني عليك ، أو تفضلا ، بل لأنني لم أُخلق ألا لأجل أن أحبك.

                                   "الفصل الثامن والعشرون"

                                           " حديث موجوع"

تأخدنا الخطاوي دون أن ندري إلى أي الأماكن نذهب ، نسير ونحن لا نعلم إن كانت خطواتنا ، تحملنا إلى دنيا نريدها ونختارها ، أم أنها ستفتح علينا باب حيرة وخوف؟!  نسير ونحن نهمس لله أن يرزقنا الونس والود الذى طالما بحثنا عنه، نفتح صفحات، نغلق صفحات ، نري وجوه جديدة وقلوب جديدة، ربما نجد معها وبها  كل ما كنا نشتاقه ونبحث عنه ، وكأن اللقاء قدر مكتوب، لا يعلم مكانه وموعده سوى الله عز وجل، يرزقنا به فى الوقت الذى نكون مهيئين لأن نحياه ، قادرين أن نحتفظ به .

كان أول يوم من أيام شهر رمضان الكريم، وكأن رجوع "زين" و"ريان" إلى منشية أو القاسم ، عيد يحتفل به كل شئ ، أمتلأت مائدة الطعام بكل ما لذا وطاب، وقفت منذ الصباح الباكر "آمنة" فى المطبخ، تشرف على  إعداد الطعام والأصناف التى يحبها "زين"، كانت تشعر أن الفرح عاد يدق بابها من جديد، وقفت ترتب المائدة قائلة:

-يا "سعدية" أحضرى الملاعق والشوك المذهبة، فسوف تحضر اليوم زوجة سيادة القاضي ، وهى كما تعلمين، أبنة العائلات الكببرة ، يجب أن نكون مثلهم ، وقفت تنظر إلى الباب تنتظر قدومهم ، أتي "أمين" مع قرأن المغرب وعلى وجهه أبتسامته التى لا تفارقه قائلا:

-كل عام وأنتِ بخير يا "أمنة"، لم يحضر "زين" حتى الأن ، باقى على المدفع نصف ساعة ، مدت "أمنة" يديها  تضع أحد الأطباق بجوار الأخر قائلة:

-سوف يحضر الأن ، قلبي يخبرني أنه سيطل عليا الدقائق القادمة ، فلا هلال ، ولا رمضان ألا بطلة وجهه علي ، دخل "أمين" يجلس وقد أمسك بمصحف كان موضوع ، فوق أحد المقاعد يقرأ بصوته العذب سورة ياسين ، و"أمنة" مشغولة فى إحضار العصائر والتمر ، ختم "أمين" قرأته مع صوت مدفع الأفطار والأذان الذى أختلط بصوت "ريان" ، الذى دخل مسرعا قائلا:

-جدتي كم  أشتقت إليك، تفتح "أمنة" ذراعيها على وسعهما قائلة:

-قلب جدتك وأنا الأخرى أشتقت إليك كثيرا، يضمها إليه بشوق كبير وهى الأخرى ، أخذت تضمه وتقبل وجهه ورأسه ، مال يقبل يديها ، دلف "زين" من ورائه وما أن رأي خاله "أمين" حتى ضمه إلى صدره قائلا:

-كل عام وأنت الخير كله يا خالي ، رمضان لا يصير رمضان ، ألا بوجودك معي على إفطار أول يوم ، يضحك "أمين" وهو ينظر إلى ريان الذى ترك حضن جدته، ينظر إليه خجلا لأنه لم يصافحه حينما دلف إلى البيت، أقترب منه يصافحه مبتسم قائلا وهو يضمه:

-معذرة يا جدي ، كنت مشتاق كثيرا إلي حضن جدتي ، سامحني ، أنت الأخر كم تطوقت روحي إلى رؤيتك والجلوس معك طويلا ، أمسك بيديه "أمين" قاصدا مائدة الطعام ، الذى وقف بجوارها "زين" يقبل رأس أمه يهنئها بحلول الشهر الفضيل، جلسوا جميعا يتناولون إفطارهم وسط حديث خفيف عن رمضان وذكرياته، وكيف كان "زين" وهو صغير، يُصر أن يُكمل صيام الشهر ، قطعت الحديث "أمنة" وهى تمد يديها بقطعة لحم كبير تضعها فى طبق "ريان" قائلة:

-لماذا لم تأتي "ناهد" معكما ؟ أنه أول يوم فى رمضان، منذ سنوات لم تأتي تفطر معنا هنا، تبادل "زين" النظرات مع "ريان" الذى أبتلع  طعامه بصعوبة، شعر "أمين" به وبأن نظراته مع أبيه ورائها شئ ما، بذكاء شديد أدار دفة الحديث قائلا:

-لم تعطيني من اللحم يا "أمنة"، أراك قد جعلتيه من نصيب حفيدك دون غيره ، شهقت بفزع وهى تضرب صدرها بيديها قائلة:

-كيف لم أنتبه؟ معذرة يا "أمين" فقد أخذني "ريان" من كل شئ ، تفضل الطبق بأكمله لك ، ضحك "زين" لأنه فهم ما أراده خاله قائلا:

-هكذا دوما أنت يا خالي تأتي فى الوقت المناسب، أنتهي الجميع من تناول طعام الأفطار، جلس "أمين " بجوار "زين" و"ريان" بحدبقة البيت يتناولون الشاي الساخن الذى أعدته لهم "سعدية" ،لحقت بهم "أمنة" تحمل طبق كبير ممتلأ بالفاكهة ، وضعته أمامهم فوق المنضدة قائلة:

-تلك اللمة الحلوة ينقصها وجود "ناهد"، وضع "زين" كوب الشاي أمامه فوق المنضدة قائلا:

-هناك شئ أريد أخباركما به، كي نغلق تلك الصفحة تماما، أنا و "ناهد" قد أنفصلنا نهائيا ، نظر "أمين" بالأرض يغمض عينيه وعلى شفتيه أبتسامة حسرة، كأنه كان يتوقع  حدوث هذا يوما ما ، فى حين أشاح "ريان" بوجهه بعيدا، كمن لا يريد سماع شئ ولا حتى سماع هذا الأسم ، ضيقت "أمنة" عينيها قائلة:

-لم أفهم ماذا تريد قوله، ماذا تعنى كلمة  أنفصلنا  نهائيا ؟ هل هناك أمر ما وقع بينكما، تشاجرتما مثلا؟عاد "زين" بظهره للخلف كمن يريد أن يستريح قائلا:

-لا لقد طلقت "ناهد" ولا تسألين عن الأسباب؛ بأنفعال واضح حاولت "أمنة" التغلب عليه ، أخذت تنظر إلى "ريان" قائلة:

-كيف لا أسألك ؟! كيف لا أسأل لم طلقت زوجتك أبنة العائلات وهدمت بيتك ؟! هل لا يوجد لك أم وكبير تأخذ برأيهما؟! خرج "أمين" من صمته قائلا بهدوء:

-أهدئي يا "أمنة" ، أتركِ له فرصة كى يروي لنا ما حدث، أخبرنا ماذا جعلك تأخذ تلك الخطوة وفى مثل هذا التوقيت ، لقد تمت ترقيتك ونقلك إلى هنا ، من الطبيعي أن تفرح "ناهد" بهذا وتكون بجوارك ، ماذا جري بينكما لتصل الأمور إلى حد الطلاق ؟!

نهض "ريان" دون كلام تاركا المكان ، ليسير مع نفسه داخل حديقة البيت ، هاربا من سماع  أى كلام فى هذا الموضوع ، تتبعه ثلاثتهما  بنظراتهما ، حتى أختفي بين الأشجار ، نظر "زين" إلى أمه قائلا:

-حسنا تريدين أن تعرفي ما السبب وراء ما حدث ، السبب أن هذا هو الوضع الطبيعي لزيجة فاشلة من أول يوم ، أبنة العائلات كما تدعين ، وكما كانت عقدتك دوما ،رفضت أن تأتي معي إلى هنا ، تعيش معي ومع أبنها، لأن منشية أبو القاسم لا تليق بها، كما كانت دوما لا تليق بها ، أبنة العائلات أتفقت مع أخيها دون علمي بأنها، سوف تهاجر إلى أمريكا تحيا بها، دون الأهتمام بأبنها أو برأيي ، أمي من فضلك أنتهي كل شئ ولا أريد التحدث فى الأمر مرة ثانية ، أنا صححت وضع خطأ، لم أفعل شئ خطأ، ما فعلته كان يجب أن أفعله منذ زمن ، أضعت الكثير من السنوات والعمر، تحت زعم أنه من الممكن أن تتغير، ويتغير كل شئ للأفضل ، لكنني كنت واهما ، فمن نشأ على شئ ، من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يتغير، قديما فرضتي علي تلك الزيجة ، دون الأهتمام بي وبمشاعري ، فعلتوا ما فعلتوه  بمن أختارها  قلبي ، كى يكون هناك سبب قوى كى تبعدونا ، من الأن حياتي لي ولأبني فقط ، سوف أختار كيف أحياها ومع من ، يكفى ما ضاع من عمري وروحي  وقلبي ، همت "أمنة" أن تخرج ثورة  بداخلها ، أشتعلت حينما سمعت كلام "زين" لولا أن أوقفها "أمين" بأشارة من يديه قائلا:

-لنغلق هذا الموضوع برمته يا "أمنة" الأن ، "زين" أذهب الأن  لتري "ريان"، يكفي ما حدث له الأيام الماضية ، أذهب لتسير معه قليلا ، تستنشق هواء نقي ، نهض "زين" من مكانه قاصدا أبنه ، همس "أمين " يستغفر الله فى سره قائلا:

-أتركيه وشأنه ، أتركيه يحيا كما يريد ، ما حدث نتيجة طبيعية كنت أنتظرها منذ زمن ، عليك أن تعرفي شئ هام ، لن توقفي قدر الله مهما حدث ، "زين" يحتاجك الأن ويحتاج دعواتك ، أنسي ما تريده مرة واحدة ، من أجل من حولك ، أتركي الأتي لله وحده فهو أرحم الراحمين .

                                "الفصل التاسع والعشرون"

                                       "أين كنتِ"

للقدر دوما كلمة لا نعرفها، له تصرفات لا نملك حيالها أي خيار، يرتب لنا حياتنا دون تدخل أو أتفاق، يعطينا دوما ما نريد وقت أن يشاء الله، نسير جاهلين بكل ما هو أتي ، حتى نصطدم به ، نقف نتأمله ، نهمس لأنفسنا دون صوت ، أنه هو من رأيناه من قبل ، دوما كلمة القدر تأتي فى الوقت المناسب لنا، حينما نصير ناضجين لأن نعيشه، لأن نمتلك قرارنا ومصيرنا ، وقتها فقط يعلنها القدر صراحة أن هذا ما كنتم تنتظرون حصاده.

مرت الأيام وأنتصف شهر رمضان الكريم، عادت الأشياء تأخذ وضعها الطبيعي وإن كان "ريان" يجاهد نفسه، كى يخرج مما هو فيه، ويعود نفسه على وضعه الجديد وحياته الجديدة بمنشية أبو القاسم ، "زين" غارق حتى أذنيه فى قضايا كثيرة متنوعة، ما بين  قضايا سلاح ومخدرات وقتل ، جعلته يتعجب يسأل "حمزة" الذى جمعهم أفطار واحد بمنزل "زين" قائلا:

-أتعجب كثيرا وتتملكني الحيرة يا "حمزة"، عن كمية القضايا الكثيرة التى أراها كل يوم أمامى ، كيف تحول الصعيد بعاداته وتقاليده إلى كل هذه المشاكل، التى أرى بعضها جديدة عليه ، كتجارة المخدرات والسلاح، الثأر ليس بجديد وإن كان عادة مذمومة ، لكن ما جعلني أقف أمامه حقا هو تجارة المخدرات وكمية السلاح الكبيرة ، التى تدخل إلى هنا، أخبرني أنت بما أنك نائب مجلس الشعب والمسؤول هنا، أين الأمن وما يفعله ، وكل هذا يحدث حولنا ؟! أمسك "حمزة" بكوب ماء يشرب منه، بأبتسامة باردة ، تشبه الليلة التى يحيونها  فى طقسها شديد البرودة قائلا:

-كل شئ تغير هنا يا "زين"، أنت فقط تتعجب لأنك منذ زمن بعيد ، تجارة السلاح هى الدخل الوحيد لكثير من كبار العائلات هنا، الجميع لم يعدوا يرونها تجارة محرمة أو بها ما يشين، لأنها صارت شئ عادي، وتجارة المخدرات كذلك  يا "زين" عليك أن تعلم شئ، عندما تكثر الأشياء ويتبادلها الجميع ، تصير شئ عادي لا يستغربه أحد ، وضع "زين" ملعقته فى طبقه أمامه، عاقد كفيه تحت ذقنه، يتأمل "حمزة" الذى تشاغل فى تناول طعامه يتأمله، وصوت بداخله يقول:

-أنت الأخر تحولت كباقى الأشياء حولى دون أن أعرف، منذ متى والأشياء المحرمة صارت عادية ، من الواضح فعلا أن هنا صار يحتاج إلى وجودى،  نظر "زين" إلى "ريان" الذى ترك طعامه ينظر "حمزة" بستغرب كلامه قائلا:

-"ريان" لم توقفت عن تناول طعامك؟! رفعت "أمنة" عينيها إليه قائلة:

-من الواضح أن أكل جدته لا يعجبه ، لقد صنعت لك الطعام اليوم بنفسي ، ضحك لها "ريان" ضحكة رقيقة قائلا:

-لا حبيبتى الطعام شهي جدا، لكنني شبعت ، سوف أخرج أتجول قليلا بحديقة البيت ، فقد مللت التواجد هنا  بين  هذه الحوائط، لا يوجد لدي أصدقاء أو معارف هنا، قطع "حمزة" الحديث وهو يشير له بيديه قائلا:

-لا تخف يا "ريان"  غدا سوف أُعرفك على الجميع هنا ، كى يصير لديك أصدقاء ومعارف ، أذهب الأن وتجول كما تريد،  أقول لك شئ ، حصاني بالخارج ، تركته تحت أحدى الأشجار ، أذهب وتعرف عليه ، أنتفض "زين" مكانه قائلا:

-"حمزة" هل جننت ، حصانك عنيد وشرس ، وتعلم ذلك ، أنه لا يطاوع أحد غيرك ، أخشي على "ريان" منه،  عاد "حمزة" بظهره إلى الخلف وبعينيه نظرة غريبة لم يراها سوى "زين"، الذى شعر بها دون أن يمتلك ترجمة لها قائلا:

-"ريان" رجل لا تخشي عليه شئ ، حصاني لا يسمح لأحد غيرى بأن يمتطي صهوته، هو فقط سوف يتعرف عليه ، أذهب يا "ريان" ، ولا تهتم بخوف أبيك عليك ، فرح الأخير بأنه سوف يجد له ونيس حتى وإن كان حصان "حمزة" الشرس ، خرج مسرعا إلى حديقة البيت، تتبعه عيني "أمنة" التى لم تكن أقل خوف من "زين" عليه ، لكنها كعادتها حاولت أن تخفى ذلك الخوف ، سار "ريان" حتى وجد الحصان، شهق حينما رآه، فهو حصان عربي أصيل رغم شراسته، أسود اللون ، ناعم الملمس، له عنق طويل، وزيل لا يقل عن عنقه شئ فى الجمال والطول، عينيه حادتين ، يشبهان عيني الصقر، أخذ "ريان" يدور حوله يمسح على عنقه ، كى يطمئنه له ، مرت دقائق وكان فوق ظهره يمتطيه قائلا:

-أستطعت أنا أن أمتطي صهوة جوادك يا عم "حمزة"، وما أن أمتطي صعوته، حتى أخذه وصار يعدوا بسرعة تاركا البيت، لم يستطع "ريان" السيطرة عليه أو إيقافه، أخذ يعدو حتى أبتعد كثيرا عن البيت، لم يشعر بنفسه إلا وهو مُلقي على ظهره أمام أحد البيوت التى أضاءت أنوارها وكأن سكانها يعلمون أن عابر سبيل ، سوف يمر بهم ، يحتاج إلى مساعدتهم ، سمعت "قمر" التى كانت تجلس مع أبيها و"غالية" و"زاد" ، صوت إرتطام "ريان" بالأرض، وصهيل عالي ، يُنبأ أن شئ ما حدث ، قُبض قلبها وهبت واقفة ، ناظرة إلى الخارج ، وقف "زاد" بجوارها ونظرت إليها "غالية" تتعجب ماذا حدث ، أشارت "قمر" بيديها للخارج قائلة:

-هناك من وقع من فوق ظهر حصان أمام البيت، تلك الصيحة تنبأ بأن هناك من ألقى به الحصان من فوق ظهره، حتى صوت أرتطامه بالأرض، أحدث هزة بقلبي لا أعرف ما السبب ورائها ؟ نظر "زاد " حيث أشارت "قمر" قائلا:

-حسنا سأخرج أري ما الذى حدث؟! سار قاصد الطريق ومن خلفه سارت "قمر"، لم تستطع أن تبقي مكانها، لم تستطع أن تسيطر على قلبها، تبعتها "غالية" تاركين أبيهم يجلس مكانه كما هو، فمنذ زمن لا يقدر على الحراك بمفرده، وصل ثلاثتهم إلى الخارج، رأي "زاد" أحد مُلقي على ظهره فاقد الوعي، أسرع إليه ومن خلفه "قمر" التى ما أن رأت وجهه حتى شهقت فزعا، رأت به "زين"، أنه هو يحمل ملامح أبيه كاملة وهو فى مثل سنه ، مالت عليه ترفعه مع "زاد"، الذى نظر إليها هو الأخر متعجبا من شدة الشبه بينه وبين أبيه ولسان حاله يقول :

-هو أنت حقا ولده ؟ أم مجرد شبه بينكما؟ وقفت "غالية" تتطلع إليه دون حراك ، شئ وقع بقلبها ، لا تعرف ما هو؟! شئ جعل قلبها ينبض بشدة، وقدميها لا يقدران على الحراك، حمله "زاد" فوق ذراعيه، وأسرع إلى داخل البيت، جرت "قمر" تفتح باب غرفتها قائلة:

-ضعه هنا بفراشي يا "زاد" وأنت يا غالية أتيني بشئ من عطورك وبعض الماء ، وضعه "زاد" بهدوء فوق الفراش وقف يتأمله قائلا:

-من هذا الشاب يا "قمر" ؟! هل تعرفينه ؟! لم أراه من قبل هنا بالمنشية، أمسكت "قمر" ببعض المناديل تمسح عن جبين "ريان" التراب العالق به من أثر إرتطامه  بالأرض قائلة:

-أنا أيضا أول مرة أراه ، ولا أعرف من هو؟! جلس "زاد" أمامه يتطلع به قائلا:

-لا أعرف لماذا أشعر أنه من عائلة أبو القاسم ، يشبه "زين" كثيرا ، إن لم يكن صورة طبق الأصل منه، أحضرت "غالية" ما طلبته منها "قمر"، التي شعرت بوخزة بقلبها حينما نطق "زاد"، بأسم "زين" أمامها، أمسكت زجاجة العطر تقربها من أنف "ريان"، تحاول أن تجعله يسترد وعيه ، أخذت تمسح فوق جبينه برقة متناهيه ، نست نفسها ، نست من حولها ، شعرت أنها تمسح جبين حبيب غائب منذ زمن، شعرت أن كل مشاعرها أتتها دفعة واحدة ، ترك "زاد" الغرفة مغادر حينما سمع صوت جلبة بالخارج ، بدأ "ريان" يستعيد وعيه ببطء، فتح عينيه ينظر حوله فى أركان الغرفة ، حتى تلاقت عينيه بعيني " غالية"، التى وقفت تطالعه بنظرة لهفة لا تعرف ما مصدرها ، فتح عينيه على أخرهما  حينما  رأها ، أنها هى ، أنها ذات الطيف الذى زاره بغرفته ، ذات ليلة يتحدث إليه، أنها نفس الطيف الذى رسم صورته دون أن يراه ، كيف هذا ؟هل الملائكة تتجسد حقا فى صورة بشر؟! ما الذى أتي بكِ إلى هنا ؟!  أين كنتِ هاربة منى طيلة هذه الأيام ؟! بحثت عنكِ فى جميع الوجوه حولي ، نظر ناحية "قمر" التى وجدها ، تنظر إليه بأبتسامة حانية جعلته ، ينسى ألم جسده ويبتسم لها نظر بعينيها قائلا:

-يا الله كم هى جميلة عينيك ، نظرت "قمر" ناحية "غالية" قائلة:

-أحضري كوب لبن دافئ حبيبتى، تركت "غالية" الغرفة مضطربة، تحاول أن تستجمع شجاعتها ، نظرت "قمر" إلى ريان قائلة:

-أخبرني من أنت ؟ ولم ركبت هذا الحصان الشرس كصاحبه ؟ أعتدل "ريان" فى جلسته يضع يديه خلف ظهره من الألم قائلا:

-هل تعرفين صاحبه ؟! أومأت "قمر" رأسها قائلة:

-أنه حصان "حمزة أبو القاسم"، الجميع يعرفه بسبب شراسته، لكن أخبرني أنت  ما أسمك ؟ كى نرسل لأحد من أهلك يأتي ويأخذك، دخلت "غالية" تحمل كوب اللبن، الذى مدت يديها به إلى "قمر" التى أخذتها منها ، تقدمها  إلى"ريان" قائلة:

-تناول هذا اللبن أولا ، سوف يهدئ أعصابك من المفاجأة التى تعرضت لها ، أمسك بالكوب يتناوله وهو ينظر ناحية "غالية" لاحظت " قمر" نظراته إليها ، تنهدت قائلة :

-هل أنت بخير الأن ؟ هل تشعر بشئ يؤلمك ؟ مد يديه عائدا إليها بالكوب بعد أن أنتهي من تناوله قائلا:

-لا شئ ، فقط ظهري يؤلمني بعض الشئ ، مدت "قمر" يديها تفتح درج صغير بجوارها ، تناولت منه  إحدى الزجاجات الصغيرة قائلة:

-خذ تلك الزجاجة ، ضع منها مكان الألم ، أنها تركيبة  أقوم بعملها من أجل أبي ، سوف تكون على ما يرام فى غضون يومين ، حاول أن ينهض من مكانه قائلا وهو يمسك بالزجاجة:

-لا أعرف كيف  أشكرك على ما صنعتيه ، سوف أبقي مديون لكِ طيلة عمري ، وصل إلى باب الغرفة ليقف مستديرا ناحيتها قائلا:

-لم أعرف أسمك كى أدعو لكِ فى صلاتي  أبتسمت له قائلة:

-"قمر" أسمي "قمر"  وأنت ما أسمك؟ نظر إلى "غالية" التى تعلقت به عينيها قائلا:

-"ريان" ، ضيقت "قمر" عينيها بتعجب شديد قائلة:

-"ريان" ؟ أنه نفس الأسم الذى طالما حلمنا أن نسمي به أول ولد لنا أنا و"زين"،هل مجرد صدفة ؟! إن كان الأسم صدفة، هل هذا الشبه أيضا صدفة ؟! تعجب "ريان" من رد فعلها قائلا:

-هل هناك شئ بأسمي لا يعجبك؟ حاولت أن تبدو طبيعيه  إبتسمت قائلة:

-أكمل باقى أسمك ، كى تصير المعرفة كاملة ، مال بيديه يستند إلى ركبتيه قائلا:

-ريان زين أبو القاسم .

                                          "الفصل الثلاثون"

                                         "دين لا ينقضي"

لا تنقضي الديون وما حملناه بأعناقنا من حقوق الأخرين ، ألا حينما يغفرون لنا، تظل ديونهم عالقة برقابنا، تؤرقنا طيلة العمر، لا نستريح منها، لا ننام ملء أجفاننا، ألا بسقوطها من فوق أعناقنا التى كُسرت بهم، يكون حملنا ثقيل بها، فما بالنا إن زادت تلك الديون وأضافت لنا عبء فوق أعبائنا، يزيد الثمن ويكبر الحق ويبقي ثأر يطاردنا، الديون لا تكون دوما مال، المال من الممكن أن يُسد، أما إن كان الدين مشاعر وقلب، إن كان أحلام وعمر، تقف مقدرتنا على السداد أمام هؤلاء عاجزة عن أن تفي به .

نزل الأسم الذى نطق به "ريان"، كالصاعقة فوق رأس "قمر"، التى فغر فمها من المفاجأة التى كانت تحس أنها أتية لا محالة، فالشبه الذي رأته بوجهه، كان يخبرها أنه ليس بغريب عنها، ليس ببعيد عن قلبها، وقفت مكانها تنظر إليه بمشاعر شتي، مشاعر حب وقسوة وعتاب وحنين، تأملها "ريان" بتعجب ، يحاول أن يعرف ما حدث جعلها هكذا؟! وقفت خلفها "غالية" تهزها برفق قائلة:

-"قمر" ماذا حدث ؟ ضربت مقدمة رأسها بكفها هى الأخري، حينما قفز فى ذهنها الأسم مرة أخرى "زين أبو القاسم"، أنه نفس الأسم الذى نطقت به "قمر" من قبل دون أن تشعر، أنه نفس الأسم الذى نادى به "زاد" ضيف الأحتفال، إذن هذا الشاب الجميل هو أبنه ، مؤكد أن "قمر" وقفت مكانها ، لأنها عرفت أنه أبنه، لم يخب أحساسي أن وراء هذا الأسم شئ ، تنفست "قمر" بعمق قائلة:

-لا شئ "غالية" هيا  نوصل الضيف ونرى ما تلك الجلبة بالخارح ؟! سار "ريان" تتبعه "قمر" ممسكة بيد "غالية"، تحاول أن تستمد منها القوة، وصل الثلاثة إلى حديقة البيت، رأوا بعض الأشخاص يقفون بالخارج أمام الباب، يتحدثون إلى "زاد"، أقتربت أكثر، سمعت صوت "زين" ، نعم أنه هو تعرف صوته من بين مائة صوت ؛ لكن فيما يتحدث مع "زاد" ؟! ومن هؤلاء الذين يقفون بجواره ؟! الظلمة لا تجعلها تتحقق منهم، عرفت "زين" من صوته، سارت تحاول أن تجمع شتاتها، وصلت إلى الخارح وأمامها "ريان" الذى ما أن رأه  "زين" حتى جري إليه يضمه قائلا:

-هل أنت بخير؟ ماذا حدث لك ؟ ألم أقل لك لا تمتطى حصان "حمزة"؟! لقد قتلني القلق والخوف عليك، لولا أن تتبعنا طريق عودة "حمزة" ما كنا رأينا الحصان ، يقف هنا وما كنا عرفنا أنك بالداخل ، نظر "ريان" خلفه حيث وقفت "قمر" التى لم تنطق كلمة قائلا:

-كل الشكر لتلك السيدة ، هى من أنقذتني هى وهذا الرجل الشجاع وتلك الفتاة ، لولاهم بعد الله سبحانه وتعالي ، لظللت مُلقي على الطريق لا أحد يعرفني، مجرد أن ركبت الحصان، وجدته يجري بي لا  أعرف إلى أين؟ حاولت أن أسيطر عليه لكنه كان غاضب ،لم أشعر بشئ ألا بأرتطامي بالأرض ومن ثم وجدتنى أنام بفراش تلك السيدة ، وهى جالسة بجواري تفعل كل ما بيديها كى تجعلني أستعيد وعيي ، نظر "زين" إليها نظرة شكر وأمتنان وحب قائلا:

-شكرا لك ، لن أنسي ما فعلتيه مع أبني طيلة العمر، لك فى رقبتي دين لا أعرف كيف أرده إليك؟! أقترب شبح كان يقف بجواره حتى وقف أمام "قمر"، وما أن رأته حتى رفعت رأسها أكثر لأعلي، رافعة حاجب عينيها ، ترميه بنظرة كره ، نظر إليها وهو يضع يديه بجيب جلبابه الواسع قائلا:

-"قمر" طيلة عمرها بألف رجل ، نعرفها جميعا منذ أن كنا صغار نحفظ القرأن عند عمي الشيخ "أمين" ، فلتت من بين شفتيها  إبتسامة ساخرة قائلة :

-حفظنا القرأن سويا ، لكن هناك فرق بيننا كبير ، كالفرق بين السماء والأرض ، أنا عرفت قرأني حق المعرفة ، مشيرة إليه فى وجهه بأصبعها مردفة :

-أما أنت كنت تحفظه ولا تفهم منه شيء ، لذلك لم تتعلم ولن تتعلم مبادئه ، تبادل جميع الحضور النظرات فيما بينهم ، أقترب "أمين" من "حمزة" ، يجذبه من يديه كي ينهي هذا الموقف الذى أقترب من حد الإنفجار قائلا:

-هيا يا "حمزة" نعود للبيت ، نسيت أننا تركنا "آمنة " تموت من القلق على حفيدها ، وأنت يا "قمر" شكرا لك على صنيعك وإن كان ما فعلتيه ، ليس بجديد عليك ، أومأت له برأسه وعلى وجهها أبتسامة ، سار الجميع قاصدين بيت "أبو القاسم" ، آلا أن صوت "قمر" أوقفهم قائلة:

-"زين" ، تسمرت قدميه  بالأرض ، يقاوم السقوط ، سمع أسمه بعد كل السنين من فمها ، سمع أسمه الذى حرم منه طيلة عشرون عاما ، ذلك الصوت الذى كان بمثابة شلال ماء عذب يروي قلبه وروحه ويعطيه الأمل ، توقف يستدير إليها صامتا ، ينتظر ماذا تقول ، ابتلعت ريقها كمن يحاول أن ينطق ما يريد ، وليس الذى يريده قلبها قائلة:

-أنت مخطئ فى حساباتك ، فلست مدين لي بدين واحد ، أنت مدين لى بدينين ، لا تنسي ذلك ، تركته ودلفت إلى داخل البيت ، تتبعها "غالية" و"زاد" ، الذى أشار إلى "زين" برأسه أن أذهب ، غادر الجميع المكان، وصلوا إلى بيت أبو القاسم ، كانت "أمنة" تجلس مضطربة من أجل غياب "ريان" الذى ما أن رأته حتى هرولت إليه تضمه، حامدة الله انه بخير، علمت من "أمين" ما حدث ، لم تنطق بكلمة، وإن كان كل ما بها ينطق حنقا، أخرجها من صمته "أمين" وهو يستعد للرحيل قائلا:

-ديون "قمر" صارت كثيرة برقابنا ، ديون أظن أنها لا تسد يا "آمنة" ، تركها مغادر كي يلحق سحوره ، لم يعقب "زين" بشئ ، فكان ما يحمله بداخله من حمل ثقيل ، لا يشعر به أحد غير الله ، صعد الدرج قاصدا غرفته ، وقف "ريان" مكانه يلتفت حوله ، كمن يريد أن يسأل ماذا حدث قلب كل شئ حوله ؟! جدته تقف مشتتة ، وهى من يشهد لها الجميع بشدتها ، أبيه صامت لا يتحدث ، "أمين" ألقي بكلمتين لا يفهم ما ورائهم ، شئ حدث والقاسم المشترك بين كل الأحداث إسم أسمه "قمر" ، لم يسأل جدته عن شئ ، صعد إلى أعلي قاصد غرفة أبيه ، طرق بابها بلطف ، يجاوبه صوت "زين" من الداخل قائلا:

-تعال يا "ريان"، يفتح الباب بهدوء، يطل من خلفه ، ينظر بأركان الغرفة، حتى تقع عينيه على أبيه وقد فتح زجاج نافذته واقفا بها ، رغم برودة الجو ، إلا أنه لم يعبأ  بشئ ، دخل "ريان" مغلق الباب خلفه ، وقف مكانه لا يعرف من أين يبدأ ؟! مرت دقائق ترك "زين" الغرفة ، يجلس على أحد المقاعد  مشيرا إلى "ريان" قائلا:

-تعال أجلس لم أنت واقفا هكذا ؟! جلس فوق مقعد يجاور مقعده ،عاقدا يديه حول ركبتيه يحاول أن يرفع الحجاب عما حدث ، شعر أبيه  بتوتره   تنهد قائلا:

-أعلم ما بك ؟! أعلم ماذا تريد أن تعرف ؟ إعتدل " ريان" فى  جلسته ، ينظر إلي  أبيه  بأهتمام واضح قائلا:

-أريد فقط أن  أعرف من تلك السيدة التي  يدين لها الجميع  ؟وما هو هذا الدين القديم ؟ كما قالت لك ؟! كيف هي هكذا ؟ تجمع الشيء  ونقيضه ، رأيت بعينيها الجميلة ، حب وقسوة ، رأيت عتاب وحنين ، كانت ملهوفة عليا ، شعرت معها أني أعرفها ، شعرت معها باحتواء غريب لم  أشعر به  حتى مع أمي ، من هى يا أبي ؟! ولماذا شعرت أن بينكما شئ ، يجعلها تكره التحدث معك ، رغم طيبتها ؟ فتح "زين" أحد الأدراج ، يخرج منها علبة سجائر ، رأه "رين" وهو يشعلها ويضعها فى فمه ، حاول أن يمنعه ، فقد منعه الأطباء منذ زمن من التدخين والمهدئات ، فقلبه مريض لا يتحمل شئ ، أبعد "زين" يديه بهدوء كمن يستسلم لشئ قائلا:

-دعك منها يا "ريان" ، هى لن تنهي حياتي ، الأعمار بيد الله ، لا تصدق أن سيجارة من الممكن أن تنهي حياة إنسان ، هناك الكثير الذى ينهي حياتنا غيرها ، وأصعب شئ فى تلك الأشياء ، هو فراق من تحب ، أقسى من الموت نفسه ، تريد أن تعرف من هى تلك السيدة التي  أنقذت حياتك الليلة ؟ حسنا سأخبرك ، أنها "قمر" ، أنها الثلج والنار ، أنها القسوة والحنان ، الحب والقسوة ، لن أقول الحب والكره ، لأنها لا تعرف ما هو الكره ؟! "قمر" عمري بأكمله ، أنها تعويذة قد قرأت عليا منذ الصغر ، ومن وقتها لم  أستطع أن أُشفي منها، عملت ونجحت، سافرت وعودت ، تزوجت وأنجبت ، عاشرت وفارقت ، رغم كل هذا لم تفارق جنبي دقيقة واحدة، عشت محمل بها ، مرت أيامي وأنا أخفيها بقلبي عن أعين الناس، كبرت وكبر معي عشقي لها ، "قمر" من المفترض أن تكون هي أمك ، هى من حلمت بك ، إختارت لك  إسمك ، رسمت صورة لك ، بلون شعري ولون عينيها ، برجولتي ولين قلبها ، لكن كان للقدر كلمة أخري ، دوما القدر له كلمة لا نعرفها ، تستعصي علينا قراءة حروفها ، دوما يختار لنا دون إرادتنا ، يعرف كيف يضربنا فى مقتل من خلال أحبتنا ، أحبتنا هم من يقتلوننا  أو يهونون علينا  الحياة ، لا تتعجب مما رأيته الليلة منها ، فقد ذبحتها أنت مثل أبيك دون أن تقصد ، شعر "ريان" بغصة فى حلقه ، شعر بأبيه وكيف روحه ممزقة ، شعر كم كان صغير، حينما كان  يرى  العالم أجمع،  ما هو ألا ما يريده هو ، دون الأهتمام بأن يعطي أبيه من حقه ، أمسك بكف أبيه قائلا:

-الآن علمت ما كانت تقصده أمي ؟! بأن قلبك مرهون بحب أخر، عرفت لم كانت حياتك معها ، حياة خالية من الروح ؟! لأن روحك كانت وما زالت هنا يا أبي، لكن أخبرني من الذى  إستطاع أن يفرق بين قلبين يحملان  كل هذا الحب، هذا الحب الذى رأيته أيضا بعينيها الليلة وهى تنظر إلي ، وكأنها تراك في ، أطفأ "زين" سيجارته حينما سمع قرأن الفجر وصوت أمه تناديهم من أسفل لتناول سحورهما  نهض يُمسك "ريان" بين يديه قائلا:

-غدا سوف تعرف كل شئ بمفردك، الأن دعنا نلحق سحورنا، أريد أن أنام قليلا، لدي عمل كثير غدا، ضمه "ريان" إلى صدره قائلا:

-أحبك كثيرا ، لن أتركك مهما حدث ، أنا و"قمر" لن نتركك ثانية ، أعدك أن أعيدها إليك من جديد.

                                  "الفصل الواحد والثلاثون"

                                    "جريمة دون جاني"

بعض الجرائم تبقى  دون جاني ، وإن كنا نعرفه ، بعض الجرائم لا يحاسب عليها القانون ، فقط لأنها لم تقتل جسد وتزهق روح ، هناك من يقتل دون المساس بالجسد ، يقتل قلب ويغتال حلم ، نراه جميعا ونعرفه ، لكننا لا نمتلك حياله أن نتهمه ، أو نطالب القانون بمحاسبته ، لكن إن كانت هناك جريمة كاملة ، قتيل وأداة جريمة وروح زهُقت غدر ، ورغم ذلك لا أحد يعرف من الفاعل ، وقتها فقط يقف الشريف يتسائل ، هل أيضا هذا قتل لا نملك حياله شئ ، لأننا عجزنا عن معرفة الفاعل ؟! أم أننا ضعفاء لدرجة أننا لا نهتم ، أن لا نبحث من المجرم وما هو عقابه؟!

مضى  شهر رمضان سريعا ، وصل لأيامه الأخيرة ، الجميع مشغولين  بتجهيزات العيد ، لكن وحدها  "قمر" من كانت تدعي أنها مشغولة ، بما ورائها من تجهيزات ، وحقيقة الأمر أنها أستغلت زحمة تلك الأيام ، كي تهرب بها من ملاحقة " غالية" لها بأسئلة كثيرة ، تود منها معرفة ما قصتها مع "زين" ؟! فى الجانب الأخر كان "ريان" يحاول الأقتراب من  أبيه أكثر ، حينما علم ما تحمله فى ماضية ، "آمنة" تدعوا الله أن تمر الأيام ويعود كل شئ كما كان ، "أمين " لا يترك "زين" و"ريان" ألا وقت الصلاة ، "حمزة" وقته كله لمصالحه وفرض وجوده أكثر ، "زاد" كما هو يزور عمه دوما ، يطمئن على حال بناته ، "زين" يضع نفسه بكاملها فى  أوراق قضاياه ، الجميع يحتالون على أنفسهم ، يتشاغلون  كذبا بأشياء ليست بداخلهم ، يخفون الكثير تحت عبائة ، زحام أيام العيد ، وحده "البدر" الذي  كان يرى كل شئ بوضوح ولا يهتم ، كان يجوب المنشية يعرف ما وراء أبوابها ، كعادة بيت أبو القاسم يتركون أبوابه مفتوحة ، كان الجميع يلتفون حول مائدة وضع عليها أصناف مختلفة من الكعك المعروفة "أمنة" بمهارته فى صنعه ، كان "زين" و"حمزة" يتجاذبون  أطراف الحديث عن مكان وموعد صلاة العيد ، وكان "أمين" يستمع إلى "ريان" الذى جلس يتهامس معه عن "غالية" وكيف رأى طيفها قبل أن يقابلها فى الواقع ؛ حكي  له حتى عن صورتها التى رسمها لها منذ شهور ، يخبئها بين ملابسه ، رأي "أمين" بعينيه لمعة حب يولد ، تنهد قائلا:

-سوف تعيد التاريخ من جديد يا "ريان" ، لا أعرف حقا هل هذا الحب الوليد سوف يغير ما حدث ماضيا ؟! أم أنه سيضيف عبء  فوق أعبائنا ، تعجب "ريان" مما قاله "أمين" ، نظر إليه بتعجب قائلا:

-أنت الأخر يا جدي ، تقول الماضي ، أريد أن أعرف ، أن يخبرني أحد منكم ما هو هذا الماضي ؟ أخبرني  هل هناك شئ تأخذه على "غالية" ؟  إضطربت ملامح "أمين" قائلا:

-حاشا لله ، أنها من أشرف وأكمل بنات المنشية ، أنها تربية يد "قمر"، ماذا تنتظر أن تكون ؟ سوى ذلك ، تنهد "ريان" بارتياح قائلا:

-أرحت قلبي يا جدي، يعلم الله أنني أحب "قمر" منذ أن أنقذتني ، ومنذ أن روي لي أبي كل شئ عما كان بينهما ، كم تمنيت وقتها أن أذهب إليها ، أخبرها أنه ما زال يحبها ، أمسكها عنوة وأتي بها إلى هنا كى يتزوجا،  كم تمنيت أن يعوض كل ما فاتهم، هم الأثنين يستحقون الحب حقا ، لا أخفيك سرا يا جدي ، عندما سمعت قصتهما  من أبي ، إنتابني خوف من أن تتكرر نفس القصة معي أنا و"غالية" ، لكن ما يطمئن قلبي أنني لن أتركها مهما كان ، رغم أنني لا أعرف ما هو شعورها نحوى ، فقد رأيتها من قبل وتحدثت إليها ، أما هى فلا تعرفني ، وإن كنت رأيت بعينيها نظرة لهفة وحب ، حينما كنت بمنزلهم ، أقترب "أمين" أكثر منه حتى صار وجهه بوجه "ريان" ، كمن لا يريد أن يسمعه أحد هامسا:

-أنت غير "زين"، ليس لديك "أمنة" تتحكم فيك وتفرض سطوتها عليك بكافة الطرق ، كما أن بجوارك أبيك، وأنا أثق تمام الثقة ،أنه لن يسمح لأحد أن يكسر قلبك، لأنه عاش هذا الأحساس من قبل، ولن يجعلك تشعر به، كل ما عليك فعله هو أن تتمسك بأحساسك هذا، ولا تخبر به أحد، عل الفرج يا ولدي يولد على يديك ، عل الحب يداوي جراحات الزمن ، هناك شئ أخير أريدك أن تعرفه ، "زين" لم يكن ضعيف، لم يكن خاضعا، لم يضحي بحبه ، هناك ما كان أقوي منه ومن الجميع، لن أستطع أن أكشف لك الحجاب عن كل شئ دفعة واحدة ، لكن وعد مني سوف أخبرك كل ما حدث فى الوقت المناسب، ألتفت الجميع ناحية الباب عندما سمعوا صوت "البدر" يصيح قائلا:

-عيدكم مبارك ، غدا العيد ، نظر إليه "زين" يضحك قائلا:

-لم تعلن دار الأفتاء بعد إن كان غدا أم بعد غدا؟! ما زلنا ننتظر يا "بدر"، مد يديه يلتقط بعد الكعك من الطبق الموضوع أمامهم قائلا:

-تشكك فى كلامي يا "زين"، غدا العيد وسوف تري ، تعلقت عيني "ريان" به ، كانت تلك هى أول مرة يراه فيها ، وضع "البدر" قطعة من الكحك بفمه ناظرا إليه ، أقترب منه ، وقف "ريان" يصافحه بابتسامة مهذبة، أشار إليه بأصبعه قائلا:

-أنت "ريان" عرفتك منذ أن دلفت إلى هنا ، ضيق "ريان" عينيه قائلا:

-نعم أنا هو ، لكن كيف عرفت؟ نظر "البدر" إلى "زين" قائلا:

-ولدك سوف يكون عوضا  لك عن كل ما فقدت،  سوف يعدل ما مال ، ويرد إليك حقك أنت ومن ظلمت من قبل، تبادل الجميع النظرات ، يعرفون أن كلامه صدق ،وأن ما يخبر به يحدث حقا ، قطع "حمزة" حديثه قائلا:

-"بدر" غدا حقا العيد ، أعلنتها دار الأفتاء الأن ، رمقه بنظرة غريبة قائلا:

-ومنذ متى  أخبر بشيء  ليس صدق ؟! ضحك "زين" يضرب كفا بكف، فى حين استشاط "حمزة" غضبا من رد "البدر" هم أن يرد عليه ، لولا أن دخل أحد العاملين لدى "حمزة" مضطربا قائلا:

- سيد "حمزة" ، سيد "حمزة" ، ينظر إليه الأخير بتعجب قائلا:

-ماذا حدث ؟ وما الذى جاء بك إلى هنا ؟ وقف الرجل يبتلع ريقه مردفا:

-مصيبة ، لقد وجدنا "إسماعيل " مقتول ومُلقي به فى الترعة القبلية ،فزع الجميع ، خرجوا يجرون ناحية الترعة يروا ماذا حدث؟ وحده ظل "البدر " واقفا مكانه ، يبتسم بسخرية قائلا:

-بدأت المحنة  تنحل ، حتى وإن كان بدم ، من الأن  بدأ العد التنازلي  لكل ما هو حقير وسئ

وصل الجميع إلى المكان الذى يحمل جثة " أسماعيل" ، وقف "ريان " يخفي وجهه فى صدر أبيه ، بينما أقترب "أمين" يغمض عيني القتيل ، وقف "حمزة" ينظر حوله صارخا ، من فعل هذا ؟ ألم ننتهي بعد من سلسال الدم والقتل؟ أقسم أنني لن أترك من فعلها ، نحي "زين" "ريان" جانبا ، أقترب من القتيل ينظر بوجهه ، حتى رأي طلق نارى برقبته ، تعجب قائلا:

-أنه طلق ناري ٩ملي ، من باستطاعته أن يفعل هذا مع رجل ضعيف مثل "آسماعيل"؟! ضرب "حمزة" الأرض بحذائه قائلا:

-سوف أعرف ووقتها لن يفلت من يدي مهما كان من هو.                     

                                      "الفصل الثاني والثلاثون"

                                          "أخيرا جئت "

حينما تختلط أمامنا الألوان وتعمي علينا الحقائق ، ويصير الحق باطل والباطل حق ، حينما تنعدم الرؤية والضبابية تسكن كل شئ ، نقف كضرير فقد بصره فى منتصف الطريق، لا يملك الشجاعة كي يخطوا خطوة واحدة ، ولا يجد الأمان وسط الزحام ، فيسكن ويبقي كما هو، عندما يحدث لنا هذا وقتها لا نتمني شئ، ولا نبحث غير عن حضن أحبتنا، يعطينا الأمان، يلهمنا النور ويعطينا الطريق، نأتيه تائهين ، مذبذبين ، نسأله أين الحقيقة وسط كل ما نحياه من أكاذيب؟

مر شهر كامل على وقوع جريمة قتل "أسماعيل" ، المزارع الفقير الذى كان يعمل بأرض أبو القاسم قديما ، والذي رأه "زين" ليلة الأحتفال ، وتعجب لحاله ، مر شهر وتم غلق ملف القضية ، وكتب عليها ، الفاعل مجهول ، لم يشغل "زين" تلك الفترة غير هذه القضية ، كان دائم السؤال عنها، وعن سير التحقيقات بها، كم مرة  سأل "حمزة" كيف لتلك الدرجة لم تستطع الوصول للجاني وأنت بمركزك هذا؟! يومها عض "حمزة" شفاهه  قائلا:

-ليس بيدي يا "زين"، حاولت كثيرا أن  أصل ولو لمجرد خيط رفيع ، القاتل محترف ، عرف كيف يفعل فعلته دون أن يترك خلفه شئ يدلنا عليه ، حتى أداة الجريمة ليس لها وجود، هذا ما صعب الأمور وجعل النيابة تغلق ملف القضية ، ضرب "زين" الحائط بيديه،  حتى أن "آمنة" فزعت مما فعله، كان ثائرا غاضبا، ضرب الحائط دون أن يهتم بألم يديه قائلا:

-سألتك يا أمي من قبل ، ماذا حدث أوصل "إسماعيل" لتلك الحالة المزرية التى رأيته عليها ؟ لم تجيبيني يومها، رغم علمك بأحوال كل من هنا ، وأنت يا "حمزة" كيف تغافلت عنه لهذه الدرجة وهو كان رجل من رجالنا يوم؟!  هناك سر وراء ما حدث له وعلي أن أعرفه ، أمسكت "أمنة" بفنجان القهوة تعطيه له قائلة:

-أهدأ وتناول قهوتك ، هذا ليس بجديد علينا ، ما أكثر حوادث القتل والسلب ، خطي حتى جلس بجوارها فى مواجهة "حمزة" الذي جلس يرتشف قهوته قائلا:

-حاول أن تصل لأهله وتعرف منهم أى شئ، علينا أيضا أن نتابع  أخبار زوجتة وأولاده وما يحتاجون إليه، جاءه صوت "ريان" الذى كان ما يزال بغرفته ، يهبط الدرج قائلا:

-وأنا سوف أساعد عمي "حمزة" فى ذلك ، أريد أن أفعل شئ هنا ، قبل أن يجيبه أيا منهم ، كان "أمين" قد أنضم إليهم قائلا:

-أراك تستعد للخروج يا "ريان"، أخبرني  إلى أين ذاهب؟! غمز له  بعينيه قائلا:

-ذاهب أستنشق بعض الهواء يا جدي ، ضحك له وهو يضرب كفا بكف، لاحظ "زين" ما حدث بينهما أبتسم قائلا:

-أشعر أن هناك شئ بينكما، ماذا تخفيان عني؟ أقترب "ريان" يقبل رأسه قائلا:

-لا شئ يا سيادة القاضى ، جدي فقد يحب أن يشاكسني ، سوف أخرج قليلا ، أريد أن أعرف المنشية أكثر ، ربت أبيه على كفيه قائلا:

-حسنا أذهب لكن أحترس على نفسك ، خرج "ريان" ملوح للجميع بيديه ، تعلقت عيني "حمزة" به وهو يغادر قائلا:

-به منك الكثير يا "زين" ، إن لم يكن به منك كل شئ ، لكن كيف سمحت له بالذهاب ، عليك أن تخاف عليه ، هو ما يزال لا يعرف أحد من هنا ، رفع "أمين" يديه بمسبحته يسبح عليها وهو يجلس بجوار "زين" قائلا:

-لا تخف عليه شئ ، الحافظ هو الله ، يكفي ما عاشه من عمر بعيد عن أهله وبلدته، عليه أن يعرف كل شئ هنا ، أخذ "ريان" يسير على قدمي، يشاهد الحقول وأرض جده وأبيه ، يتصفح وجوه الناس ، يستنشق هواء بلدته، وجد نفسه فجأة أمام  أشجار الكافور والساقية القديمة ، دخل إليها دون إرادة منه ، أخذ ينظر حوله يطالع المكان بأعجاب شديد، سار حتى وقف أمام الساقية تماما، جذبه صوت الماء، رأي من تجلس أمامها ، شعر أنه يعرفها ، وقف على مقربة منها قائلا:

-السلام عليكم ، إلتفتت إليه ، شهق حينما رأها  قائلا وهو يضحك:

-من ؟ "قمر" ؟ ما هذه الصدفة السعيدة ، نهضت مقتربة منه ، لم تستطع أن تقاوم ابتسامتها له ، لم تستطع أن ترفضه أو تتركه وتمضي ، وقفت أمامه كعابد داخل محراب ، كانت صامتة وبداخلها تعترك كل اللغات ، أخذت تتصفح ملامحه ، تغوص بها ، تحتضنها ، وكأنها تحتضن أبن لها ضل عنها الطريق زمنا طويلا ، أبتسم لها حينما رأي بعينيها تلك المشاعر والأحاسيس ، التى أخبرته بما تخفيه ، ظلت تنظر إليه تبحث عن أبيه فيه ، رقص قلب "ريان " لأنه علم أنها ما تزال تحمل أبيه بين ضلوعها ، ابتسم لها إبتسامة  أعتذار عما فعلوه بها قائلا:

-تعرفين أنك الشئ الجميل ، الذى قابلته منذ أن وطأت قدمي هنا ، وتأكد صدق أحساسي من كلام أبي عنكِ ، مرت عاصفة سريعة بوجهها حينما سمعت جملته تلك قائلة:

-وماذا قال أبيك عني؟  أخذ "ريان" يقلب عينيه بالمكان عائدا إليها قائلا:

-أخبرني بكل شئ ، وكم يحبك حتى  الأن ، صدقيني لم يحب أحد غيرك ولا حتى أمي ، تعلين أنه صعب علي أن أقول هذا ، لكن حقك أن تعلمين أين أنت منه؟ حقك أن تعلمين مكانتك الكبيرة عنده كعتذار لكِ وإن كان هذا الأعتذار لن يفيك حقك ، لكن صدقيني "زين أبو القاسم" لم ولن يحب غيرك، رأيتك من قبل بعينيه وإن كنت لا أعرفك ، ورأيتك منذ أيام بقلبه حينما حدثني عنكِ أخبرني بكل ما حدث ، لكن دون أن يخبرني ما السبب ؟!  أريد أن أعرف الحقيقة منك أنتِ ، تنهدت "قمر" تنهيدة لا تعرف ماذا تسميها ؟ هل هى تنهيدة فرح لم قاله "ريان" ؟ أم أنها تنهيدة قلبت عليها مواجع سنين وزمن ؟ لكنها شعرت أنها كل هذا ، يزيد عليها باب فتحه "ريان" عليها دون أن يقصد ، سارت باتجاه الساقية قائلة:

-لا أعرف لم أحبك  ؟! رغم أنه من المفترض أن أكرهك ، لأنك ببساطة تذكرني بأبيك وما فعله بي، تذكرني بأنه  كان من الطبيعي أن تكون أبن لي ، لكنهم حرموني هذا الحق وأعطوه لمن إختاروها تكون أما لك ، من المفترض أن  أكرهك ، لأنك حقي المسلوب مني بالظلم والغدر ، كلما رأيتك أمامي أختلطت علي مشاعري ، ما بين مشاعر حب وأمومة ، وبين مشاعر قسوة ورغبة فى الإنتقام ، نعم صدقني كل هذا يعترك بداخلي ، لكن الغريب أن دوما ما ينتصر أحساس الأمومة والحب بداخلي ، يكفي أنني من أخترت لك أسمك ، كنا دوما أنا و"زين" نقول أن أول أبن لنا ، سوف نسميه "ريان" كى يظل يروي أيامنا حب وود ودفء ، لم نكن نعرف أنك ستأتي الدنيا ، لكن من أم غيري ، تشاركني  فيك ، تناديك بنفس الأسم  الذى  أخترته أنا لك ، وأظل أنا محرومة من حتى النطق به ، عجيب هو القدر، يتركنا نحلم ، يتركنا نقرر ، يتركنا نقسم أن ها هي أحلامنا بين أيدينا  لن يأخذها  أحد أو يحرمنا إياها، وفى غمضة عين يأتي غيرنا، يأخذها من بين أيدينا عنوة ، وكأنها ملك له ، يأخذها وقد  أكتملت، ندفع الفاتورة ونسدد الثمن لمن يأخذها دون تعب أو عناء ، الأن أخبرني ما رأيك فى قصتي ؟! أمتلأت عين "ريان" بدموعه دون إرادة منه ، أوجعه كلامها ، تخيل كل ما تحدثت به، علم كم عانت ، وكيف كان ثقل الظلم على روحها ، تمني لو أعتذر لها نيابة عن كل من سلبوها حقها ، أقترب منها ، مال على يديها يقبلهما ، حاولت أن تسحب يديها من بين يديه ، لكنه لم يترك لها فرصة ، مال  يقبلهما  قائلا:

-لا أعرف ماذا أقول لكِ ، حيال ما قولتيه ، كل ما أمتلك قوله هو أن أناديك أمي ، ضربت الكلمة قلبها ، دق بسرعة  كأم عاقر، أخبروها أن لا أمل لها فى الإنجاب ، وبعد عمر حدثت المعجزة ، ووهبها الله من يناديها أمي ، ضحكت وبكت فى آن واحد ، أخذت تمسح على رأسه بحنان العالم أجمع، رفع رأسه ينظر إليها قائلا:

-أعطيني فرصة فقط كي أرد لكِ حقك ، أتركي لي وقت أفعل كل ما بوسعي كي أجعلك تقسمين أنني حقا أبنك الذى أخترتي له أسمه منذ زمن دون أن يعرف ، خرج صوتها مخنوق  بدموعها قائلة:

-يكفي ما قلته الآن ، يكفي ما أعطيتني من أحساس ، برهن لي أنني لم أخسر كل شئ ، أنني حقا ادخرت  شئ من هذا الزمن ، وأن ما أعطيته لم يذهب هباء ، سوف أغادر الأن ، وأنت هيا عود للبيت ، لا تأمن لأحد هنا ، فهمت ؟ أومأ رأسه بالموافقة ، تركته ماضية فى طريقها يحملها قلبها كريشة طائرة فى الهواء ، ناداها ثانيا قائلا:

-أمي ، أغمضت عينيها تتنفس بعمق ، تحاول أن تجمح زمام مشاعرها المبعثرة ، أستدارت تنظر إليه ، أبتسم قائلا :

-شئ واحد لم أسألكِ عنه ، لم دوما ترتدين اللون الأسود ، نظرت إلى الأرض ثم إليه قائلة:

-أسأل "زين" سوف يجاوبك.

                                    "الفصل الثالث والثلاثون"

                                        

                                       " زائر الليل "

كاذب من يخبرنا أن القلب الذى سكنه الحب يوما ، يعرف الكره طريقا  إليه ، كاذب من يدعي أن  الأشخاص ما هم ألا محطات ، نحط بأحدها ونغادر إلى  أخري ، بعض الأشخاص يشبهون نبض القلب لا نملك العيش بدونهم ، بعض المشاعر كالعمر نعيشها مرة واحدة فقط ، مهما ادعينا  كذب وغرور وكبرياء ، أننا ننسي  تبقي  حقيقة واحدة  تسكننا ، تقسم لنا كل يوم بأغلظ الأيمان ، أننا نحيا لأنهم  بداخلنا وريد يربطنا بالحياة.

أغلق الجميع عليه بابه ، يحيون مشاعرهم ، وأختلاط  إحساسهم بمفردهم ، خلف أبوابهم فقط  يكتفون بمن يحبون، يستحضرون طيفهم ، يتحدثون إليه، يسمعون منهم ، يتسامحون ، يتشاجرون ، لكن فى نهاية الأمر يغفون مطمئنين بين أحضان بعضهم ، جلس "زين" خلف مكتبه يقرأ قضية قتل "أسماعيل" من جديد، يحاول أن يمسك بطرف خيط يساعده ، فقد قرر أن لا يترك تلك القضية دون أن يصل للجاني، وكلما تعب وفرك عينيه، طلت عليه "قمر" من بين سطورالورق تهمس له ،أكمل يا "زين" لا تقف ولا تمل ، صدق حدسك ، هناك فاعل قتل إنسان ، وإن لم يكن هذا الأنسان برئ ، لكن عليك أن توقف هذا الدم ، أكمل دون توقف حتما ستصل للحقيقة ، يتنهد قائلا:

-دوما تأتيني فى  أحلك لحظات حياتي ، تشدين عضدي ، تقويني على ما أشعر به من تعب وخذلان، دوما كنتِ وما زلتِ نقطة الضوء وسط تلك الظلمة ، لا تخافين ، أعاهدك أن أصل للحقيقة .

فى الغرفة المجاورة له كان يجلس "ريان" يرسم صورة جديدة، لكنها تلك المرة كانت لأمه التى علم بوجودها بعد تلك السنين، أحبها وتعلق بها وكأنه جاء من رحمها ، وجد معها ما كان يبحث عنه مع أمه التى لم تشعر به يوم ما ، كان كل يوم يذهب ليراها ويتحدث معها فى كل شئ ، إلا شئ واحد أخفاه عنها وهو حبه الوليد "لغالية"، لم يشأ أن يجعلها تبتعد عنه ، كان عليه أن يداوي جرحها أولا ، كي يكون بمقدوره أن يخبرها وأن تستمع إليه ، بالأسفل كانت "أمنة" تجلس فوق أريكتها ترسم كحل عينيها، الذى يظهر مدى قوتهما وحدتهما، أرادت أن تتشاغل عما يحدث حولها ، أرادت أن تنسي  قصة "أسماعيل" والقتل، لكن لم؟! هل لتلك الدرجة لا يهمها الأمر ؟! ومنذ متي تهتم لأمر أحد غير من تربطهم بها صلة دم، دوما هي فوق الجميع ، هناك ببيت بعيد عنهم كان قلبين يقبعان داخل غرفة واحدة ، بداخلهما شئ مختلف عن الأخر وإن كان كلاهما حب ، "قمر" وقفت خلف زجاج نافذتها تتطلع إلى القمر، تستمع إلى صوتها أتي من أغوار بعيدة قائلة:

-ليتني أمتلك جمال هذا القمر ليلة تمامه ، كى أليق بك يا "زين"، تأتيها تنهيدته وكأنها صادرة من أعماقه لتوها قائلا:

-أنت بعيني أجمل منه ومن كل جميل بهذا الكون ، أحبك يا قمري ، شهقت حينما سمعت دقات قلبها تضربها بلا هوادة ، وكأنها تسمع صوته وهو أمامها، وضعت كفها فوق قلبها هامسة بأسمه ، ما زلتِ تحبينه ، لم يستطع رجل غيره أن يسكن قلبك ، لم يخلق بعد من يقدر، أن يحتل مكان "زين أبو القاسم"، كانت "غالية" تحاول النوم ، لكن دون جدوى ، طيف "ريان" يطاردها، يسرق النوم من أجفانها، صوت أخذ يدق رأسها قائلا:

-إن كان يتذكرني لماذا لم يحاول أن يخلق فرصة كى يراني؟! مؤكد أنا لا أشغله، لم تكن تعلم أنه رأها وأحبها ، قبل أن تراه هي ، لكنها لا تعرف أنه يقدر خطواته جيدا قبل أن يخطوها ، يفكر وهى تملأ كل تفكيره، كيف يكسبها ؟ كيف يفوز بها ؟

أنتهي "ريان" من رسمته،  نهض يسير قليلا بغرفته، سمع صوت همهمات أسفل نافذته، ذهب يقف فيها يري من بالأسفل فى وقت متأخر كهذا؟ رأي طيف شخص يغطي رأسه،  يتحدث مع أخر لم يستطع أن يتبين من هو من شدة الظلام؟!  لكنه سمع صوته، كانت جدته، نعم أنها هى ، لكن مع من تتحدث الأن ؟ ومن هذا الشخص ؟ نزل الدرج مسرعا يري ما الأمر، فقد خشي أن يكون ألم بأحد مكروه دون أن يعرف، وصل للأسفل ليجد "أمنة" تدلف من الخارج ، تغلق الباب خلفها ، شهقت حينما رأته قائلة:

-"ريان"  ماذا تفعل هنا الأن ؟! ألم تنم بعد؟! أقترب منها ينظر من خلف ظهرها خارج البيت ، يحاول أن يري من كان يقف معها منذ دقائق؟! لكن الظلام أبتلع كل ما كان ، أستدار ينظر إليها بتعجب قائلا:

-منذ قليل سمعت أحد يتحدث معك فى حديقة البيت، كان يقف يخفى وجهه ورأسه ، أصابني خوف عليكِ ، جئت أري ما الأمر ؟ من هو يا جدتي؟ وماذا كان يريد؟ وأين ذهب؟ تلقي "أمنة" بشال كانت تضعه فوق كتفيها قائلة:

-يهيأ إليك فقط ، الظلمة وقلة النوم جعلك تري أشياء ليست حقيقية يا "ريان" ، لم يكن هناك أحد ، أنا فقط كنت أستنشق هواء نقي، تركته دون أن تعطيه فرصة للرد قاصدة غرفتها ، وقف مذهول ، لا يعرف ماذا يقول أو يفعل ؟ أنه صادق ، رأى حقا من كان يقف معها ، لكن لماذا تنكر هذا ؟ إن لم يكن الوضع طبيعي وأين أختفي ؟! هناك شئ يحدث فى الظلام وعليا أن  أعرفه

                                   "الفصل الرابع والثلاثون"

                                     

                                       "طرف خيط"

مهما كان الجاني ماهر، هناك من هو فوقه وفوق كل شئ ، أنه الحق الذى مهما غاب تأتيه لحظة ، يظهر واضحا جليا ، مهما كان هناك من هو ذكي ، دوما هناك من هو أذكي منه، لا بد أن يظهر طرف خيط،  مهما كان مدفون تحت التراب ، يرفع الغطاء عما أخفته الأيام ، مجرد  أن نمسك به نجد الحقيقة بأكملها تأتي خلفه

إلتفت الجميع بمنزل أبو القاسم، حول مائدة الطعام صباحا، يتناولون طعام الأفطار، جلس "ريان" بين أبيه وجده "أمين" ، فى حين جلست "أمنة"  قبالتهم ، حاولت أن تتحاشي النظر إلى "ريان" ، كمن يخشى أن يرى شبح الأمس بعينيها، ويعلم أنها كاذبة، شعر "زين" بأن هناك شيء تخفيه أمه و"ريان" ، رفع عينيه عن طعامه، ينظر إليهما دون كلام ، هو يعلم أنه دوما يجلس أبنه بجوار جدته ، يداعبها كل صباح ، اليوم صامت ، لا يجلس بجوارها ، رأت "أمنة" نظرة "زين" المترددة بينها وبين أبنه ، قرأت ما بداخله ، حاولت أن تنسيه ما يفكر به ، أمسكت ببعض قطع الخبز تضعها أمام "ريان" قائلة:

-ما لك لا تأكل اليوم ؟! هل لا يعجبك ما أعددته لك من طعام ؟! لم يرفع عينيه عن طبقه ، ظل صامتا يتابع يتناول طعامه ، ضيق "زين" عينيه ، تأكد أحساسه بأن هناك شئ ، حتى "أمين" نظر إليه مستغرب رد فعله ، هزه  "زين" برفق فى كتفه قائلا:

-"ريان" ماذا بك ؟! جدتك تتحدث إليك ألا تسمعها؟! بقي كما هو وكأنه يخشي أن ينظر إلى أحد منهم ، هكذا هم الأنقياء، يعتقدون أن داخلهم مكشوف لمن حولهم ، يراه كل ما حولهم ، لم تلوثه الأيام بعد ، لم يتعلم كيف ينافق ، ويظهر عكس ما يحمله ، تظاهر بأنه مشغول فى طعامه قائلا:

-شردت فقط فى شئ هام يا أبي ، بالأمس كنت أطالع بعض المجلات ، شاهدت عبائة جميلة ، لكنها غير معروفة هنا فى مصر ، شردت فيها وكم تمنيت أن أحضر لي واحدة مثلها ، شرب "أمين" بعض الماء قائلا:

-صفها لي يا "ريان" وسوف أحضرها لك حتى لو من الخارج ؛عاد الأخير بظهره إلى الخلف يقلب بملعقته فى الطبق الذى أمامه قائلا:

-أنها مطرزة تطريز عربي ، يشبه تطريز أندلسي ، ألوانها متداخلة تخطف العين ، صنعت من صوف معالج ، لونها بني ناعم الملمس ، رفعت "أمنة" عينيها فجأة مذعورة إليه ، فى حين فغر فم "زين" تعجبا ، و"أمين ضرب المنضدة  أمامه بكفه ، فى لحظة فعلت كلمات "ريان" عاصفة بداخل كلا منهم ، لكنها عاصفة مختلفة الوقع على قلب كلا منهم ، وقتها أبتسم "ريان" لأنه علم أن ما رأه حق ولم يخيل إليه؛ علم أن بداية خيط ظهر له وسوف يأتي إليه بكل الماضي؛ سوف يكشف حقائق كثيرة طمست بفعل الزمن، غبي حقا ما يعتقد أن الحقائق تموت وتدفن ، الحقائق دوما تحيا تحت قشرة من الوهم بأنها لن تُكشف يوم ، فرك جبينه قائلا:

-ماذا بكم ؟! هل كلامى ذكركم بشئ ؟! تنهد "زين" قائلا:

-ذكرتني بجدك رحمة الله عليه ، أعدتني للخلف سنين طوال ، كان لدي نفس العباءة التى وصفتها ، قد أحضرها لي صديق لجدك، كان يجوب البلاد وفى زيارة له لأسبانيا أحضرها لي ، وضع "ريان" قطعتين من السكر فى كوب شاي أمامه قائلا:

-وأين هي ؟ هل لي أن أراها ؟ لم يجب "زين"، مد "أمين" يديه يسحب كوب الشاي من أمامه يرتشفه قائلا:

-الشاي مظبوط يا "ريان"، كم كنت بحاجة إليه ، فهم الأخير أن هناك أحداث كثيرة متداخلة ، كخيط صوف تعقد ، نهض تاركا مائدة الطعام ، قاصد حديقة البيت ، ألقي بنفسه فوق مقعد خشبي تحت شجرة كبيرة ، عقد كفيه ببعضهما ، عائدا برأسه للخلف، لحق به "أمين" الذي ترك "زين" غارق فى حيرته قائلا :

-لا تخشي شئ ، سوف أُنسيه الأمر، أنت ما عليك سوى أن تنتهي من طعامك وتلحق بعملك ، لديك اليوم جلسة هامة، خرج قاصد "ريان" ، يمسك "زين" بملعقة أمامه يضرب بها المنضدة فى توتر واضح ، بينما حاولت "آمنة" أن تتشاغل برفع الأطباق كي لا يوجه إليها أحد الحديث، قصدت المطبخ، أوقفها "زين" قائلا:

-كيف حالك الآن  يا أمي ؟ هل دفن الماضي كما كنتِ تعتقدين ؟ هل أستطعت أن تدفنيه كما دفن "سليم" ؟!  لم يسمع لها صوت ، لم تنطق بكلمة ، ألا أن صوت الأطباق التى كانت تحملها بيديها كان الشاهد الوحيد الذى برهن أن بها روح ، سقطت فجأة الأطباق مرتطمة بالأرض ، لتتكسر وتحدث دوي ، كان أسم "سليم" كقطرة ماء سقطت على وجه  مغشيا عليه أفاقته ، كان أسمه كصفعة  فوق  وجه متبلد، جعلته يشعر ويحس ،  تنظر إليه قائلة:

-مالي أنا ومال "سليم" ؟ هل أنا من قتلته ليلة عرسه ؟ هل أنا من بعثته لأهله ودمائه تغرقه؟ أنسيت أنني كنت هناك أحضر فرحه معك؟ نهض "زين" من مكانه قائلا:

-لو ما كان لك دخل فى قتله ، لما وقعت من يديك الأطباق الأن ، أمي سوف يبقي هذا الدم عالق بيديك، مرت سبع عشرون عامل على قتل من كان زينة الشباب والرجال، وأحب الناس إلى قلبي ، لكنه ما يزال حي بعقلك ، نعم ما زلت  أراه يقف بيني وبينك ، واليوم جاء حفيدك ينبش ذكراه من جديد ، وكأن الأرض لا تنسي دم الأبرياء ، تعلمين كما أعلم أنا ، ما السبب وراء قتله ، ومن قتله ، سوف أذهب إلى عملي الأن ، أري  ما لدي من جرائم ، لا تقل جُرم عن قتل "سليم" ، لكن لتري ماذا ستقولين "لريان" حينما يعود يسأل عن عباءة أبيه؟

جلس "أمين" بجوار الأخير يحاول أن يأخذه بعيد عن المكان ، عله يستطع أن ينسيه ما دار منذ قليل قائلا:

-لم تحدثني منذ فترة عن اللطيف الجميل الذي تعلقت به روحك، خرجت من بين ضلوعه تنهيدة قائلا:

-لا جديد يا جدي، بربك أخبرني كيف لي أن أحدثها ؟ وأخبرها بما فى  قلبي ؟ وأنت تعلم ما يحدث حولنا ، تري تلك الفجوة القائمة بيننا وبينهم ، لكن أخبرني يا جدي ، هل سبب تلك  القطيعة هو أبي و"قمر" ؟ ضيق "أمين" عينيه قائلا:

-من أين علمت بحكاية أبيك و"قمر" ؟ خرجت من بين شفتيه زفرة ساخرة قائلا:

-أعلم كل شئ يا جدي ، أعرف من هي "قمر" يا جدي ؟ أحمر وجه "أمين" فجأة كمن ضربت به قنبلة قائلا:

-عرفت كل شئ؟  أى شئ  علمت به يا "ريان"؟! نظر إليه بتعجب شديد قائلا:

-ما الذى أخافك هكذا يا جدي ؟! وما الذى تخشي علي من معرفته ؟! قلبي يحدثني بأن هناك الكثير لا أعرفه ، أطمئن "قمر" نفسها لم تخبرني شئ مما تخاف أن أعرفه ، علاقتي بها لا تتعدي علاقة أبن  بأمه ، نظر إليه "أمين" نظرة شملت كل تفاصيله ، هز "ريان" رأسه مبتسما ضاحكا مردفا:

- نعم  أمي  التى  إختارت لي أسمي دون أن  أعلم ، صدقني يا جدي ما يربطني بها علاقة دم ، لا أعرف ما سببها ، لا أفهم ما سر  إرتباطي بها ؟ وكأن بيننا شريان يغذى أرواحنا من بعضنا ، ألم أقل لك أنها أمي التى غذتني من رحمها وهى بعيدة عني ، عض "أمين" شفتيه قائلا:

-"قمر" يا "ريان" لا قلب مثل قلبها، أصدقك فى كل ما قلته ، حبك لها تستحقه، أصدقك فى كونها أمك ، أنها حقا أمك بالروح والتبني، رأتك دون أن تُنجبك من رحمها، ليس بأيدينا شئ نفعله حيال ما حدث ، لكن ما عند الله كثير لا نعرفه ، قادر أن يُعيدك إليها وتحيا معها من جديد .

                             "الفصل الخامس والثلاثون"

                                        "طعنة "

ماذا عسانا أن نفعل حينما تتوه من الخطاوي؟! وتقف بنا السبل، نقصد وقتها فقط من نطمئن إليهم ، ونثق بهم ، ندق أبوابهم ، ننظر إليهم بأعين تسألهم أين الحقيقة ؟ يغمضون أعينهم علينا ، يطمئنون قلوبنا، حتى نهدأ ونستقر ، يهمسون لنا أن  الحقيقة سوف تخلع عن نفسها النقاب وإن كانت فى بئر ليس له قرار.

صمم "ريان" بعد حديثه مع "أمين"، وما قاله عن "قمر"، أن يعرف كل ما حدث ، أيقن أنها تستحق ما يحمله لها من مشاعر، كان الجو يقترب من الغروب ونسمة شتوية منعشة تهب ، تدثر بمعطفه وخرج قاصدا الطريق ، مر من أمام بيت "قمر"، دون إرادة منه وقف أمامه يتطلع إلى شرفته ، متمنيا أن يراها أو يري "غالية"، هبت فجأة رياح باردة جعلته يحتضن نفسه ، فجأة فتحت الشرفة جراء شدة الريح ، طلت "غالية" تزيل عن عينيها خصلات شعرها المتطاير على وجهها ، رأها فرقص قلبه بين ضلوعه، رفعت عينيها إلى الطريق رأته ، تعلقت عينيها به تخبره بحزن صامتا كم أشتاقت إليه ، أتت من خلفها "قمر" تناديها، وجدتها تنظر إلى الطريق، شاهدته من خلف ذراعيها، شعرت من مظهره أن هناك شئ يريدها فيه، تسحبت ببطء دون أن تشعر بها "غالية" وضعت وشاحها فوق رأسها، خرجت من البيت تسير بحذر كى لا يراها أحد، رأها "ريان"، علم من عينيها أنها تريده أن يتبعها حيث الساقية ، وضع يديه بجيب معطفه ،مغادر المكان بعد أن نظر إلي "غالية"، نظرة تخبرها أنه يحمل لها ما يليق بها من مشاعر، لكنه ينتظر الوقت المناسب كي يخبرها بذلك ، ينتظر أن تنتهي تلك الأيام ، بما تحمله من خليط من حوادث وصراعات، وصلت "قمر" إلى الساقية ، تدثر بشالها الذى لفت به جسدها من شدة البرد ، وقفت تنتظر "ريان" الذى لم يمضى وقت على حضوره، حينما رأها ورأي  أرتعاشات شفتيها من البرد أقترب منها قائلا:

-سامحيني ، لم أكن أتمني أن أجعلكِ تخرجين من البيت فى مثل هذا الجو، لكن مؤكد أنكِ فهمتِ أن هناك شئ أريد أن أحادثك فيه ، وأعلم أنك فقط من سيخبرني الحقيقة ،إحتضنت  نفسها بيديها ناظرة إليه بأهتمام  قائلة:

- ماذا حدث ؟ ما الذى  يشغلك هكذا؟ هل علم أحد أنك تقابلني وتعرفني؟ زفر بضيق يضرب حجر صغير أمامه قائلا:

-لا لم يعلم أحد شئ ، وإن علموا ما المشكلة فى ذلك ؟! لم يعد يهمني أحد ، أو أهتم لأحد ، تعرفين لماذا ؟ لأنني أكتشفت أن الجميع لديهم ما يخفونه عني ، جميعهم لديهم ما يحملونه بداخلهم ، دون أن أعرف ما هو؟ ضحك ساخرا مردفا:

-تخيلي كنت أعتقد أنهم جميعا صفحة مفتوحة أمامي ، أقرأ سطورها دوما ، لكن فى النهاية علمت أني غبي ، رفعت رأسها إلى السماء تتلمس قطرات المطر ، التى بدأت تنزل ببطء ، وكأنها تشاركهم الأحداث قائلة :

-ما زلت صغير يا "ريان" ، قلبك أخضر لم يعرف شئ بعد عن تلوث البشر ، عليك أن تعلم أن للجميع أسرار تخصهم دون غيرهم ، جميعا لدينا ما نخفيه ، هناك دوما نصف حقيقة مخفى ، ليست كل الحقيقة هى ما تراها ، لكن أخبرني ما سر ما نطقت به ؟ هل أكتشفت أن أبيك وجدتك يخفون عن شيئا ؟! ضيق "ريان" عينيه قائلا:

-أظن أنك تعلمين ما يخفونه عني ، وألا ما كنتِ قلت ما قولتيه ، أخبريني بربك ، أخبريني ما هو هذا السر الذى يخفيه الجميع عني ؟! أراه فى أعينهم وفى لفتاتهم ، لكنني لا أملك أن أضع يدي عليه،  صمتت "قمر" كمن تريد أن تحتفظ لنفسها، بالرمق الأخير من المقاومة، شعر بها "ريان" ، علم أنه وضع يديه على مفتاح السر، الذى يخفيه عنه الجميع، علم أنه وضع قدميه على أول طريق ، سيرفع له الحجاب عن ما أخفي عنه ، كان عليه أن يضغط أكثر عليها، لم يكن أمامه غير طريق واحد فقط ، هو أن يتمسك بالفرصة ولا يفوتها، أقترب منها يمسكها من ذراعيها التى أغرقتها الأمطار التى بدأت فى الهطول بشدة قائلا:

-أخبريني ولا تخافي عليا ، أنا كبير بما يكفي ، أستطع أن أتصرف بحكمة ، ما السر الذى  تخفونه عني ، ضرب فجأة الرعد قلب السماء، نظر الأثنين إليه ، عاد "ريان" بعينيه التى كانت كلها توسل ورجاء إلى وجهها قائلا:

-تلك  إشارة من الله ، أن تتحدثي ، لن يفيد صمتك ، تحدثى ولا تخشي شئ ، سارت "قمر" ناحية الساقية، حتى وقفت أمامها شاردة عبر سنوات كثيرة مضت قائلة:

- كنت صبية جميلة ، يتهافت عليها جميع شباب منشية  أبو القاسم ، لكن قلبي كان مرهون برفيق طفولتي وصبايا ، من سرنا مشوارنا بجوار بعضنا ، خطوة خطوة ، ممسكين بيد بعضنا ، متعاهدين أن نكمل حتى أخر العمر، كان الجميع يعلم قصتنا معا ، كانت جدتك "أمنة" تحاول بشتي الطرق أن تبعد "زين" عني، حاولوا جميعا أن يبعدونا، كنا نهرب منهم لا نهتم بما يفعلونه ، نتقابل ، نضحك ، نتحدث ، نتعاهد ألا يترك أحدنا صاحبه مهما حدث، حتى الصمت والألم كنا نتقاسمه ، كان جدك "أمين" هو من يقف بجوارنا ، يهون الدنيا علينا ومن حولنا ، كم مرة تحدث إلى "أمنة" أن ترفع يديها عنا ، أن تتركنا وحالنا ، نحيا كما نريد ، تخرج "زين" وتم تعيينه بالنيابة ، قرر وقتها أن يتقدم لخطبتي ، تحدث مع جدتك بهذا الأمر ، رفضت ، إعترضت ، قامت الدنيا على قدم وساق ، حاولت بكافة الطرق أن تفرقنا ، لكن "زين" أصر على موقفه ، صمم أن يُكمل مشواره معي دون غيري ، ترك لها المنشية بأكملها ومكث فى مصر ، تدخل جدك "أمين" كي يجعلها تعدل عن رأيها، كانت دوما تراني أقل منه ، وهي تريد أن تزوجه واحدة من بنات الأصول ، واحدة ترفع أبيك ، ومن وجهة نظرها أنا لا أليق به ، تفاجأت ذات صباح أن أبيك عاد من مصر ، بعث لي "البدر" يخبرني أنه عاد ، ويريد أن يقابلني عند الساقية ، قاطعها "ريان" قائلا:

-"البدر" ؟! هل كان يعرف بالأمر ؟! إبتسمت "قمر" قائلة:

-الجميع كان يعلم بقصتنا ، "البدر" كان حافظا لأسرارنا ، لم أصدق يومها أنني سوف أري "زين" من جديد ، جريت إلى هنا ، كان قلبي يسبق قدمي ، كانت روحي تحملني ، جئت أبحث عنه ، وجدته يقف هنا ، فى نفس هذا المكان الذى أقف به الأن ، شعر بوجودي ، جري نحوي يحملني بين ذراعيه ، ضممته بشوق كبير ، ضمني بشوق أكبر، قبلني فوق رأسي قائلا وهو يضحك كالأطفال ، ضحكة حلوة ، ما زلت  أراها أمامي قائلا:

-سوف نبقي  مع بعضنا حتى  أخر العمر، لقد وافقت أمي وأبي على زواجنا ، لقد بعثت لي أن أعود، وأنها راضية عن ما نريده ، سوف نحضر إلى أبيك الليلة بعد العشاء ، لم أستطع أن أصف كيف كانت دقات قلبي ، التي كانت تدق دقات جديدة وغريبة ، كل سعادة الدنيا كانت تمتزج بدمي ، عُدت سريعا إلى البيت، قابلني "سليم" أخي الأصغر منى بعامين، كنت أنا من ربيته بعد وفاة أمي ، كان أبني وأخي وصديقي أوقفني قائلا:

-"قمر" أين كنتِ ؟ وما سبب تلك السعادة التى أراها ترقص بين ملامح وجهك ، إحتضنته قائلة:

-سوف يكون لدينا عُرسين يا "سليم"، عرسك الأسبوع القادم ، وعرسي الليلة ، ضرب يومها مقدمة رأسه بكفه وهو يضحك قائلا:

-هل عاد "زين" ؟ أومأت له برأسي قائلة:

-نعم عاد وسوف يحضروا الليلة إلى هنا ، يطلبون يدي من أبي ، أقترب مني يقبل رأسي قائلا:

-أسأل الله حبيبتى أن يسعد قلبك ، لكن هناك مشكلة ، سوف يأخذ "زين" أمي وأختي مني ، تنهدت وأنا أدفعه ناحية الباب قائلة:

-لن يأخذني أحد منك ، أذهب الأن إلى عروسك وأنهي ترتيبات زفافك ، سوف يكون أجمل وأكبر زفاف بالبلد ، تركني وخرج وأنا صعدت إلى غرفتي أتهيئ لمناسبة الليلة، لبست أجمل ما لدي ، تزينت كى أليق بهم ، حضروا جميعا ، أنهوا أتفاقهم مع أبي ، بأن خطبتي على "زين" ، سوف تكون الأسبوع القادم مع عرس "سليم" ، نهضوا مغادرين وأنا لا أكاد أصدق ما حدث ، رأيت نظرة بعيني جدتك لم أنساها حتى يومنا هذا؟ كانت نظرة قُبض لها قلبي ، قرأت بها شئ يخبرني أن ما حدث الأن لن يكتمل للنهاية ، نفضت عقلي من هذا الهاجس ، تناسيته كي لا أفسد فرحتي ، سقط الأسبوع سريعا وجاء اليوم المنتظر، إلتف حولى الفتيات من المنشية ، يضعون لي مساحيق التجميع ، يغنون ويصفقون ، كان البيت مزدحم  بالأهل والمعارف والأصدقاء ، الجميع يساعد ويبارك ، فجأة سمعنا صوت جلبة وأصوات كثيرة متداخلة ، الصوت الوحيد الذى  إستطعت أن أميزه هو صوت "البدر" ، ما زلت أسمعه ، ما زال يقطع نياط قلبي وهو يصرخ وينادي على "سليم" فرقت بيدي من كانوا حولي من الفتيات ، نزلت الدرج وأنا أنكفئ على وجهي ، وصلت للحديقة لأجد "سليم" ملفوف بعباءة مميزة ووحيدة بالمنشية ، لا يمتلكها غير "زين" ، كانت بقع دم قلب أخي تزينها ، كما كان يزين حياتي ، جثوت على ركبتي ، لا أتحدث ، لا أبكي ولا أضحك ، حتى النفس ذاته ، شعرت أنه توقف بي ، ضممته إلى صدري كما كنت أضمه وهو طفل صغير ، وكما كنت أضمه وهو صبي وشاب يافع ، ضممته لكنها كانت ضمة مختلفة ، ضمة تخبرني أنها الأخيرة ، ماتت يدي عليه ، أعلم أنه لن يعود ولن أمتلك القدرة على ملامسته مرة أخرى ، أعلم أنني لن أشتم ريحه  بعد اليوم ، وأنه ذاهب فى  سفر لا عودة منه ، كل ما  كنت أريده ،أن يخبرني أحد كيف سوف أتحمل هذا ؟ كنت كطفلة صغيرة لا تعي أي شئ وتريد أن يضمها أحد ، يخفيها بداخله عن كل شئ ، مال فوقي  الجميع يأخذونه مني ، وقتها فقط خرج صوتي ، صرخة عالية مزقت ضلوعي وهى تخرج وأنا أناديه "سليم"، إلى أين تأخذونه مني ، انتظروا أنها ليلة عرسه ، "سليم" أخبرهم أن يتركونا وشأننا ، دعوه معي ، أنه عريس وعروسة تنتظره ، أنهض يا "سليم" ألم تعاهدني أن تبقي معي ؟ أخذوه مني عنوة ، رفعت عيني إليه أودعه ، رأيت عباءة "زين" ، أختلط كحل فرحي بدموع حزني ، وأنا أُهزي كمجنون قائلة:

-"زين" كيف ؟ أين أنت لقد قتلوا "سليم" وتركوا ثأره معلق برقبتك وأنت برئ منه.

                               "الفصل السادس والثلاثون"

                                      " خوف وحيرة"

حينما تثقل علينا مواجعنا فأن الشفاء قريب ، كلما صعبت الأشياء كان اليسر يعقبها ، تمتلأ السحب فتسقط الغيث الذى يُحيي الأرض ، كلما تزاحمت المشاعر بداخلنا ننفجر ، ننطق ، نبوح ، حتى وإن كان هذيان لا معنى له ، دوما تظهر الأشياء من تلقاء نفسها إذا كبر الإصرار داخلنا بأن نعرفها ، وعلينا وقتها أن نكون شجعان لأن نواجهها ، لأن نقف أمامها  نتحملها مهما كانت قاسية.

لم تكد "قمر" تنهي حديثها ، حتى أخذ "ريان" ينظر إليها ، فى بلاهة دون كلام ، حاول أكثر من مرة أن ينطق ، أن يخبرها بمدى وجع ما روته ، كان يود أن يضمها إليه معتذر لها عن كل ما قالته، لكنه لم يستطع أن يفعل شئ من كل ما تمناه ، أقتربت منه "قمر" وهى تمسح عن وجهها ماء المطر ، هزته برفق قائلة:

-ماذا بك ؟ هل أوجعك كلامي ؟ أم أنك لا تصدق ما أخبرتك به ؟ عض "ريان" شفتيه بغيظ شديد قائلا:

-أصدقك فى كل ما نطقتِ به ، كيف لا أصدقك وأنت أمي بالتبني والروح ؟ أنا فقط لا أستطيع إستيعاب ما سمعت، لكن هناك شئ أوقفني، لا أملك تفسيره، نظرت إليه نظرة أستفسار دون كلام ، مسح وجهه هو يزفر بشدة قائلا:

-عباءة أبي ، من أستطاع أن يسرقها دون علمه ويقوم بقتل "سليم"؟! يلف جسده فيها كى يقنع الجميع أن لبيت أبو القاسم علاقة بما حدث، من فعل هذا كمن ألقي شرارة نار فى هشيم ، وتركها تأكل كل ما تصل إليه ،تاركا للجميع التخمين، يخمن كل شخص على هواه من فعل هذا ؟ لكن من الطبيعي أن الجميع سيقول أن "زين أبو القاسم" هو من فعلها ، وكل هذا  له هدف واحد ، وهو أن يقطع علاقتك بأبي، وينهي زوجك منه قبل أن يبدأ، وتبقي  تلك العداوة قائمة للأبد ، ويظل الدم يجري بأرض وقلوب المنشية ، يا الله ما هذا التفكير الشيطاني ، من فعل ذلك مجرم محترف ، لكن من هو؟!من يستطع أن يدخل بيت أبو القاسم خلسة ويأخذ شئ هام من غرفة أبي ؟! "قمر" لم يكن هدف الجاني أنتِ فقط ، بل كان يقصد أبي  قبلك ، تعجبت "قمر" من كلامه قائلة:

-لأول مرة أري شئ بوضوح،  وكأنك جئت تمحوا عن عيني غشاوة  إستمرت زمن طويل ، "ريان" صدقني رغم كل ما حدث ومرارته التى ما زالت عالقة بحلقي ، ألا أننى لم ولن أصدق أن "زين" هو من فعل هذا وقتل "سليم" ، أنا أعرفه جيدا أكثر من معرفتي بنفسي ، لم أشك به ولو لحظة ، لكن كيف أملك أن  أقنع من حولي بهذا ؟ وجسد أخي جائني ملفوف بعبائته ، كل ما إستطعت فعله ، هو أن  أبتعد عنه ، أن أترك له حياته فارغة مني ، لأن هناك شئ أخر لم تستطع أن تلحظه ، القاتل أحب أن يضرب عصفورين بحجر واحد ، يقتل "سليم" ، ويرسله بعباءة "زين" كى يوصل لي رسالة ، أن القتيل القادم سوف يكون "زين" ، جحظت عيني "ريان" وهو يستمع إلى "قمر" قائلا:

-لهذه الدرجة يكره الفاعل أبي ، ويريد أن يقضي عليه من كل ناحية ؟  تنهدت "قمر" شاردة فى الفضاء أمامها قائلة:

-لا أحد يعرف إن كان ما يزال حيا ؟ أم  أنه مات ؟ ووقف بين يدي ربه يحاسب على الدم العالق بأصابعه ، لقد مر عشرون عاما على تلك الجريمة ، ولا أظن من فعلها ما  زال حيا ، فلتت ضحكة ساخرة من بين شفتيه قائلا:

-من الواضح أننا نحن من متنا منذ زمن ، دون أن ندري ، "قمر" القاتل ما زال حيا ، لقد رأيته ليلة الأمس ، ضربت فوق صدرها فى ذعر قائلة:

-ماذا تقول يا "ريان" ؟! رأيت من؟! كيف وأين؟ ومن أدراك أنه هو؟ وكيف نجوت منه؟ هز لها رأسه قائلا:

-نعم يا "قمر" رأيته يقف مع جدتي ، ليلة الأمس بحديقة البيت ، يرتدي تلك العباءة التى تحكون عنها ، لفتت نظري حينما رأيتها ، تطريزها مميز لم أره من قبل ، لم أهتم بمن يرتديها قدر إهتمامى بها ، لم  أكن أعلم أن خلفها قصة كبيرة، لم أكن أعرف أن سؤالي عنها اليوم سوف يجعل ريح عاتية  تقتلعني من جذوري ، لقد رأيت من قتل "سليم" وقتلك وقتل أبي ، أخذت تضرب فوق رأسها قائلة:

-قاتل أخي حي يرزق ، يتنفس ويأكل ويشرب ، وأخى يواريه التراب ، وأنا قُتلت منذ زمن ، قاتل أخى مع جدتك "أمنة" ؟! ما علاقته بها ؟ يا الله ، هل لها يد بما حدث؟ هل من الممكن أن تكون هى من دبرت كل ما حدث ، لتجعلني أترك "زين" ، وتبعده عني ؟ لا لا ، لا أستطع أن أستوعب شئ مما قلته ، أقترب منها يمسك ذراعيها قائلا:

-إهدئي ، هذا الوقت لا يتحمل هذا الإنفعال ؟ ولا تلك الثورة، جميعنا نقع تحت سكين هذا القاتل ، هو يعيش معنا دون أن ندري ، اهدئي  و دعينا نفكر بهدوء ، من يستطع أن يقتل ويلقي التهمة على أبن كبير المنشية ؟ لأنه يعلم أنكم لن تتهمونه بشئ لسطوة عائلته ، أنت أعلم بأهل بلدتك عني ، أنا أحيا هنا منذ أيام فقط ، فكري يا "قمر" ، فكري بهدوء ، لكن لا تخبري أحد مهما كان بما أخبرتك به ، فهناك قتيل بالأمس جديد، أشعر أن "أسماعيل" وقتله فجأة ، له علاقة بقتل "سليم" ، أشعر أن هناك خيط رفيع يربط بين الجريمتين ، علينا أن نحافظ على هذا الخيط ، لم يكن ينهي كلمته تلك حتى سمع صوت "البدر" قائلا:

-أنتهي المطر، وسوف تصفوا السماء ، وكما أنتهي حتما سينتهي ما نحن فيه ، "ريان" أنت على حق ، فيما قلت، أزاحت "قمر" "ريان" بيديها برفق من أمامها ، ناظرة إلى "البدر" قائلة:

-أنت الأخر تعلم وتخفي عني يا "بدر" ؟ مؤكد أنك تعلم من هو، أنت تعلم ما بداخل القلوب المغلقة أخبرني من هو ؟ خطى  خطوتين مبتعد عنها قائلا:

-أحيانا الجهل رحمة، لا يجب أن نرفع الغطاء عن الحقيقة مرة واحدة ، كى لا نُكسر ويصيبنا الذعر لما سوف نراه ، نعم يا "قمر" أعلم من القاتل ؟ أعلم لم فعل هذا؟ لكن لم يحن الوقت بعد كي أخبرك من هو

؟ والأن هيا بنا نمضي من هنا ، وأنت يا "ريان" عليك أن تعود للبيت ، "زين" قلق عليك ومن الممكن أن يحضر هنا فى أى وقت ، هو دائما ما يقصد هنا ، حينما يحتار فى شئ ، وكما قلت لا تخبر أحد بما رأيته ، أو عرفته ، غدا سيكشف كل شئ ، باتت الحقيقة أقرب اليكما وللجميع من أنفاسكم ، هيا الأن من هنا ، سار ثلاثتهم يتقدمهم "البدر" ، حتى وصلوا للطريق ، ودعتهم "قمر" تخفي وجهها تحت وشاحها ، ماضية فى طريقها ، ووقف "ريان" ينظر إلى "البدر" نظرة فهم مغزاها ضحك قائلا:

-إن أخبرتك من هو؟! لن يكون هناك فارس للحكاية ، وكما كان "زين" فارسا من قبل ، سوف يكون أبنه شريكا معه الأن ، لا تترك مكانك بمعرفتك للحقيقة دون تعب ، كل ما أريد أخبارك به أن القمر سيكتمل قريبا .

                                   "الفصل السابع والثلاثون"

                                           "مواجهة "

للحقيقة وجه واحد، للحقيقة لسان صدق مبين ، لا يخشي الا الله ، حينما يتوجب علينا الكلام ، نجد أنفسنا نطلق العنان للكلمات التى ظلت حبيسة ، حينما نري الظلم أمامنا ، لا نجد سبيل غير أن نواجه ونقول ما أخفيناه ، هناك لحظة لا نجد أمامنا خيارين ، بل نجد أنفسنا وجه لوجه أمام خيار واحد وهو أن ننسي الخوف ونواجه.

عاد "ريان" إلى البيت ، وجد "زين" ينتظره بقلق بادي على وجهه قائلا:

-أين ذهبت كل هذا الوقت ؟ ولم تأخرت؟ نهشني الخوف عليك، وأنا لا أعرف أين ذهبت ، أعلم أنه لا يوجد لديك معارف هنا ، كي أشعر أنك بأمان معهم ، أبتسم له "ريان" أبتسامة مختلطة بكلام كثيرة ، شعر به "زين" ، لكنه لم يفهمها قائلا:

-من قال أنني هنا دون معارف يا أبي؟ لي هنا من الأحبة ما يكفيني ، ويغنيني عن من حولى ، لا تخف علي حينما أغيب، أذهب إليهم ، أتحدث معهم ، أخرج ما داخلى من زحام الأحداث ، تعجب زين من قوله ، أمسك بيديه يجلسان سويا قائلا:

-معارف من لك هنا ؟ أنت لا تعرف سوي عمك "حمزة" وجدك "أمين" ، تطلع إليه دون كلام ، نظر إلى عينيه يري مكان "قمر"، هل ما زال كما هو ؟ أم أن الزمن  إستطاع أن يطمسه ؟ ضيق "زين" عينيه مستفهما بنظرة صامتة ، أن هات ما عندك ، تنهد "ريان" قائلا:

-معارفي هنا يا أبي ، ليسوا معارف فقط ، بل تربطني بهم صلة دم ، وشعور رباني لا دخل لي به معارفي لا خوف منهم علي ، أنها "قمر" يا أبي ، أنتفض "زين" فى مكانه ، أشتعل وأنطفأ  فى وقت واحد، شهق شهقة حياة قائلا بصوت يتردد بداخله قبل أن يخرج للفضاء:

-من ؟ تقول من؟ هل صارت بينكما معرفة ؟ هل تراها وتحدثها ؟ أخبرني كيف هي ؟ هل أخبرتك أنها ما زالت كما كانت تحبني ؟ هل تراها تحقد علي وتكرهني ؟ أم أن الزمن لم يستطع أن يغلبها؟

لو علمت ما صنعته بي الأن يا "ريان" ؟! لقد ضربتني بقلبي ضربة جعلته يترنح ، لم هي بالذات من تركت منشية أبو القاسم بأكملها وعرفتها؟ تريد أن تشعل حريق بداخلى من جديد ؟ لا تعذب حالك فى صنع هذا ، الحريق ما يزال بداخلي منذ عشرون عاما لم ينطفئ بعد ، أقترب منه "ريان" يقبل رأسه قائلا:

-سامحني يا أبي ، ليس بيدي ، لم أرتب لهذا الأمر، لم أسعي إليه ، لكنه قلبي هو من تعلق بها كأمي حقا ، أشعر أن هناك حبل سري يربطني بها ،كل شئ صار بقدر دون تدخل من أحدنا ، كنت أبحث عن أم ، دون أن أعرف أنها بجواري وهي من أختارت لي أسمي قبل أن أصبح مضغة ، وهي الأخري كانت تبحث عن ولد لها أخذوه منها عنوة ، دون أن ترتكب ذنب ، غير أنها حلمت به ورسمت ملامحه وأختارت له  إسم ، لا تغضب مني يا أبي ، صدقا لم يكن بيدي شئ  أفعله ، أخذه "زين" بين ذراعيه يضمه قائلا:

-أتركني فقط أضمك إلى صدري ، عل  شئ  منها علق بك دون أن تدري ، فأحسه وأضمها معك ، اتركني  فقط أشتم ملابسك  مؤكد  أن عليها أثر من عطرها ، أنا لست غاضبا منك يا "ريان" ، إن كنت غاضبا حقا ، فأنا غاضبا من نفسي ، لأنني حرمتك منها وهي أولي بك مني أنا نفسي ، ضمه هو الأخر بشدة ، شعر به وبما يعانيه من ألم فراقه لها ، ترك حضنه قائلا :

-أبي لقد علمت كل شئ ، فغر فم "زين" مندهشا قائلا:

-عرفت ماذا؟ ومن أخبرك ؟ ربت "ريان" على يد أبيه قائلا:

-لا تخف هكذا، عرفت كل ما كان ، من أول قصة حبك أنت و"قمر" ، حتى مقتل "سليم" ، كم تمنيت أن  أعرف منك أنت وليس منها ، خشيت علي  أعلم هذا ، لكن أبنك كبر وصار رجل ، نظر إليه "زين" نظرة طويلة ، عائد بعينيه إلى الأرض ، كمن أستسلم لشئ وقع وقُضي الأمر ، لم يتحدث أو ينطق بكلمة، وكأن كلمات "ريان" أعادته لنفس الأحداث من جديد ، أراد الأخير أن يكمل الأحداث دفعة واحدة قائلا:

-كما علمت أيضا ، أن قاتل "سليم" هو نفسه قاتل "أسماعيل" ، وأنه ما زال يحيا وسطنا ويضحك علينا ملء فمه ، نهض "زين" واقفا يحدق به مذعور قائلا:

-ماذا تقول ؟ ومن أخبرك هذا ؟ ومن هو هذا المجرم ؟ عقد "ريان" يديه تحت ذقنه قائلا:

-من هو ؟ هذا ما سوف أعرفه ؟ لكن كيف عرفت؟ لا يهم هذا الآن ، عندما أصل إليه سوف أخبرك كل شئ ، هم "زين" أن يتحدث لولا أن أوقفه صوت أمه قائلة:

-أين كنت كل هذا الوقت يا "ريان" ؟ المنشية ليست أمان ، لا تخرج ثانية بمفردك ، رفع حاجب عينيه ينظر إليها قائلا:

-لا تخشي شئ علي ، الجميع هنا يعلم من أنا وأبن من ؟!  لا يعقل أن تكون جدتي هي "آمنة" ويلمسني أحد بسوء ، فهذا البيت بيت كرام ، لا تطأه قدم مجرم أو قاطع طريق ، أو حتى سارق عباءة ، ضغطت فوق أسنانها تكتم غيظ أشتعل من كلماته ، وما يرمي إليه ، رمقهم "زين" بنظرة بها شك ، من أن هناك شئ يحدث بينهما هو لا يعرفه ، أبتسمت "آمنة" محاولة أن تخفي توترها قائلة:

-سوف أُحضر طعام العشاء ، وأنت يا "زين" أذهب كي تصلي العشاء ، وتأتي بخالك معك ، وضع الأخير يديه بجيب جلبابه بعصبية واضحة ، تارك المكان دون كلام ، أقتربت "آمنة" من "ريان" الذي  فهم ما تسعي إليه قائلة:

-لم أنت مُصر أن هناك شخص كان معي بحديقة البيت ، يرتدي نفس عباءة أبيك التى سرقت منذ زمن ، ضرب "ريان" جبهته بكفه قائلا بتهكم:

-تقصدين أن لا جريمة قتل وقعت هنا ، منذ  عشرون عاما ، قُتل بها شاب كالورد ليلة عرسه يدعي "سليم" ؟ أم أنكِ تقصدين أن القاتل لم يرسله لأهله ملفوف بعباءة أبي ، كي يبرهن للجميع وخاصة "قمر" أنه هو من قتل أخيها ؟! أم تراك تقصدين أن المجرم هو شخص غير الذى كان يتحدث إليكِ بمنتصف ليلة أمس؟! أي قصد فى كل هؤلاء يا جدتي تقصدين ؟ ضربت فوق صدرها بعنف ، كمن لدغه عقرب قائلة:

-من أين عرفت كل هذا ؟من أخبرك تلك الأكاذيب ؟! لا يوجد غيره هذا المجذوب الملعون "البدر" ، لكن وقته أظن قد حان ، ضحك "ريان" ضحكة عالية تعجبت لها "آمنة" قائلا:

-حان وقته ؟! كما حان وقت "آسماعيل" ؟! ومن قبله "سليم" ؟! لعنت نفسها فى صمت ، نسيت نفديك ونطقت بما يؤكد له ، كل ما يخمنه ، حاولت أن تتدارك ما قالته ، أقتربت منه محاولة أن تلطف ما نشب بينهما فجأة قائلة :

- ماذا حدث لك يا حفيدي الوحيد ؟ هل تصدق أن جدتك ، من الممكن أن تشترك فى جرائم قتل كتلك؟! أخذت تبكي بكاء لم يهتز له جفن "ريان" ، لم يصدقه أحساسه الذى كان يعتمد عليه فى كل شئ ، زفر بضيق شديد قائلا:

-وأيضا لا أصدق ما رأيت ؟! توقف عن الكلام حينما دخل "أمين" قائلا:

-السلام عليكم ، مالي أراكما تقفون متجهمين هكذا؟! ماذا حدث يبكيكِ يا "آمنة" ؟! هل أغضبك "ريان" فى شئ ؟! رمقها الأخير بنظرة حادة ، تاركا المكان صاعدا إلى غرفته ، وقف "أمين" يتابعه بنظره حتى غاب ، أقترب منها قائلا:

-ماذا حدث ؟ أشعر أن هناك ثمة خطب ما ، هل عرف "ريان" شئ ؟! سمع الأخير ما قاله "أمين" ، أنتبه فجأة لما قاله "أمين" ، أقترب من الباب ، فتحه ووقف خلفه يستمع إليهما ، أخذت "آمنة" تضرب الحائط بيديها قائلة:

-من الواضح أن أحدهم أخبره بقتل "سليم" ، والقصة القديمة ، هو يربط بين مقتله ، وبين مقتل "أسماعيل" ، فزع "أمين" حينما سمع أسم "أسماعيل" قائلا:

-"آمنة" هل تلوثت يداه  بدم "أسماعيل"  أيضا ؟! أخبريني ماذا فعلتِ ؟! نظرت إليه نظرة خاطفة ، هاربة بعينيها فى الفضاء ، يدفع "أمين" بمقعد أمامه إلى الأرض قائلا بغضب شديد، برزت له عروق رقبته قائلا:

-لم يا "آمنة" ؟ لم ؟ هل أعجبك طعم الدم ؟ لم "أسماعيل" أيضا؟ ماذا فعل لكِ ؟ ألم يكفيك "سليم" وما فعلتيه به ؟! ألم يكفيك العداوة التي  زرعتِ  بذورها فى قلب الجميع ؟! وما فعلتيه "بقمر" و"زين" ؟! أخبريني من هو الشيطان الذي  اشتريته  لنفسك ؟! كى ينفذ لك ما تريدين ، أخبريني هل شبعتِ ؟! أم ما زال هناك دم تشيهين إليه ؟! يا الله  أرفع تلك اللعنة عنا ، أقترب منها يمسك ذراعيها بقوة  جعلتها تتألم لكن دون صوت قائلا:

-إن ثبت لي أنك وراء قتل "أسماعيل" يا "آمنة" ، لن أرحمك وسوف أخبر "زين" بكل شئ ، سوف أسلمك بيدي تلك للمحاكمة ، يكفي صمتي طيلة هذه السنوات ، أردت أن أدفن ما حدث بلا رجعة ، لكن من الواضح أن كل ما فعلته كان دون جدوى ، لن أدخل بيتك مرة أخرى ، ألا إذا كفرتِ عن ذنبك ، الذى لا أعرف كيف يغفره  الله لأنه دم ، تركها مغادر البيت ، أغلق "ريان" الباب بهدوء ، كى لا ينتبه أحد إليه ، سقطت الساعات سريعا  ، إنتصف الليل ، عاد "زين" واستسلم لنوم عميق ، أغلقت "آمنة" على نفسها باب غرفتها ، وقف "ريان" داخل شرفة حجرته يفكر فى أحداث اليوم وما حمله من مفاجأت، هبت ريح باردة فجأة ، جعلته يرتجف ، أحتضن نفسه بيديه، هم أن يدلف لداخل حجرتاألا  أنه رأي  نفس الشبح ، يرتدي نفس العباءة ، شهق وهو يختبئ خلف الزجاج محتمي بالظلام، حاول أن يري شئ من ملامحه ، أو حتى يسمع صوته ، دقائق ورأي شبح جدته يقترب ، وقفت تتحدث إلى سارق العباءة حديث سريع ، شعر منه "ريان" أن شئ ما سوف يقع ، تناول سريعا وشاح صوفى لفه حول عنقه ، هبط الدرج بحذر ، كي لا يسمعه أبيه ، أو تشعر به جدته ، أختفي خلف مقعد كبير حتى رأي "آمنة" تعود إلى غرفتها ، خرج سريعا من البيت ، يحاول أن يلحق بأثر الشبح الذى تأكد أنه هو القاتل ، رأه  يسير على بعض خطوات منه ، وقف فجأة يشعل سيجارة ، نظر خلفه ينظر ليري من يتتبعه ، أحتمي "ريان" بشجرة كبيرة على جانب الطريق ، شعر حينما وقف أنه سوف ينظر خلفه ، رأي لمعة عينيه ، فى نار عود الثقاب وهو يشعله ، رأي بسوادهما كره وغلظة وحقد ، أخر "ريان" خطواته قليلا يستجمع شجاعته ، كاد أن يضعف ، أن تخونه قوته من شدة البرد ، ألا أنه أغمض عينيه يطلب من الله العون ، أكمل الطريق خلفه ، سمع صوت يئن على جانبي الطريق ، أخذ يقترب بحذر يتبين من هذا الملقي على من ، عرفه من ملابسه ، أنه "البدر" ، جري إليه يرفعه عن الأرض ، رأي وجهه مخضب بدماء أخفت ملامحه ، أخذ يهزه برفق قائلا:

-ماذا حدث لك؟ من فعل بك هذا ؟ أخبرني هل أنت بخير ؟ حاول أن يجيبه ألا أنه رأي جحوظ عينيه فجأة ولم يشعر بشئ بعدها ، ألا بألم شديد فى مؤخرة رأسه ، أثر ضربة قوية ، فقد على أثرها الوعي.

                                      "الفصل الثامن والثلاثون"

                                        " طعنة "

الكتف التى تقف بجوار كتفك ، تساندك كي لا تسقط ، هى  التى تستحق أن تتشبث بها ، لا تتركها أبدا ، الكتف الذى يجاور كتفك ، وقت تعبك دون غيره ، تأكد أنه سوف يحملك ، مهما أشبعتك الحياة ضربا بسياطها ، وقت شدتك تتضح لك عمق المحبة ، يظهر زيف المشاعر وحقيقتها ، وقتها تعلم حقا من بينك وبينه وتد صلب لا يهتز ، مهما مر عليه من أزمات ، تري بعينيك الوجوه كما هى دون أقنعة ، تري القلوب من داخلها ومدى نقائها وخبثها ، الشدة معروف ُترينا من هم حسن إختيارنا ومن هم حسالته ، مهما أختلفنا وابتعدنا وأقسمنا ، أن ما بيننا قد لم تلابيبه ورحل ، نكتشف فى النهاية أن هناك حذور تربط بيننا ، تجبرنا أن نعود من جديد ، لأن فراقنا يقطع جذورنا ، وإن قُطعنا منها نموت.

أختفى ضوء القمر من عيني "البدر" ، فقد الوعى ،  أثر الضربة ، لم يشعر بشئ آلا مع شروق أول شعاع للنهار ، سقطت على وجهه قطرات الندى ، تخبره أن ينهض ، أن يبحث عن "ريان" ، قاوم وجع جسده ، نهض متحاملا على نفسه ، أخذ ينظر حوله يري أين هو ؟ تذكر كل شئ ، تذكر من أشبعه ضربا بالأمس وكاد أن يزهق روحه ، تذكر ذلك الشبح الملثم ، الذى عرفه من نظرة عينيه ، وضع يديه فجأة عن رأسه صارخا قائلا:

-"ريان" أين ذهب ؟ وماذا فعل به هذا القاتل ؟ لقد رأيته وهو يحاول أن ينهضني من الأرض ، نعم لقد تذكرت أنه وقع مغشيا عليه ، أثر ضربة من هذا القاتل على رأسه ، يا الله أحفظه ، أنه برئ لا يعرف شئ ، كان يساعدني ، ماذا عساي أن  أفعل الآن ؟ هل أذهب إلى "زين" أخبره بما حدث ، كى يبحث عنه ؟ لا لن أذهب إليه ، سوف أذهب إلى من أحبته قبل أن تراه ، وتمتلك قلب قوي ، سوف أذهب حيث "قمر" ، نهض يجر قدميه ، يستند إلى عصاه ، وصل إلى بيتها ، وقف يدق الباب بعصاه وهو يلهث ، فتحت "قمر" عينيها فزعة ، تنظر حولها ، تزيح شعرها عن عينيها قائلة وهى تضع يديها فوق قلبها ، الذى أخذ يدق بشدة ، فقد شعرت بأن هناك خطب ما حدث ، ألقت غطائها عنها قائلة:

-ماذا حدث ؟ من يأتي فى مثل هذا الوقت الباكر ، أخاف من تلك الطرقات ، التى تخبرني أن  هناك مكروه خلفها ، نظرت من خلف زجاج نافذتها ، رأت "البدر" فى تلك الهيئة ، التى أخبرتها بأن حدسها صحيح ، بحثت عن وشاح رأسها سريعا ، ألتقطه من فوق أحد المقاعد ، وضعته فوق رأسها ، قاصدة باب البيت ، نزلت الدرج بحذر كى لا يشعر بها أحد ، خرجت إلى الحديقة تفتح الباب ، ، أمسكته من يديه تساعده على السير ، دلفت معه للداخل ، تجلسه تحت  أحد الأشجار قائلة بلهفة:

-ماذا حدث لك ؟ من فعل بك هذا يا "بدر" ؟ ، أغمض عينيه يلملم نفسه ، بحثت حولها عن ماء ، وجدت على المنضدة كوب ممتلأ ، جرت إليه تتناوله ، قربته من فمه تروي عطشه ، شرب قائلا:

-لا يهم الأن ماذا حدث لي ؟ ولن يجدي من فعل بي هذا ؟ فأنا  أعرفه وسوف أنهي حسابي معه قريبا ، لقد أقترب وقت الحساب ، المهم الأن هو "ريان" ، ضربت فوق صدرها بيديها قائلة:

-ماله "ريان" ؟ ماذا حدث له ؟ أخبرني أين هو؟ ضرب الأرض بغضب شديد قائلا:

-من قتل "سليم" وقتل "أسماعيل" ، ضربه على رأسه بالأمس ، حينما أراد أن يقتلني ، وجاء "ريان" يخلصني من يديه ، إن حدث له مكروه لن أرحم أحد من أهل المنشية بأكملها ، لأنهم شياطين خرس ، الأن أتركي كل هذا الهراء جانبا ، علينا أن نجده ، قبل أن يقتله هذا القاتل ، أمسكته "قمر" من تلابيب ملابسه قائلة وهى تهزه:

-أعرف أنك تعلم من هو القاتل ، كما أعلم أنه هو من خطف أبن عمري وأبن قلبي ، إن لم تخبرني الأن بأسمه لن أسامحك طيلة عمري ، لقد مات "سليم" وأنتهي الأمر ، مات وترك لي غصة فى حلقى ، وجرح بقلبي لن يندمل مهما حدث ، لكن "ريان" ما زال هنا ، ما زال حي ، لقد أعاد لي الأمل من جديد ، أحيا قلبي وأحياني من جديد ، أتوسل إليك أن تخبرني من هو ؟ تخلص من يديها واقفا مبتعدا عنها قائلا:

-أتركي لي هذا الأمر الأن ، كل ما عليك فعله أن تصلي إلى "زين" تخبرينه بكل ما حدث ، يجب أن يعلم ويفعل شئ ، ضغطت "قمر" أسنانها بشدة قائلة:

-مهما كلفني الأمر لن  أترك "ريان"، حتى ولو كلفني باقى ما أمتلك من عمر، جرت داخل البيت ، أرتدت عباءة سوداء فضفاضة، ربطت رأسها بوشاح أسود زادها بهاء، خطت عينيها بكحل أسود ، لتظهر كعيني قط غاضب ، وكأنها أرادت أن تخيف بهما من يراها .

أنتهى "زين" من صلاته ، قاصدا البهو الواسع كى يلتقي بأمه وولده وخاله ككل صباح ، هبط الدرج ، وجد "آمنة" تضع أطباق الأفطار، رأى خاله جالسا يقرأ بالمصحف ، بحث بعينيه عن "ريان" لم يجده ، أبتسم ملقي عليهم تحية الصباح قائلا:

-صباح الخير، أراكما ككل صباح تتمتعان بنشاط  أكثر مني ، ضحك "أمين" قائلا:

-الكبار بالسن مثلنا هكذا ، أنت ما تزال شباب ، نظرت إليه "أمنة" قائلة وهى تضع كوب ماء فوق المنضدة:

-"زين" سيبقي طيلة عمره شباب ، أنسيت أنه أبن "أمنة" سيدة منشية أبو القاسم ، ضرب "أمين" كفا بكف قائلا:

-ستبقين كما أنت يا أبنة أبي ، لا تنسين من أنتِ ، أشارت بيديها إليهما قائلا:

-يكفي الحديث الأن ، هيا للأفطار ، هم "زين" أن يجلس إلى المنضدة بعد أن جلس خاله ، لكنه أمسك المقعد بيديه قائلا:

-أين "ريان" ؟ أنني لم أراه منذ ليلة الأمس ؟! ليست عادته أن ينام لتلك الساعة ، مدت "أمنة" يديها تتناول قطعة خبز قائلة:

-لقد تعلم السهر منذ وطأت قدميه المنشية ، أشعر أنه مشغول بأمر ، وربما مشغول بأحد ، قالتها وهى ترمق "زين" بنظرة فهمها ، زفر بضيق شديد ، فهى لا تمل من التلميح لهذا الأمر فى كل مناسبة ، هم "زين" أن يرد عليها ، لولا أن سمع صوت قوى وثابت يأتي من خلفه ألجمه قائلا:

-تعلم "ريان" السهر منذ أن حضر إلى هنا ، لكن حمد لله أنه لم يتعلم القسوة ، ألتفت "زين" خلفه بلهفة خطفت قلبه ، فهو يعرف صوتها ، كما يعرف نفسه جيدا ، نهض "أمين" ينظر إليها متعجبا ، جحظت عين "أمنة" ، أستندت إلى يديها فوق المنضدة تنهض قائلة:

-من؟ خطت ناحيتها وعلى ثغرها ابتسامة تحمل كل مشاعر الدنيا فى آن واحد ، وقفت لحظة أمام "زين" تتطلع إليه ، وهو الأخر ظل شاخصا ناحيتها كأنه لا يصدق أنها أمامه فى بيته ، وقفت أمام "آمنة" قائلة:

-"قمر" تُراكِ نسيتِ من أنا ؟ أنا "قمر" ، هل تغيرت كثيرا لتلك الدرجة ؟ أم أنكِ لم تتوقعي أن ترين هنا ، فى حصن أبو القاسم ، ذلك البرج العاجي الذى  يعامل البشر وكأنهم جميعا عبيد عنده ، هيا أنظري إلي جيدا ، هل تذكرتي ؟! أم أن ذنبك جعل على عينيك غشاوة ، كما طمس على قلبك ،  حاول "زين" أن يقترب منها ، أن يمسك ذراعها كي لا يحتد نقاش حاول أن ينهيه قبل أن يبدأ منذ عشرون عاما ، لكنها كانت أسرع منه أكملت قائلة:

-أخبريني ماذا حصدتِ من كل ما فعلتيه؟! هل أخذتِ شئ زائد فوق رزقك؟! هل ضمنتِ الجنة؟! أم أنك علمت الآن أنك لن تطأها  قدميك؟! لأن هناك دم عالق برقبتك ، هنا لم تستطع "آمنة" أن تصمت، وكأن "قمر" أمسكت بسكين تفتح به جرح حي ، ضربت بيديها كوب الماء الذى أمامها ، حتى تناثر قطع  صغير على الأرض قائلة:

-ماذا تقولين أيتها البلهاء ؟! دم من الذى تتحدثين عنه ؟! ومن سمح لك أن تدخلي هذا البيت ؟! ضحكت "قمر" بصوت مرتفع ، تضرب كفا بكف قائلة:

-بيت من هذا الذي ترينه قصر ؟! لا يجب أن يدخله غير الكاذبين القاتلين ، أفيقي مما أنت فيه ، هذا البيت بجدرانه دماء  أبرياء ، ألا تسمعين صوت "سليم" هنا كل ليلة ؟! ألا ترين ذنبي فوق طاولتك وأنت تتناولين طعامك ؟! كيف تمتلكين كل هذا الجمود وتلك القسوة؟!  إستمعي إلي جيدا وانسي غرورك الأجوف، الذي لا أراه غير حماقة وغباء ، أنا لا يليق بي التواجد هنا ، ما ترينه أنتِ قصر عالى الأسوار ، أراه أنا سجن وأنتِ سجانه ، استغرب "أمين" مما يراه ويسمعه ، تأكد أن هناك كارثة وراء حضور "قمر" ، أمسكها "زين" من ذراعيها يجذبها إليه ، يحاول أن يجعلها تهدأ قائلا:

"قمر" أنظري إلي ، إهدائي وأخبريني ماذا بكِ ؟ ماذا حدث جعلك تأتين إلى هنا وأنت لم تدخلى بيتي منذ سبعة عشرون عاما ، شعر بقشعريرة ذراعيها تحت يديه ، أغمض عينيه وكأنه شعر بما تشعر به ، فتح عينيه رغما عنه ، ينظر إلي عينيها ، رأي بهما نفسه وكأنه لم يبرحهم طيلة تلك السنوات ، رأي حبها له الذى أرهقها  إخفائه عن الجميع ، رأي خوف وعتاب ولهفة ممزوجين بكبرياء يحاول أن يبقي كما هو ، صرخت "أمنة" قائلة:

-تسألها ماذا بها ؟ بدلا من أن تُلقي بها خارج البيت ، بعد ما قالته لأمك ، أقتربت منها تحاول أن تمسك بها ، أخفاها "زين" خلف ظهره ، ممسك بأمه قائلا:

-لا يا أمي ، يكفي ما فعلتيه بها ، يكفى ضربك لقلبها وكرامتها ، لن  أترككِ تصلين لجسدها تلك المرة ، كفي فما زال أثر جرحك عالق بها وبي أنا أيضا ، جذبها "أمين" بعيدا عنها ، أستدار "زين" ناحية "قمر" قائلا برجاء:

-أخبريني فقط ماذا حدث ؟ تنهدت قائلة:

-أين "ريان" يا "زين" ؟ ضيق عينيه وكأن سؤالها نبهه إلى غياب "ريان" قائلا:

-مؤكد ما زال نائم بغرفته ، ضحكت بسخرية قائلة:

-"ريان" لم يبت ليلته هنا ، لقد أُختطف بالأمس ، خطفه قاتل "سليم"، حينما كان يدافع عن "البدر" ليلا ، ران صمت رهيب بالمكان ، كانت كلماتها كالصاعقة التى  ضربت بيت فهدمته ، حاول "زين" أن يبحث عن صوته فلم يجده ، أقترب "أمين" منها برجاء قائلا:

-ماذا تقولين يا "قمر" ؟ من أين عرفت هذا ؟ عضت شفتيها بشدة قائلة:

-"البدر" هو من روي لى ما حدث ، لم آتي إلى هنا ألا من أجل "ريان" ، علينا أن نجده قبل أن يقتله هذا المجرم ، "زين" لن أسامحك إن أضعت أبن قلبي مرة أخري ، أفعل أى شئ لكن عود به، لوح الأخير بيديه فى الهواء غير مصدق ما سمع قائلا:

-من يجرؤ على تلك الفعلة ؟ من يخطف أبن "زين أبو القاسم" ؟ ولم يفعل ذلك ؟ وقفت "قمر" بجوار "أمين" ناظرة إلى "آمنة" التى صمتت تماما قائلة:

-أسأل أمك ، هى فقط من تملك  إجابة هذا السؤال ، نظر لها بأستغراب قائلا:

-أمي ؟!  كيف؟!  ضحكت تدور حولها قائلة:

-تخبريه أنت يا سيدة المنشية ؟ أم أخبره أنا ؟ لكن إن أخبرته أنا سوف يكون كلامي  قاسي عليه ، و"زين" أخر من أفكر أن أقسوا عليه ، رفع عينيه إليها بنظرة غير مصدقة ما قالته ، همت "آمنة" أن ترفع يديها ، تهوي بها فوق وجه "قمر" ، آلا أنها أمسكتها بشدة قائلة:

-أنا لا تمتد إلي يد ، إن كنتِ ترين نفسك سيدة الجميع بحق ، فأنا لست من رعاياكِ ، يدك تلك التى حاولت أن تضربني ، من السهل أن أقطعها لكِ ، لكن من يشفع لك عندي هو هذا الواقف أمامك ، لا تخطئين مرة أخري ، لا تأخذك العزة بالإثم ، لانك كلك آثام  تعلمينها جيدا ، تركت يديها ناظرة إلى "زين" قائلة :

-أمك هى من كانت وراء قتل "سليم" ، وهى أيضا من كانت وراء قتل "أسماعيل" ، أمك تعرف من سرق عبائتك وبعث لي أخي مقتول بها ، وحينما رأها "ريان" تقف معه ليلا ، ورأي العباءة ، سألك عنها، وسألها من قبلك لكنها  اتهمته بالجنون وأن ما رآه   كذب، أمك هى من تعرف القاتل ، وتعرف الحقيقة كاملة ، هز "زين" رأسه بعنف ، يريد أن يسقط كل ما سمعه ، يريد أن يفقد الذاكرة دفعة واحدة ، نظر إلى خاله كي يُكذب كلام "قمر" ، لكنه وجده ينظر بالأرض ، علم وقتها أن كل ما سمعه حقيقة ، ضحك بصوت عالي ك مجذوب ، رأي جنيه  من العالم  الآخر فجأة قائلا:

-كيف عشت كل تلك السنوات وأنا أمتلك كل غباء العالم ؟! لم كل تلك الدماء ؟! هل لأنك تحبينني يا أمي ؟ أم لأنك لم تعرفين كيف يكون الحب ؟! تحبينني لهذا تقتلين ؟! كيف استطعت أن تجعلين مني مسخ لتلك الدرجة ؟ ماذا فعل "سليم" كى تقتليه؟! وتقتلين قلبين لم يفعلا شئ غير أنهما يحبون ، كيف طاوعتك نفسك على فعل كل هذا بنا جميعا ؟! تجعلين بيننا بحور دم لا تنتهي ، كل هذا لأنني أحببت، أخبريني إذن ماذا كان سوف يكون عقابي إن كنت كرهت ؟ يا الله ما هذا القلب ؟ ما تلك النفوس ؟ كيف أستطعتِ أن تغفين مطمئنة طيلة عشرون عاما؟ ألم يزورك "سليم" مرة  فى  منامك ؟ ! أخبريني من هو هذا القاتل ؟ الذى سخريته لك ، من هو الذى طاوعك قلبك أن تعطيه عبائتي يرتكب بها جريمته ، كي يفرق بيني وبين "قمر" ؟ لم تجب بكلمة واحدة ، بل ظلت ناظرة بعين جامدة ، خالية من الحياة ، خطوات أتت من الخارج يتبعها صوت قائلا:

-"زين" ماذا حدث؟ أين "ريان" ؟ وما هذا الكلام الذى يقوله "البدر" ؟ نظر إليه "زين" قائلا:

-كما سمعت يا "حمزة"، "ريان" خُطف ولا  أعرف عنه شئ ، ولا أعرف من يجرؤ ويفعل ذلك وهو يعلم من هو ؟! أقترب "حمزة" يحدق فى "قمر" ينظر حوله باستغراب ، نظرت إليه بكراهية واضحة قائلة:

-سوف أذهب الأن ، سوف أبحث عنه فى كل مكان ، لن أهدأ غير وهو معي ، قصدت الباب مغادرة  أوقفها صوت "حمزة" قائلا:

-هل ماتت الرجال كي تخرج النساء ، تبحث عن إبننا ؟ ما علاقتك أنتِ به كي تبحثين عنه؟

استدارت  تنظر إليه باحتقار قائلة:

-جميع الرجال قد ماتوا بعد "سليم" ، ولا يوجد رجل يملأ عيني سوي "زين" ، وعلاقتي به أقوي من علاقتك أنت به ، علاقتي به بدأت قبل ميلاده ، أنه أبني بالدم ، تركته ماضية فى طريقها وعين "زين" معلقة بها تخبرها ، أنه أيضا لم تستطع أمرأة أن تملأ روحه وقلبه وعينيه سواها.

                               "الفصل التاسع والثلاثون"

                                      "لا أصدق"

غبي من يعتقد أنه يعرف كل شئ ، أعمي من يعتقد أنه يري القلوب كاملة وما تحويه  النفس ، مهما  ادعينا  أننا نعرف حقيقة من نحيا معهم ، يبقي نظرنا قاصر وبصيرتنا مقيدة ، لا أحد يُظهر كل ما بداخله، لا أحد يمسك بخيوط كل شئ، هناك خيط فى الخفاء ، لا نراه لأنه يحيا فى الظلام ، تماما كخفافيش الليل، إن خرجت للنور أحترقت، النور لا يسترها لأنه لا يعرف كيف يكون القبح؟

تركت "قمر" بيت "أبو القاسم" وبداخلها نار مستعرة، خوفا على "ريان" وتذكرها لشقيقها "سليم" ، من بين تلك الثورة وجدت نفسها تبتسم ، وهى تسير دون أن تشعر بثقل الخطوات ، أبتسمت لإحساسها  أنها أخذت حقها من "آمنة"، حتى ولو كان بالكلام ، يكفي أنها كشفتها ، وكشفت زيفها أمام "زين" ، يكفي أنها أخرجت حديث حملته بصدرها كل تلك السنون ، أبتسمت رغم المرارة التى تملأ روحها، أخذت تبحث بعينيها عنه فى كل الحقول والطرقات ، ذهبت إلى الساقية القديمة ، علها تجده هناك ، لكن لا أثر له ، عادت إلى البيت مع غروب الشمس منكسة الرأس ، دلفت تخلع عن رأسها وشاحها ، تُلقيه على طول يدها ، رأها "زاد" الذى كان يجلس مع أبيها بحديقة البيت ، وقف قاصد إياها، طرق باب البيت على إستحياء ، نظرت خلفها لتجده يقف ناظر إلى الأرض ، مدت يديها مسرعة ، تلتقط غطاء رأسها مرة أخرى قائلة:

-تفضل يا "زاد" البيت بيتك ، أقترب منها واقفا على بُعض خطوات ناظر إلى وجهها قائلا:

- ما بكِ يا "قمر" ؟! وجهك مرهق وعينيك حزينة ، ماذا حدث؟! فركت يديها بعنف محاولة أن تكبح جماح غضب بداخلها قائلة:

- لا شئ مجرد إرهاق لا سبب له ، إبتسم أبتسامة يخبرها فيها أنها كاذبة ، فهمت ما يرمي إليه ، هربت بعينيها بعيدا ، لم يُعديها شئ غير صوته قائلا:

- "ريان" هو ما يشغل بالك ، لا تخفي عليا  شئ ، أنا أعلم كل ما حدث ، نظرت له  باستغراب شديد قائلة:

-تعرف ؟ تعرف أنه خُطف ، وأن من فعل ذلك من الممكن أن يكون هو نفسه قاتل "سليم" ؟ تحدث يا "زاد" ، أخبرني أين "ريان" ؟ ومن هو خاطفه ، هز رأسه وهو ينظر إلى الأرض قائلا:

-اهدئي  قليلا ، لا تجعلي أحد يشعر بما حدث ، لهفتك تلك سوف تفضح الأمر ، تحبينه يا "قمر" ؟ تحبين "ريان" ، كما تحبين "زين" ، لم تستطع تلك السنين والأحداث أن تنسيك إياه ، عجيب هو أمر القلوب ، أشعر بكِ ، أشعر بأنفاسك التى كدت أتيقن ، أنك تتنفسين فقط من أجله ، مر الكثير وحدث ما كان قادرعلى زحزحة قلبك عنه ، لكن مع كل ساعة تمر يتمكن من قلبك أكثر ، يتوغل داخل روحك ، يجري بدمك ، من يحب يشعر بمن يحبه ، أخفت عينيها عنه ، كى لا تري حبه لها أمامها ، تعلم جيدا ذلك ، لكن لا شئ بيديها تفعله ، تنهد مردفا:

-لا عليك ، أنا لا ألومك على شئ ، أعلم أنك لا تمتلكين زمام قلبك ، الآن علينا أن نذهب سريعا إلى مكان "ريان" ، كادت أن تنطق لولا أن رأت "غالية" تخرج من الشرفة تقترب منها ، تمسك ذراعيها فزعا قائلة:

- "قمر" ماذا حدث ؟ أين ذهب "ريان" ، أخبرني أنت يا "زاد"  ماذا حدث له؟ ضمتها إليها بشدة ، تعلم أنها تحبه ، تعلم أنه هو الأخر يحبها ، لكن حب صامت لا يمتلك الشجاعة بعد ، كى يبوح ويخرج للعلن ، همست لها قائلة:

- "غالية" لا تخافي ، هو بخير ، قلبي يخبرني أنه بخير ، الله رحمن رحيم ، لن يضربني بقلبي مرتين ، سوف يحافظ عليه ، سوف يعود سالم ، إطمئني أعدكِ أنني سوف أعود به ، إلتفتت إلى "زاد" قائلة:

-أخبرني ما تعرفه كيف يمكننا الوصول إليه ؟! أشار إليها أن تجلس وتستمع إليه ، جلست وبجوارها "غالية" تمسك يديها ، جلس أمامها قائلا:

-تعلمين أنني أصلي الفجر كل يوم ، وأسير حتى شروق الشمس ، ثم أعود للبيت أو أتي إلى هنا ، هذا ما حدث معي البارحة ، أنهيت صلاتي وأخذت طريقي عائدا، عندما  أقتربت من  الطريق المؤدي لبيت "زين" رأيت شبح ملثم ، يضرب شخص أخر  مُلقي على الأرض ، حاولت أن أتبين الأمر ، هممت أن أقترب ، لولا أن رأيت "ريان" يسرع إلى هذا الرجل ، حاولت أن ألحق به ، أمنعه من ذلك ، فلا أحد يعرف من هو هذا الشبح ؟! ولا ماذا يريد أو ينوي فعله ؟! مرت الأحداث سريعة أمام عيني ، رأيت هذا الرجل يضربه على مؤخرة رأسه ، فقد الوعي وسقط مغشيا عليه ، ظللت واقفا مكانى فى الظلام أراقبه ، أحاول أن أتبين ملامحه أو أسمع حتى صوته ، وجدته يحمل "ريان" ويسرع به ، علمت أنه يريده هو دون غيره ، سرت خلفه بحذر ، وجدته يدخل حقل الكافور الكبير المترامي على حدود البلدة ، ظللت خلفه ، وجدته يدخل بيت "المهاجر" ، تتذكرينه يا "قمر" ؟! ضيقت بين عينيها قائلة:

-بيت "المهاجر" ؟! هذا الدجال الذى هبط على بلدتنا منذ سنوات ، ولا أحد يعرف عنه شئ ، ووجدوه مشنوق ذات يوم ، على أحدى أشجار الكافور ، عجيبة لكن من ذلك الشخص الذى يمتلك مفاتيح هذا البيت الملعون ؟! من يجرؤ على فعل هذا ؟! ولم أخذ "ريان" إلى هناك ؟ وقف "زاد" قائلا :

-هذا ليس وقت كلام وأسئلة كثيرة ، الأن علينا فعل شئ واحد ، هو أخبار "زين" كي يرى  ماذا سوف يفعل ؟ لا تنسي أن له مكانته ، وسهل أن يحرك الدنيا من حولنا ، وقفت "قمر" تضع شالها فوق كتفيها ، تهم أن تذهب إلى "زين" تخبره ، لولا أن رأته أمامها يتبعه خاله "أمين" ، وقف الثلاثة ينظرون إليه غير مصدقين ، أنه أمامهم داخل بيتها ، بعد كل هذه السنين ، صمت الجميع ، تركوا النظرات تنطق بكل شئ ، نظرت "غالية" إلى "زاد" ، الذى وقف ينظر إلى "قمر" ، التى خطت ناحية "زين" الذى خانته دموعه ، أمامهم جميعا قائلا بصوت مبحوح:

-جئت إليك كى تسألي قلبك عن حال "ريان" ؟ تطمئنيني عليه ، جئت أتلمس الأمان معك لأنني أشعر الخوف ، تركت الدنيا بأكملها خلفي ، أسقطت الجميع ، ألا أنتِ ، لأنني أعلم أن قلبك أصدق من عرفت ، أعلم كم كان  قاسيا  جُرحى لك ِ ، أعلم كيف أوجعتك ؟ لكنني أعلم أيضا أن حبك لي سوف يجعلك تغفرين ، مهما  ابتعدنا ، مهما أدعيتِ أنك تكرهينني ، مهما كانت قسوتك ، فى النهاية لم أجد أمامى غيرك ، لم أجد غير أسمك أنادي به ، وبابك أطرقه ، ووجهك أقصده ، لأن ما بيننا لا يقدر عليه الزمن ، لا يمتلك أحد أن يقطعني منكِ  أو يقطعك مني ، أمتلأت عينيها دموع سنوات مضت، لم تتحدث ، لم تنطق كلمة ، كل ما فعلته أنها ضحكت وسط دموعها  قائلة:

-حتى الدموع يا "زين" فرحة بك ، فرحة بعودتك ، إشتاقت إليك ، جاءت ترحب بك ، لا أستطع قول شيء غير أني  لن أسامحك ، ليس كرها  أو قسوة ، بل لأنني  سامحتك منذ زمن ، لم يعد بداخلي ما أسامحك عليه ، نسيت لك كل ما كان ، أقترب "أمين" يمسح فوق رأسها قائلا:

-كنت أثق دوما أن قلبك كما هو لن يتغير مهما حدث ، أبتسمت له وهى تنظر إلى "زين" ، تمسح دموعها ، وكأنه الوحيد الموجود بالمكان ، دوما لا تلتفت قلوبنا إلى أحد غير من تحب ، لا تري شئ حولها وإن كان الزحام يملأ المكان ، غير من سكنوا القلب ، صافح "زاد" "زين" قائلا:

-لا وقت الآن  ، أنا أعرف أين "ريان" ، هيا أتبعوني ، لكن أبقي هنا يا "قمر" أنتِ و"غالية" ، أمسكته قائلة:

-لن أترككم ، أنا قبلكم ، أنسيت أنه أبني؟ التفتت إلى " غالية" مردفة :

-أبقي هنا حبيبتى ، لا تخبري أبي بشئ ، لا تخافي سوف أرجع به معي ، نظر إليها "زين" ،يبتسم لها وكأنه يطمئنها هو الأخر ، غادروا البيت ، سائرين بجوار بعضهما البعض ، "أمين" و"زاد" يتبادلون حديث قصير ، محاولين أن يطمئنوا أنفسهم ، تجاه ما هم ذاهبين إليه ، "قمر" و"زين" مكتفين بالصمت ، وكأن حالهم لا يريد شئ ، أى شئ ، سوى أن يكون كلاهما مع الأخر، وكأن الأرواح نفسها تولد من جديد ، وصلوا إلى حقل الكافور الكبير ، اختبئوا خلف شجرة كبيرة ، يتفقون ماذا يفعلون ؟ أشار "زاد" إلى الأرض أن أجلسوا ، جلسوا منتظرين من أين تكون البداية ؟! جاء صوت "زين" قائلا:

-أبقوا هنا ، سوف أذهب إلى البيت ، أري من بالداخل ، وهل "ريان" هنا حقا أم لا؟ أقترب "زاد" بصوت منخفض قائلا:

-لا أنا أدري بطبيعة المكان منك يا "زين" ، أما  أنت من السهل أن يُكشف أمرك ، كاد الأخير أن يعترض ، لولا أن أوقفه "أمين" بأشارة منه قائلا:

- "زاد" محق فيما قاله ، نحن نريد أن نرجع ومعنا "ريان" ، وهذا الأمر يتطلب منا الحذر والحيطة ، أذهب أنت يا "زاد" ، أحترس على نفسك ، الله معك يا بني ، نهض بخفة قاصد البيت الملعون ، وعيونهم جميعا معلقة به ، قلوبهم تخفق بشدة ، تبتهل إلى الله أن يعود هو و"ريان" بخير

مرت  دقائق كأنها سنة ، لا صوت ، لا حركة ، لا شئ  يُنبأ  بأن هناك حياة ، لم تتحمل "قمر" أكثر من هذا ، نهضت تسير ناحية البيت ، لحق بها "زين" يمسكها من ذراعيها قائلا:

-أهدئي  دعينا نتصرف بحكمة ، حفاظا على حياة من بالداخل ، أبقي هنا مع خالي ، سوف أذهب لأري  أين أختفي "زاد" هو الأخر ؟ تخلصت من يديه قائلة:

- لن أهدأ ولن  أبقي سوف أذهب أنا دون أحد منكما ، أنه أبني لن يشعر أحد به غيري ، قلبي يخبرني أنه هنا ، على بعد خطوات مني ، أشتم  ريحه ، أشعر بقربه ، قاوم "زين" رغبته فى أن يضمها إلى صدره قائلا:

-لا تنسي أنه أبني أنا الأخر ، أعدك سوف أعود به ، لكن أبقي هنا ، لا تعرضي حياتك للخطر ، لن أتركك تضيعين مني مرة أخري ، تركها قاصد البيت المغلق على نفسه ، أقترب منها "أمين" يقف بجوارها ، وقد أخفت وجهها بين كفيها ، يربت كتفيها قائلا:

-لا تخشي عليهم هم فى رعاية الله ، والله لا يُضيع ودائعه ، ساعة كاملة سقطت دون جديد ، تبادلت "قمر" نظرات متسائلة مع "أمين" ، الذى لم يكن أقل منها قلق وحيرة ، أين ذهب الأثنين ؟ إن لم يكن هناك أحد بالداخل ، لماذا لم يعود أحد منهما ؟ أين  أختفوا ؟! ماذا حدث لهم ؟! قطع صوت طلقات نار ، حبل  أفكارهما ، فى تلك اللحظة لم تتمالك "قمر" نفسها ، جرت ناحية البيت ، دفعت بابه المتهالك ، وقفت جاحظة العينين ، لا تصدق ما رأته ، لا تعرف ماذا يحدث ؟ ولا من هؤلاء الأغراب ؟ وتلك الوجوه الكريهة ، المملؤة غلظة وقسوة ، وقفت تنظر بالمكان المتهالك المزدحم بالقمامة ، وسقفه مائل ك حوائطه ، عادت من شرودها على صوت "زاد" ، الذى وقع على الأرض غارق فى دمائه قائلا:

- "قمر" من أتي  بك هنا ؟ عودي سريعا ، مكانك ليس وسط هؤلاء المجرمين ، هوت عليه تحاول أن ترفعه عن الأرض وهي تصرخ قائلة:

-من فعل بك هذا ؟ من أي مكان تنزف ؟ قم معي ، جائها صوت "زين" الذى أمسكه أثنين غلاظ يوقفونه مكانه ، حاول أن يفلت منهما دون جدوى قائلا:

- لا تخف عليها يا "زاد"، إن كان هنا رجل حقا ، ليقترب منها  ويري ماذا سيحدث له ، أقسم بالله ، سوف أقطعه بأسناني ، نظرت إليه بثبات مائة رجل قائلة وهى تسند رأس "زاد" فوق يديها قائلة:

-لا تخشي علي يا "زين"  أنا بمائة رجل ، من منهم يريد مغادرة الحياة ، يقترب مني ، أخبرني أين "ريان" ؟ ألم تراه هنا ؟ زفر بضيق شديد وهو يدفع عنه من يمسكون بذراعيه قائلا:

-أنه هنا ، سمعت صوته ، يطمئنني عليه ، لكن أين هو لا  أعرف ؟ وكأن هناك جدران خلف تلك الجدران ، تأوه "زاد" بشدة قائلا بصعوبة بالغة وهو يبتلع ريقه:

-"ريان" هنا يا "قمر"، أعرف منذ زمن أن هذا البيت الملعون ، له دهاليز وحوائط داخل حوائطه خلعت حجاب رأسها، تربط به مكان الجرح بصدره ، تشهق فزعا حينما رأت جرحه قائلة:

-جرحك غائر أنت فى خطر ، أيها المجرمون أخرجونا من هنا سوف يموت أخي ، لم يُجيبها أحد وكأنهم  خشب مسندة ، لم تسمع غير صوت "زين" قائلا:

-تجلد يا "زاد" لا تغمض عينيك ، لا تفقد وعيك ، أبقي هنا ، سوف تمر تلك الأزمة ونخرج جميعا من هنا ، لن ينقص منا أحد ، وسوف أجعلهم جميعا يدفعون الثمن ، حتى وإن كان من فعل بنا  كل هذا  أبي نفسه ، صوت ضحكات كريهة تصدر من حولهم ، أخذوا يتلفتون  حولهم ، باحثين عنها ، فجأة  إنشق أحد الحوائط المهدمة ، خرج منها رجل قصير القامة ، أحدب الظهر ، وجهه كأنه شيطان رجيم ، وقف بمنتصف المكان ، تبادل ثلاثتهم النظرات، راجعين إليه ، شهقت "قمر" غير مصدقة ما تري  قائلة:

- من ؟ المهاجر؟ ألم تُقتل منذ زمن ؟ لا أصدق عيني ، من أنت ؟ نفض ثوبه من غبار يعلوه وهو يدور حولها ، وهى تلتصق أكثر ب"زاد" ، الذى تشبث بيديها ، يحاول أن يحميها منه ، مال عليها برائحته العفنة قائلا:

-نعم أنا المهاجر يا "قمر"، ما زلتِ جميلة كما أنتِ ، بل زاد جمالك ، أنا لم أُقتل ولم أمت ، أنا فقط من يقتل ، ظللت هنا ، فى نفس مكاني ، داخل بيتي طيلة عشرون عاما، الجميع يعتقد أننى قُتلت ، دفعته بيدها بعيد عنها قائلة بغضب:

-إذن من وجدوه مقتول على  إحدى أشجار الكافور  لم يكن أنت لا أتعجب شئ منك ، ساحر ومشعوذ وكافر، من الممكن أن تفعل أى شئ ، ضحك بصوت مرتفع قائلا:

- صدقتي حقا ، أستطع أن  أفعل أى شئ ، ونجحت فى فعل كل شئ ، حتى أنني نجحت فى أن أخدع بصر الجميع ، جعلتهم يرون القتيل أنا ، وهو فى الحقيقة كان خادم لي ، أردت أن أهرب من مطاردة الحكومة ومن ثأر أخيك هل تتذكرينه ؟ أحمرت عينيها فجأة كأن أحدهم ألقي بهما أتون من نار ، أسندت "زاد" برفق على الأرض ، نهضت تغرس أظافرها فى رقبته قائلة:

-أخي ، أذن أنت من قتلته ، أيها الحقير القذر ، كل تلك السنوات وأنت تحيا هنا ، تشرب من دمائنا كل يوم ، تضحك علينا فى نفسك ، تسخر منا بداخلك ، أنت من حرقت قلبي  واليوم تضحك وتسخر ، وتخطف أبن قلبي ، من طلب منك فعل هذا ؟ من أين لك بتلك الجرأة ؟ أنطق وألا أطبقت على رقبتك حتى أزهق روحك الملعونة ، صاح "زين" قائلا:

- "قمر" أتركيه ، لا تجعلي غضبك يعميك ، أنه همزة الوصل الوحيدة كى نصل لمن رتب ودبر كل هذا ، أنه مجرد كلب تابع لمن هو أكبر منه ، دفعته بعيدا عنها ، وقف يمسك رقبته ، يلتقط أنفاسه وهو يضحك قائلا:

-من ؟ سيادة القاضى الشريف النزيه ، الذى أكرهه كما أكره نزاهته ، ألم تمل من هذا الشرف ؟ ألم تُرهقك نزاهتك ؟ لكن  أخبرك سر، رغم كرهي لك ، ألا أن هناك شئ بي يحترمك ، يقدر مبادئك ، لا  أعرف حقا ، إن كان هناك شئ بداخلى يُصر أن  يبقى نظيف حتى ولو بقدر يسير؟!  أم أنني أحترمك ، لأنك الوحيد الذى لم تغريه المناصب ولم ينسى  فضل الله عليه؟! ضرب جبهته بكفه مردفا:

- الله ، كيف نطقت أسمه وأنا قذر محتال أُشبه الشياطين ، لا يليق به عز وجل أن يجري أسمه على لسانى ، الآن  اتركونا من كل هذا الهراء ، أخبروني من أتى  بكم إلى هنا ؟ وماذا تريدون ؟ فأنا إن كنت مددت يدي للقتل والسلب والحرق ، لن أستطع أن أجعلها تلمس أحد منكم بسوء ، لأننى كما أخبرتكم ، أعلم أنكم شرفاء بحق ، وليس نفاق أو رياء ، من مثلكم تحتاج إليه الحياة ، يكفي ما بها من أمثالى ، الشرفاء نادرون ، لا تتعجبون مني ، أنا أعلم حقيقة كل شئ ، حتى الشخوص من حولكم أعرفهم جيدا ، "زين" ،"قمر" ، "زاد" ، "أمين" ، "ريان" ، هم فقط الفرسان وسط حلبة صراع تملأها ثيران هوجاء ، ضرب الأرض بعنف وقد أحمر وجهه مردفا :

-تريدون "ريان" أليس كذلك ؟ دفع "زين" من كانوا يطوقونه بعيد عنه ، جرى إليه يمسك به قائلا:

-أين هو ؟ أقسم بالله العظيم إن أقتربت منه بسوء ، سوف  أقطع رقبتك ، أنطق أين تخفيه ؟ لم يرفع يديه من جنبيه ، لم يكن له رد فعل غير نظرة طويلة صامتة بعيني "زين" قائلا:

-السؤال لا يجب أن يكون هكذا ؟ السؤال الصحيح يقول ، لم قتلت "سليم" ؟ ولمصلحة من ؟ ولم قتلت "أسماعيل" ومن دفع الثمن ؟ لا تضيع وقتك سيادة القاضى فى مهاترات سخيفة ، لن تجدي بشئ ، مشيرا ناحية رأسه بسبابته مردفا:

- تعلم ألا تضيع وقتك فيما لا يفيد ، اقتنص منى  إجابات  أنت بحاجة إليها ، فلا أحد يعلم ، اللحظات القادمة أين سأكون ؟! ضحكت "قمر" بسخرية  قائلة بتهكم :

- تراك تعلم أن أخرتك قد أقتربت ، وتريد أن تكفر عن ذنبك ؟ نظر إليها نظرة حب غريبة ، جعلتها ترتجف وجعلت "زين" يتعجب منها  قائلا:

- نعم يا "قمر" ، أشعر أن نهايتي قد أقتربت  تعلمين لماذا ؟! لأننى فى لحظة صدق مع الله طلبت منه ، أن يجعل نهايتي أمام عينيك ، أن يرزقني رؤيتك ولو لدقيقة واحدة ، أخبرك بها كم أحببتك ، وكم صبرت على وجع هذا الحب، نعم لا تتعجبين مما أقول، ظللت هنا حبيس تلك الجدران العفنة ، لا أري شمس ولا نور ، فقط من أجل أن أبقي بنفس البلدة التى تحمل شئ من أنفاسك ، أنا بشر فى نهاية الأمر، خلقني الله بقلب ، يحمل الشر كما يحمل بذرة خير ، تلك البذرة هى حبي لكِ ، الذى أوصلني لما أنا عليه الأن ، كان كل همي ألا تكونين لأحد غيري ، ألا يتغزل بعينيك أحد  سواي ، جئت مهاجر إلى هنا دون أن أعرف أننى جئت إلى قدري ، عندما رأيتك  أول مرة كان الجميع يقذفوني  بالحجارة ، لا أحد يُحبنى ، يومها أبعدتِ الصبية عنى ترفقتي  بي ، أحسنتِ إلي ، يومها ذاب هذا القلب الصلب بين  يديك ، كنت أغفو كل ليلة ويدي مطبقة عليك ، كان الفرق بيننا كالفرق بين الخير والشر والجنة والنار ، حتى جاء يوم عرسك على "زين" ، إشتعلت بقلبي حرائق الكره ، لم أكن أري  أمامي شئ سواك ، كان بودى لو قتلته هو ، لكن كيف وهو أبن أسياد البلدة؟! ولن يتركني أحد إن علم أنني من قتلته ، يومها كنت أجلس بالخارج تحت أشجار الكافور، أقطع أحدى قطع الخشب ، حتى وجدت أحدهما يقف أمامى يشعل تبغه قائلا:

-لك فدان كامل وحياة هادئة هنا ، لن يمسك  أحد بسوء ، لن يعرف طريقك أحد ، كل ما تطلبه مجاب بشرط واحد فقط ، يومها مد لي  يده  بسيجارة من سجائره الفاخرة ، أخذتها منه ، أشعلتها بغيظ قائلا :

-شرط ماذا ؟ أبتسم بخبث قائلا:

- تحبها والغيرة تأكل أحشائك، من أجل هذا جئت أساعدك ، إن قتلت "زين" لن يفيدك الأمر شئ ، سوف تظل وفية لذكراه ولن تنساه، أو تتزوج أحد غيره ، كل ما عليك فعله ، هو أن تحرك الوتد ، تفرق بينهما للأبد ، كي تنهي هذا الحب ، نظرت إليه مستفهما ، ليطفئ سيجارته زافر دخانها بالقرب من وجهي مردفا:

-أقتل "سليم" أنه فلذة كبدها، حينما تقتله نلصق التهمة "بزين"، ولا تسأل كيف؟! أترك كل شيء لوقته، الآن خذ تلك العباءة  تخفي بها،  أذهب إلي بيتها الأن أقتل أخيها وأنهي هذا الأمر سريعا وعد إلى هنا ، لكن عليك أن تلف جسده بتلك العباءة فقط ، وأترك باقي الأمر لي ، فعلت كل ما أمرني به هذا الشيطان ،اعتقادا مني أنه سوف يقف بجوارى ويجعلني أتزوج "قمر" اعتقدت أن فدان الأرض والأموال ، سوف تجعلها تراني ، سوف تخلقني من جديد ، نسيت أن القلوب حينما تحب تبقى  مرهونة بمن أحبت طيلة العمر ، كما هو الحال بينكما ، مرت الأيام وعلمت أن كل ما دبر له ، كان يخدم مصلحته هو، لأنه هو الأخر كان غارق بحبه لك يا "قمر" ، فعل كل هذا لأنه كان يريد أن يفرق بينكما للأبد ، كانت الدموع تغسل وجهها والصمت يصم الأذان ، كان "زين" غارق فى شروده ، يريد أن يعرف من يكرهه لتلك الدرجة ؟  أقتربت منه تقف أمامه ، تنظر بعينيه ، رأت نفس نظرة الحب قائلة:

-أخبرني إذن من هو ؟ إن كان ما قلته حقا ، أخبرني  أسمه فقط ، أبتسم لها وكأنه تحول فجأة من شيطان إلى ملاك ، هم أن ينطق، لولا أن دوى بالمكان صوت رصاصة بقلبه أردته قتيلا .

                                     "الفصل الأربعون"

                                         "صدمة"

الغل وحده يرى الدم سهل والقتل يشبه تحية الصباح، حينما يزور الغل قلب ويعتمل به ، يعميه عن رؤية جمال الحياة، يدفع صاحبه لفعل كل الأشياء، من أجل أن يشبع غريزة ناقصة بداخله، هى غريزة الطمع والأنتقام، إذا حدث وغرقت فى دم أحدهم، سوف تعيش حياتك كاملة، دون راحة ، دون سعادة ، دون أدني  شعور بأنك أنسان.

لم يكن من "زين" ألا أن يجرى ناحية "قمر"، يحتضنها مبتعد بها عن مكان سقوط "المهاجر" ، أخفت وجهها فى صدره، تتشبث بملابسه، ضمها إلى صدره بقوة هامسا لها :

-لا تخافي، أعتذر لكِ عن كل ما حدث، لولا غياب "ريان" ما أتيتِ إلى هنا ، وما رأيت كل هذا الفساد ، لا تخافي مجرد دقائق وينتهي هذا الكابوس ، مرت دقائق والصمت سيد الموقف ، وكأن من بالمكان ينتظرون أوامر تصدر كى يتحدثون ، ببطء شديد فتح باب فى طرف البيت ، أحدث صوته صرير عالي ، كأنه لم يُفتخ منذ زمن ، تطلعت عيني "زين" إليه ، يتمني أن يخرج من خلفه "ريان" ، رفعت "قمر" رأسها مبتعدة عن صدره ببطء ، كمن شعرت أن ما تبحث عنه قد أتي ، نظرت هى الأخري إلى الباب قائلة :

- "ريان" لم تكد تنهي نطق أسمه ، حتى  رأته يخرج من داخل الغرفة، بادى عليه الإجهاد الشديد ، وبعينيه نظرة منكسرة ، زائغة تبحث عن أحد تختفي به ، جرت ناحيته وهو الأخر جرى إليها ، أرتمي  داخل حضنها ، ضمته تشتم ريحه ، تمسح فوق رأسه ، تنهدت بقوة قائلة:

-أنت بخير ؟ قلبي لم يكذب علي ، حينما أخبرني أنك هنا ، شعرت بك ، أخرجته من حضنها ، تحيط وجهه بكفيها مردفة:

-لا عليك ، كل شئ سوف يكون على ما يرام ، سوف نخرج من هذا البيت الملعون ، ولن يمسك أحد بسوء بعد اليوم ، لقد رحل "المهاجر" ، بشره وفساده ، لقد أعترف أنه قاتل "سليم" ، لقد ظهرت الحقيقة أمام الجميع ، كنت أعلم أن "زين" برئ ، لكن كان علي أن أثبت هذا للجميع ، رفع "ريان" عينيه إلى أبيه، الذى وقف يفتح له ذراعيه، ليرتمي بهما وقد أجهش فى بكاء يحمل الكثير ، وقفت "قمر" بجوارهما تربت ظهره ، تحاول  أن تهدأ من روعه قائلة :

-أعلم أن ما مررت به ، كان قاسيا وكبير عليك ، لكن لا يهم ، أنت رجل وسوف يعلمك ما حدث أن تصير قوي ، زفرت من بين شفتيه ضحكة ساخرة قائلا وهو يمسح دموعه:

-ليس دائما ما نمر به من أزمات ، يعطينا القوة ويشد عضضنا ، هناك أزمات ترينا حقيقة القلوب ، تُسقط الأقنعة، تجعلنا نري الوجوه على حقيقتها، وقتها فقد صدقيني تهزمنا الأزمة، تطعن قلوبنا ، لا نقوى على النهوض منها، حينما تضرب ثوابت وتهدم حائط كنا نستند إليه، معتقدين أنه يحملنا ، الأزمة التى تكشف لنا الحقيقة مجردة ، تقتلنا يا "قمر" تقتلنا ، الأزمة كثيرا تكشف لنا الحقيقة لدرجة أنها تعمينا من شدة قسوتها، تظنين يا "قمر" أن الكابوس هكذا أنتهي ؟ تعتقدين أن قاتل "سليم" هو المهاجر؟ وأنه قاتل "أسماعيل" أيضا ؟ لوت "قمر" عنقها ، مستفهمة بعينيها ، ماذا تقصد ؟ أقترب "زين" يجذبه من ذراعه قائلا:

-ماذا تقصد بكلامك هذا ؟ هل تقصد أن هناك بطل خفي لتلك القصة ، ما زال فى الكواليس لم يظهر بعد ؟ ضحك "ريان" ضحكة مخنوقة، تعلن فى طياتها أن خلفها مرارة وخزي قائلا:

- نعم يا  أبي ، هناك بطل خفى يحرك الأحداث ، المهاجر واسماعيل ما هم  إلا أدوات  أستخدمها لحساب نفسه ، أخفي "زين" وجهه بين كفيه ، كمن يخشي  مفاجأة قادمة قائلا:

- أنطق يا "ريان" وأنهي هذا الموقف السخيف، من وراء كل ما وصلنا إليه ؟ أنت تعرفه ؟ لم ينطق بكلمة ، ظلت عينيه معلقة بالمكان الذى خرج منه ، وكأن للإجابة  تسكنه ، تعلقت عيون الجميع بالمكان الذى نظر إليه "ريان" ، دقائق مرت كأنها دهر، ظهر شخص يرتدي عباءة "زين" المسروقة ، ملثم الوجه ، لا يظهر منه غير عينين تبرقان ، كشهب  ثاقب ، ضيق "زين" عينيه ، يحاول  أن يرفع النقاب عنه ، يعرف من هو ؟  رمقه "ريان" بنظرة كره واضحة ، شردت "قمر" بعينيه ، تعرفه ، نعم تعرف تلك العينين جيدا ، لكن من المستحيل أن يكون هو ، خطي "زين" إليه بخطوات مهزومة خائفة ، وقف أمامه مباشرة ، يتطلع إليه وعينيه تبكيان ، بكاء صامت ، لا صوت له ، بكاء موجوع مجروح ، يخاف أن يعلن عن سببه ، يخشي أن يعترف أنه عرف من أمامه ، شئ ضرب قلبه دون رحمة ، أقترب يمد يديه ، يزيح الوشاح عن وجهه بيد مرتعشة ، وبداخله يدعوا الله أن يكون أحساسه خطأ ، أن تكون تلك العينين، مجرد شبه ليس أكثر ، كانت صوت شهقة "قمر" أسرع  وأعلى ، من صوت "زين" الذي خرجت الكلمة منه ترتطم بالأرض قائلا:

"حمزة" ؟! من أراه أمامي ؟! "حمزة" ؟! كذبت عيني ودعوت الله أن أفقد نورهما ، كى تكونين كاذبتين ، وأن من رأته لست أنت ، كدت أن أهرب تارك الدنيا بأكملها ، قبل أن  أراك أمامى فى مثل هذا الموقف ، لتصبح أنت القاتل أمامي ، أنطق ، أخبرني ولو كذبا أنك جئت هنا رغما عنك ، وأن تلك العباءة التى ترتديها ، عثرت عليها هنا صدفة ، حاول ولو بالنفاق أن تنقذ الباقى من أعمارنا وألا تُضيع ما مضى  منها ، كيف يكون موطن الأمان هو ذاته موطن الخطر ؟ كيف للثقة أن تصير بلهاء لهذا الحد؟! وفى نهاية المطاف تُخرج لي لسانها ، أنها كانت بغير موضعها ، يا الله من الباقى لم تنله يد الزيف ؟! من الباقي لي كما عرفته ولم يغيره الزمن ؟! أتذكر جيدا أننا تربينا معا ، كبرنا معا ، ضحكنا وبكينا معا ، حتى الحلم قسمناه بيننا ، لا أملك أن أصدق ما أراه ، لا تتحمل قدرتي أستيعاب الأمر ، أمسكه من رقبته بشدة مردفا:

-أنطق بأي شئ ، لا تجعلني أخرج خاسر من رحلة العمر ، لا تجعلني أري عمري وقد تسرب ، من بين يدي ويسقط صريعا على الأرض ، أنطق وقل لى لم ؟ لم كل هذا؟ وقبل أن تخبرني الإجابة ، أريد منك إجابة سؤال واحد ، هل احببتني حقا ؟ أم تراك كنت تتعلم كيف تحب لكنك فشلت ؟! أخبرني أنك أخطأت ، أنك كنت مسلوب الإرادة فيما فعلت ، وسوف أسامحك ، سوف أنسي ما كان ، لكن أخبرني سبب واحد ، تضحي من أجله بصلة الدم  وصداقة العمر وحب العالم بأكمله، كان "ريان" يقف مبهوت ، لم يكن يريد أن يعرف أبيه الحقيقة ، لم يكن يريد أن يراه مذبوح هكذا ، أبن عمه ورفيق عمره هو من خطفه ، هو من قتل كل هؤلاء ، لكن لم؟! هو نفسه لا يعرف إجابة ، امتلأت عيني "حمزة" دموع جامدة ، ككل شئ به ، أزاح يد "زين" عنه برفق مبتعد عنه موليه ظهره قائلا:

-نعم يا "زين" ، أنا من فعل كل هذا منذ عشرون عاما ، من أول قتل "سليم" حتى تلك اللحظة التى نقف فيها جميعا هنا، تريد أن تعرف السبب؟ حسنا سوف أخبرك، طيلة حياتنا وأنت سابق بخطوة ، رغم أننا واحد فى كل شئ ، فى الصفات ، فى القدرات ، لكن دوما كنت مميز ، الجميع يحبونه عني ، نجحت والتحقت بسلك القضاء وأنا لا ، تزوجت من  أكبر عائلات مصر ، حتى حينما أحببت ، أحببت من أمتلكت قلبي وعقلي ، فعلت كل ما بوسعي كى ألفت نظرها إلي ، أن أخبرها أننى لست قاسي ، وأنى أحبها أكثر من نفسي ذاتها ، أدار ظهره ينظر إلى "قمر" الغارقة فى صمتها مردفا :

-حتى بعد أن تزوجت وأنجبت، حاولت أن أقترب منها ، أن أفوز بها ، لكن دوما كنت تقف بيني وبينها تلاقت رغبة أمك، مع رغبتي فى أن أبعدك عنها، أتفقت مع المهاجر على ما قاله ، قتلت أخيها كى تكرهك ، لكن لا فائدة مما فعلت، هددنى "أسماعيل" بأنه سوف يخبرك كل شئ ، قتلته هو الأخر، حتى المهاجر الملقي أمامك الأن، ظللت باقي عليه هنا حي، كى لا ينطق ، لم أكن أريدك أن تعرف، لكننى مللت تلك اللعبة، تعبت من هذا الهروب، بعد أن علمت بعلاقة "ريان" بها ، علمت أننى أسير فى طريق مسدود، حاولت أن أبعده عنها ، كى لا تتعلق به هو الأخر ، كنت أبحث لو عن مدخل صغير إلى قلبها، لكن لا طريق إليها طيلة بقائك هنا، أنا لا أكرهك يا "زين" ، لكني أكره شرفك ، أكره مروئتك، التى تجعلك محبوب دوما ، كلما كنت نظيف ، كلما أحسست بقذارتي ، نعم أنا هنا أمامك معترف بأننى سرقت عبائتك عن طريق أمك ، كى تصدق "قمر" أنك من قتل أخيها ، الآن أنا استرحت لأول مرة منذ زمن ، إن كنت تريد أن تُلقي القبض علي، هيا أفعلها، أجعلني أكفر عن سيئاتي، لست شيطان كامل ، ما زالت آيات القرآن التي تعلمناها ، على يد الشيخ "أمين" لها أثر بداخلي ، أوقفه صوت مرتفع بالخارج وجلبة ، جعلت الجميع ينظر إلى مصدرها ، وجدوا "أمين" يدخل بصحبة رجال الشرطة، التى انتشرت بالمكان تطوقه، أسرع "أمين" يضم "ريان" و"زين" حامدا الله على نجاتهم، مال يطمئن على "زاد" الذى ذهب فى أغمائة ، نتيجة نزيف جرحه ، أقترب "ريان" من قمر يقبل رأسها كأنه يعتذ لها عن كل شئ ، حضرت عربة الأسعاف تحمل "زاد" ، أمسك أحد رجال الشرطة "حمزة" ، الذى  أبلغه الضابط الواقف ، أن حصانته قد سقطت عنه ، أثر ما فعله من جرائم وتجارة سلاح ، أخبره أنه كان تحت المراقبة منذ فترة ، خرج معهم دون كلام ، ما أن وصل إلى الباب حتى أستدار ينظر إليهم جميعا ، حتى "قمر" ألقي عليها نظرة وداع طويلة ، تركوا جميعا المكان ، لرجال الشرطة تكمل عملها به ، ساروا متجاورين وكأنهم عائدين من حرب ، قابلهم "البدر" مهلل قائلا:

-فهمت الأن ما كنت  أقوله لك يا "زين" ، بأن عليك ألا تصدق كل ما تراه عينيك ، وأن هناك جزء كبير دوما خفي عن الجميع هو الحقيقة بعينها ، أبتسم له قائلا:

-علمت يا "بدر" الأن عرفت سبب كرهك له ، علينا ألا نعطى الثقة كاملة لأحد مهما كان ، ألتفت ناحية قمر يمسك يديها قائلا:

-لكن دوما وسط العتمة هناك شعاع نور ، مهما  أصاب القلوب العطن ، تظل قلوب هى الوطن ، كقلب "قمر" الذى سوف تكمل معي ما بدأناه.

                                 "الفصل الأربعون والأخير"

                                          "يبقي الحب"

حينما تصل الحكايات إلى ختام فصولها، نقف ننظر خلفنا ، نقرأ ما كتبناه فوق صفحات قلوبنا ، نبتسم ونحن نرى صفحات عمرنا، مزدحمة بقصص الحب والوفاء، نشعر برد وسلاما يدثر قلوبنا الممتلئة بأحبة  كنز لنا، حينما نقف نقلب عينينا من خارج الدائرة ، نتنهد ارتياح لأننا فى النهاية جنينا حصاد ما زرعناه ، إن كان خير وجدناه شجرة كبيرة فروعها دعوات وأغصانها مشاعر طهر ونقاء ، إن كانت شر يبقي بئس الحصاد ، مهما فعلنا، مهما طمعنا، مهما غلب شيطاننا ذلك الملاك الساكن ضلوعنا، مهما كانت رحلتنا ، يبقي فى النهاية دوما الحب أجمل ما ورثناه .

مرت الأيام سريعا ، "زاد" تماثل للشفاء ، تاركا المشفى ، "ريان" أصبح أكثر رجولة وقرب من "قمر" وحب "لغالية" ، "أمين" هدأ قلبه واطمئنت نفسه ، فقد أنتهي كابوس أسمه الثأر ، ولعنة أسمها الدم ، "البدر" زادت حكاياته التى يرويها للناس ، حكاية عشق جديدة ، كان شاهد عليها ، "آمنة" كُسر غرورها وعنادها ، علمت فى نهاية المطاف ، أن لا شئ يدوم سوى الحب والخير ، علمت أنها كانت قاسية ظالمة ، وجهت جهودها كله  كي تتقرب من الله ، تُكفر عما فعلته ، "قمر" عادت مرة أخرى للحياة ،عادت ضحكتها وبراءة قلبها ، زاد حب "زين" بداخلها وكأنها تعوض كل ما فات من سنوات ، مرت أيام التحقيق مع "حمزة" ، فى كل التهم الموجه إليه ، ما بين تجارة سلاح  وقتل واستغلال حصانته فى أعمال مشبوهة ، ظل "زين" يتابع سير التحقيقات من بعيد ، حتى علم أنها  أنتهت وأغلق ملف القضية ، التي سوف تُنظر أمام محكمة الجنايات أخر الشهر ، وأنها سوف تكون أمام الدائرة التى يرأسها "زين" نفسه ، حاول كثيرا يتنحى  عن نظرها ، لكن طلبه رفض ، فالجميع يثق بنزاهته وشرف سريرته ، يعلمون أنه مهما كان صلته بالمتهم ، لن يبقي أمامه سوى شرفه يحكم به ، نهض فى اليوم المحدد باكرا ، صلي الفجر رافعا يديه للسماء ، يناجي ربه قائلا:

-تعلم بحالي يا الله ، وحدك تعلم حجم العراك بداخلي ، ما بين حبي له وبين شرفي وواجبي ، نعم ما زلت أحبه ، فهو نصف عمري ، تربينا سويا وكبرنا سويا ، وأحب  أيضا مهنتي وقدسيتها ، أقسمت بأسمك أن أحافظ على شرف مهنتي وألا أظلم أحد وأنصر الحق ، كن بجانبي اليوم ، ما تراه حق أجعلني أنطق به ، أجعلني  أقوي على ضعفي ، فتح "ريان" باب الغرفة بهدوء ، يطل من خلفه ، يبحث عن أبيه بأرجائها ، حتى وجده يجلس فوق سجادة صلاته ، دلف داخل الغرفة ، جلس بجواره على ركبتيه ، أنتهي  من دعائه ، ينظر إليه، أبتسم  له كمن يبحث عن الأمان والقوة بملامحه ، أمسك برأسه بين كفيه ، يُقبل جبينه ، شعر "ريان" بما يعتمل بصدره ، بادله  الأبتسامة قائلا:

-أشعر بك ، أشعر بمشاعرك الممزقة بين واجبك وحبك لعمي "حمزة" ، لكن تذكر دائما ما تعلمته من مبادئ وقيم ، تذكر شرفك الذى لا يتجزأ ولا يقبل القسمة على أحد ، ولا حتى على نفسه ، لأنه واحد صحيح ، أفعل ما يُرضي ضميرك ، وتذكر دوما أن الله سيحاسبك ، سوف أذهب أرتدي ملابسي ، كي  نتناول  أفطارنا سويا ، سوف يحضر جدى "أمين" الأن ،هز له "زين" رأسه بالموافقة ، خطى ناحية الباب خطوتين ، وقف مرة أخرى ينظر إلى أبيه مردفا :

- نسيت أن أخبرك شئ ، سوف أذهب أصطحب "قمر" ، لقد طلبت مني ذلك ، هى تريد أن تحضر معنا المحاكمة ، أغمض "زين" عينيه يهز رأسه دون كلام ، هم "ريان" أن يغلق الباب ويمضي ، لولا أن أوقفه قائلا:

- كيف حال "غالية" يا "ريان" ؟ تسمر مكانه ممسك بباب الغرفة دقائق ، إستدار ناحيته  قائلا:

- "غالية" ؟! تعرفها يا أبي ؟! أبتسم وهو ينهض يطوي سجادة صلاته قائلا:

-نعم أعرفها ، أعرف أيضا كم تحبها ، رأيت حبها لك أيضا بعينيها ، حينما كنت غائب ، ليس لدي مانع أن نتقدم لخطبتها ، بعد أن ننتهي من هذا اليوم ،عل إرتباط كما  يصلح ما  كسر بالماضي ،جرى إليه "ريان" يحتضنه وصوت ضحكاته  يملأ المكان حوله ، ضمه أبيه إلى صدره ، يشعر به ، يشعر بفرحته وقلبه الذى يرقص بين ضلوعه ، فقد عاش هذا الإحساس من قبل ، لكنه لم يجد من يقف بجواره ، بل وجد من يقف بوجهه ، لن يسمح لأحد أن يكسر قلب أبنه، لن يسمح لأحد أن يغتال حب طاهر فى مهده ، مضت الساعات سريعا ، ذهب "زين" إلى ساحة المحكمة فى موعده ، أرتدي وشاح القضاء ، وقف قليلا أمام آية قرأنية علقت فوق جدار مكتبه تقول " إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " ، تنهد بقوة ، وضع المتهم ورجاله داخل قفص الاتهام ، امتلأت القاعة بالكثير من البشر، تجاور "أمين " و"قمر" و"ريان" و"غالية" ، بجوار بعضهم ، حتى "البدر" افترش الأرض  ينتظر المحاكمة، دقت الساعة العاشرة، علا صوت حاجب المحكمة قائلا:

-محكمة ، وقف الجميع تقديرا لهيئة القضاء ، التى خرجت إلى المنصة يتقدمهم "زين" ، حيا الجميع  بأشارة  من رأسه ، جلس مكانه وبجواره جلس باقى  أعضاء هيئة القضاء ، تصفح سريعا الوجوه  أمامه ، رأهم جميعا ، تسرب إلى قلبه شئ من الونس ، ألقي نظرة خاطفة على "حمزة" ، الذى وقف داخل القفص مقيد اليدين بالحديد ، نظر إلى أحد رجال الشرطة الواقفين قائلا:

- فك يديه من هذه القيود ، رفع "حمزة" ينظر إليه ، نظرة أمتنان ، عاد "زين" بعينيه إلى ملف القضية أمامه ، فتحه يقرأ منه ، سمع الشهود ، واجه بهم المتهمين ، سمع  الدفاع ، رأي عيني "قمر" وبهما "سليم " ، رأي "أمين " ونظرة الشفقة عليه ، حتى "ريان" رأي بعينيه نظرة أعتذار عما يحمله من ثقل ، أغلق ملف القضية ، خلع نظارته الطبية ، نهض رافعا الجلسة ، معلن أن الحكم بعد المداولة ، دلف إلى قاعة المداولة هو وباقى الأعضاء ، صارت همهمات عالية بقاعة الجلسة ، ما بين شامت ، ومطالب بالأعدام ، الجميع يتحدث ، ألا "ريان " الذى مال على "أمين" هامسا:

-جدي ، هل تشعر بما سيكون حكم  أبي؟ فرك "أمين" جبهته قائلا:

-لا يهم ما ينطق به من حكم ، أنه حكم الله يا ولدي ، أبيك ما هو ألا  أداة ليس أكثر ، كل ما أخشاه ليس الحكم ، بل هو إحساس أبيك ، وما هو به الأن ، اقتربت منهما "قمر" تمسك "غالية" من يديها قائلة:

-قلبي يحدثني أن "زين" ليس على ما يرام ، أعلم مدى صعوبة وقسوة الموقف عليه ، سامح الله أمه وهذا الواقف خلف القضبان ، سامحهم الله ما فعلوه به وبنا ، نهض "البدر " صائحا:

-لا تخشون شيئا ، لن يخذلنا ولن يضحي بشرفه ، أنا أعرفه ، أعرف ما ينطق به ، اطمئنوا لن يضيع حق ،عاد الحاجب يصيح  محكمة ، خرج "زين " إلى المنصة ، ظل واقفا حتى بعد أن سمح للحضور بالجلوس ، تعلقت العيون والقلوب به ، لم يظل واقفا هكذا ؟! لماذا لم يجلس ؟! ولم لا يفتح ملف القضية وينطق بالحكم ؟! مرت دقائق والجميع غارق فى شروده ، حتى "حمزة" نفسه ، قبض بيديه على قضبان القفص ، ينتظر حكم "زين " عليه ، ينتظر إعدام الصداقة وعشرة العمر بحلوه ومره ، مد "زين" يديه يخلع عنه وشاح القضاء بأدب جم، شهق "ريان" واقفا فى مكانه ، أغمضت "قمر" عينيها ، أبتسم "أمين" إبتسامة رضا مخلوطة بحزن بادى ، رفع "زين" عينيه ناحية باب القاعة ، رأي "آمنة" تدلف للداخل ، تقف فى نهايتها تطلع إليه ، وضع الوشاح أمامه فوق المنصة ، ناظر للجميع قائلا بصوت ، جاهد أن يخرج واضحا منه:

-اسمحوا لي أن أعترف بشئ ، حاولت أن أتنحي عن نظر تلك القضية ، خوفا من أن يتحكم بي ضعفي البشري ، جاهدت كثيرا كي لا أقف هذا الموقف ، لكن الأن أتخذت قراري حقا ، لن أصدر حكمي فيها ، ليس ضعفا أو حبا لصديق عمري وأبن عمي ورفيق دربي ، لكن لأنني أنا الأخر أجد نفسي  متهم  مثله ، لا أقل أجرام عما فعله ، نعم إن كان هناك من يجب أن يحاسب ، فهو أنا ، لن أُزكي نفسي ، لن أراني ملاك وأنا موصوم بالخطأ ، لن أعتلي كرسي القضاء أصدر أحكام على البشر ، وأنا مثلهم مُدان ، شرفي وأمانتي لا يسمحان لي بهذا ، نعم أنا مُدان حينما تركت كل شئ خلفي ومضيت أبحث عن مركز ومكانة ، مُدان حينما أغمضت عيني عن الدم ولم أحاول أن أبحث عن الجاني ، كي أنقذ نفوس بريئة أخرى ، فضلت أن أبتعد بدلا من أن أواجه ، من يعرف إن كنت بقيت هنا بجوار "حمزة" ، أسمع منه وأرد خطأه ، كان من الممكن أن يبتعد عن طريق الشيطان ، لأن هناك بداخلنا جميعا ، مهما كنا بذرة خير ، تركت "قمر" تنزف وحدها ألم وندم ، بدلا من أن أضمد جرحها ، حتى أمي الواقفة هناك ، لم أقف لحظة واحدة أسأل فيها نفسي ، هل من الممكن أن تكون فعلت ما فعلت ، مخطئين حينما نرى  دوما من نحبهم فوق الشبهات ، وفوق الضعف الأنساني ، مخطئين حينما نغمض أعيينا عنهم معتقدين أنهم لا يحتاجون إلينا ، علينا لنكون عادلين أن نفتح قلوبهم ، نرى  احتياجها وجوعها ، كي يكون بمقدورنا بعد ذلك أن ننصب أنفسنا جلادون عليهم ، نعم أنا الأخر يجب أن أحاكم بتهمة تجاهل من نحب ، أيها السادة  أقتربوا ممن تحبون حتى أخر أنفاسكم ، تدثروا بهم ، لا تجعلوهم يغيبون عنكم طرفة عين ، نظر ناحية القفص ، رأي دموع "حمزة" تغسل وجهه ، أغلق الملف أمامه تاركا القاعة ، ضحك "أمين" قائلا:

-كنت أثق أنه سيفعل ذلك ، أنه ابني الذي ربيته ، أعلم كل ما يدور بقلبه ، أنصرف الجميع دون أن يروا "زين" ، الذى لم يعلم مكانه أحد غير "قمر" التى ذهبت إلى الساقية القديمة ، لحظة غروب  الشمس ، وقد بدلت الأسود الذى كانت ترتديه ، بلون وردي جميل ، حتى عينيها صارت أكثر صفاء ودفء ، وكأنها تكحلت بمن تحب ، رأته واقف أمام الساقية ، يرتدي جلبابه الصعيدى ، أبتسم قبل أن تتحدث ، شعر بها وهى قادمة من خلفه ، أغمض عينيه يشتم عطرها قائلا:

-أشتقت إليك حد الوجع ، أشتقت إليك بعمق عشرون عاما أفتقدك وأفتقدت نفسي أيضا، أقتربت تقف أمامه ، أمسك ذراعيها ، يبتسم لها ، أبتسمت قائلة:

-أنا لم أشتاق إليك ، لأن كل تلك السنوات لم يكن بي روح تشعر أو تشتاق ، لم أشتاق إليك لأنني كنت مع الأموات واليوم فقط رُدت إلي روحي المسماه  بأسمك يا "زين" ، كنت دوما محفور بضلوعي، مكتوب فوق جبيني ، أخذها تحت ذراعيه ناظرين تجاه الشمس قائلا:

-رغم كل ما حدث ، وما سوف يحدث ستبقي حقيقة واحدة ، مكتوبة فوق جبين القمر تقسم  أن الحقيقة الوحيدة الباقية على تلك الأرض هى الحب .

                                      -تمت بحمد الله-

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

2354 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع