هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • تزوج اتنتين معا | 2024-09-07
  • التنمية البشرية والمبادرة المنتظَرة، ، مقال | 2024-09-07
  • الصفر ….الصدئ | 2024-09-07
  • وصلنا لفين | 2024-09-07
  • كود 396 او كود تسلا بطيخة | 2024-09-07
  • ﻟﻠﻐﺮﺑﺔ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻭﺻﺎﻑْ  | 2016-12-28
  • خطأ التعامل مع الشخص علي أنه ذكي | 2024-09-07
  • لعنة الله علي المناصب | 2024-09-07
  • حسام حسن و العناد | 2024-09-07
  • وجبة بطاطا | 2024-09-06
  • دوامة البدايات | 2024-09-07
  • حبات الرمل (١) | 2024-09-06
  • عدة أوجه  | 2021-09-06
  • اريد | 2024-09-04
  • هذه الليلة صاخبة | 2024-08-02
  • أنت قدّها وقدود | 2024-09-05
  • خليفة إبليس في الأرض | 2024-09-04
  • للصمت حياة لا يعقلها الحالمين  | 2024-09-02
  • حياة نصفها كِتاب | 2024-09-03
  • مبعتمدش انتماءات  | 2023-09-06
  1. الرئيسية
  2. مدونة صفا غنيم
  3. عشق الراوي - الجزء الاول

                                    -إهداء-  

 

إلى صاحب  الدعوات التي تحملني دوما فوق جناحيها تشد من أزري ، تمسح روحي تخبرني أنه ترك لي ميراث يزداد مع الزمن

إليك أبي.

إلى الرحمة والخير الذى يملأ حياتي دوما

إليك أمي

إلى من يغمروني دوما بحبهم إلى أخوتي

إلى من شاركني كتابة كل حرف بتلك الرواية لأنه أحد أبطالها الذي أهداني أحداثها .

إلى عزيز رسائلي.

إلى كل الصادقين المحبين للخير ،الحاملين بين ضلوعهم قلب ينبض بالحب رغم ما يملأ الكون من جنون وقبح…..    

          

صفا غنيم.

                                    -مقدمة-

موجعة هى ضربات الشوق، قاسية هى نهشة الروح لمن نحب، نمضى ونحن نختبئ بهم دون أن يشعرون بنا،نُكمل ونحن نتنفسهم ومع كل شهقة نفس ندعهم يسبحون بدمائنا، يختلطون بأجزائنا ، مهما مرت السنين ومضينا فى طريقنا ، نبقى على عهدنا ، عهد حفرناه فوق ضلوعنا، أقسمنا به أن لا يطأ واديهم المطمئن بعروقنا أحد غيرهم، نجئ نقف أمام ماضينا وحاضرنا نسأله

لم هم دون غيرهم ؟! ما الذي يجعلنا نبيعهم ما لدينا من مشاعر هي كل إرثنا؟! من كتبهم عنوانا لنا ؟! كلما زادت قسوة برودة أيامنا تدثرنا بهم ، حينما يشتد خوفنا من ضربات الزمن، نهرب إلى أحضانهم، حتى وقت سقوطنا، نأتيهم نتكئ فوق ضلوعهم، ليس ضعف منا ، بل لأننا لا نعرف أن نُكمل الطريق دونهم

لنقسم لهم برب محمد ، أنهم ريح يوسف لنا ، وأننا فاقدين البصر والبصيرة دونهم.

                                  "الفصل الأول"

      

                                " عمر الراوي"

كان مكتب "عمر الراوي" يموج بكافة صنوف البشر، وصوت رنين هاتفه لا يتوقف ، جميع العاملين بالمكان فى حركة مستمرة ، ما بين من يستقبل الزائرين، وبين من يبحث عن أوراق وملفات ملأت المكان، حتى سكرتيرة "الراوي" كانت غارقة حتى أذنيها فى ترتيب مواعيده التي لا تتوقف، جلس فوق مقعد مكتبه الفخم يدخن سيجاره الفاخر وهو يسند رأسه للخلف، يستمع إلى قطعة موسيقة  من روائع "ذوبان"، كي تخرجه من زحام يومه وكثرة الكلام فى رأسه، فقد كان اليوم حافل بالنسبة له بالكثير من كلمات الثناء والمدح، وكيف لا يُمدح "عمر الراوي" أكبر محامي مصر وأذكاهم ؟!  بعد أن استطاع أن ينقذ رقبة أكبر رجل أعمال بمصر "أسماعيل الشريف" من السجن المؤكد، بعد أن أدخل البلاد صفقة ألبان فاسدة ، الجميع يشهد أن لا أحد كان يمتلك قدرة إنقاذه غير "الراوي"، كم من قضايا كبيرة كان هو دوما كلمة السر التى تنطق، حينما يبحث كل متهم عن طاقة أمل تُخرجه من ورطته ، قطع صوت صمته واستجمام أعصابه صوت دقات رقيقة على باب مكتبه ، جعلته يرفع رأسه من فوق ظهر مقعده الفاخر قائلا بصوت رخيم  كأنه أتي من زمن بعيد:

-تفضلي "ندى"، دلفت حيث يجلس سكرتيرته الحسناء،التى تعلم عنه الكثير وهي من تتولى ترتيب جدول قضاياه ، ومقابلة موكليه ، وتحديد وقت حضورهم إليه، نظر إلى وجهها الرقيق الهادئ قائلا:

-ماذا هناك؟! ألم أنبهك بأنني لا أريد مقابلة أحد؟! فقد كان اليوم طويل وشاق،مال فوق مكتبه يتناول سيجارة يدخنها مردفا:

-أسمعك أخبريني ماذا حدث؟! بابتسامة صافية كلون عينيها الأسود أقتربت قليلا من مكتبه قائلة:

-السيد "إسماعيل الشريف" ينتظر بالخارج ويريد مقابلتك، أبتسم أبتسامه المنتصر،حضور مثل هذا الرجل العملاق مكتبه فى حد ذاته يعد أنتصار، ضحكت "ندى" مردفة:

-هل لي أن أخبرك شئ ؟!لم تنتظر منه رد وأكملت ، كم أشعر بالفخر دوما لأنني أعمل معك، وأنك أكثر شخص بهذا الكون وقف بجواري بعد رحيل أبي، لولاك بعد الله عز وجل ما كنت أعلم  كيف ستصير الأمور، وكيف سأحيا وأُكمل؟!أنا وأخواتي وأمي، شاكرين لك كل ما فعلته من أجلي، نظر إليها

 "عمر " بتأثر واضح ، حتى أن عينيه العسليتين لمعتا من ظهور الدموع بهما ، أقترب منها ممسك بذراعيها رافع رأسها إليه قائلا:

-لا أريد أن أسمع منك مثل هذا الكلام مرة أخري، هذا حقك لا أمن عليك بشئ، ولو فعلت فوق ما فعلت مائة مرة، لن أوفي أبيك رحمة الله عليه حقه، هل نسيتِ أن أبيك هو من وقف بجواري وأنا ما أزال طفلا بعد وفاة أبي؟! واستطاع أن يحافظ لي على كل ما لدي من أموال،كان جميع شركاء أبي فى شركاته يحاولون جاهدين أن يسرقوها مني، بحكم أنني طفل صغير، لا يعي شئ بعد فى هذا الحياة، وأمي كانت بعيدة تماما عن عمل أبي ومشاريعه، خاننا الجميع عدا أبيك رحمة الله عليه ، رغم أنه كان يعمل سائق وراتبه بسيط ،عكس من كانوا يملكون الكثير والكثير، لكن الشرف نُخلق به وليس شئ مكتسب، فالإنسان الشريف شريف دوما حتى وإن كان لا يملك شئ من حطام الدنيا ، والدنئ دنئ حتى وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها، أنت لست مدينة لي يا "ندي" ولا أريد أن أسمع منك، تلك الكلمات مرة أخرى،صدقيني فى النهاية لا أحد يعرف من مدين لمن ؟! تركها عائد مرة أخرى إلى مكتبه قائلا:

-والآن هيا أدخلي الضيف ، أنني رافع عن رقبته اليوم خمسة وعشرون عاما من السجن، أومأت رأسها مبتسمه ماضية ناحية الباب، وقبل أن تفتحه توقفت مستديرة ناحيته رفع رأسه إليه مستفهما بعينيه قائلا:

-هل هناك شئ يا "ندي" ؟! فركت يديها بخجل واضح قائلة:

-أريد فقط أن أفهم كيف تعلم حقيقة هذا الرجل ، كما تعلمها مصر بأكملها ورغم ذلك دافعت عنه ونجحت فى أن تحصل له على البراءة؟! رغم أننا نعلم أنك حاسم فى حياتك وكل أمور حياتك أبيض أو أسود، لكن هذا الشيء حقا لا أستطيع فهمه ، أبتسم لها وهو يرتب بعض الأوراق أمامه قائلا:

-ما تزالين صغيرة، لم تعي شئ بتلك الحياة، عليك أن تعرفي شئ هام كى تستطيعين أن تُكملي تلك الحياة، نحن  بحاجة دوما لشئ من الدهاء.

                               "الفصل الثاني"

                       

                                 " حالة حرجة"

صوت عربة الإسعاف التى كانت تنهب الأرض نهبا، تسارع الوقت كى تصل إلى مستشفى " المودة الخاص " فى الوقت المناسب ، فهى تحمل بداخلها شخصية كبيرة مرموقة، لها مكانتها الأدبية والعملية بالشرق الأوسط، لم يمر ساعة غير وهي  تقف أمام باب المستشفى ، تعلن صافرتها أن بها حالة حرجة تريد المساعدة، خرج طاقم الإستقبال وبعض الممرضات وطبيب فى العقد الرابع من عمره يبدو على ملامحه بعض من الغلظة لا تتماشى و مهنته كطبيب، مال على الحالة يتحسس نبض وريدها ، رافع ساعة معصمة أمام عينيه، وقد تطلعت بوجهه عين سيدة قصيرة القامة شقراء الشعر، بشرتها بيضاء صاحبة عيون خضراء، يبدو عليها الوقار الشديد والهدوء الذى يخفى خلفه عاصفة من القلق، حاولت جاهدة أن تبدو متماسكة ، إلا أن دموع عينيها أبت ذلك وفاضت معلنة عما بداخلها من خوف وقلق، ظلت عينيها عالقة بوجه الطبيب، الذى عرفت من إحدى الممرضات أن أسمه "قاسم"، تنتظر أن ترى أى بادرة أمل تنبئها أن زوجها بخير، ترك "قاسم" يد المريض بجواره بهدوء قائلا لمن حوله من طاقم التمريض:

-سريعا إلى غرفة العناية المركزة ، جرى الجميع بالحالة التى يحملونها، تتبعهم تلك السيدة و"قاسم" الذى صار بجوارها رافع رأسه إلى أعلى قائلا:

-لا أخفي عليك الحالة حرجة، من الواضح أنه يعاني من مرض القلب، حاولت أن يخرج صوتها طبيعي دون خنقة تلك الدموع قائلة:

-زوجي يعاني من مرض القلب منذ عشرون عاما ، ويدخن بشراهة، حاولت كثيرا أن أجعله يقلع عن تلك العادة، لكن عمله ككاتب ودكتور جامعى أبى ذلك  كان يدفع باب غرفة العناية المركزة قائلا:

-ما قولتيه واضح ، والآن سوف نقوم ببعض الفحوصات ورسم القلب، كى أستطيع أن أقف على طبيعة الحالة، وأعرف كيف أتعامل معها، وقفت السيدة مستندة إلى الحائط ، مغمضة عينيها وهي تردد بصوت مسموع:

-يا الله وحدك تعلم أنه زوجي ورفيق دربي ومن تربيت على يديه، بحق رحمتك كن بجوارنا كما أنت دوما،أخرجه من تلك المحنة على خير، كانت تمر بجوارها كفراشة بهية الألوان، بقامتها الفارعة وعينيها الواسعتين الذائب بهما عسل صافى، وفمها الصغير تحت أنفها الدقيق، وتلك الشامة التى تعلو جبينها، وشعرها البني القصير الذى يحتضن وجهها فى هدوء، توقفت دون إرادة منها حينما سمعت صوت أبتهالاتها إلى الله، وضعت سماعتها الطبية حول رقبتها مقتربة منها هزتها برفق قائلة:

-سيدتي ماذا بك؟! هل أستطع أن أفعل شئ من أجعلك؟! فتحت عينيها ناظرة إليها، أختلطت دموعها بابتسامتها رغما عنها، كمن أطمئن لشخص وسط عاصفة هوجاء، ضيقت تلك الفراشة عينيها حينما رأتها ، مقتربة منها ممسكة بكتفها قائلة:

-لقد تقابلت معك من قبل،أنت السيدة "قسمت" زوجة الأديب الكبير "يوسف مأمون" أبتسمت لها قائلة:

-نعم أنا زوجته، أشعر أنا أيضا أننا تقابلنا من قبل، أنتِ "عشق" تلك الطبيبة التي  تهوي كتابات يوسف وتتابعه في جميع مؤتمراته ، أومأت الأخيرة برأسها قائلة:

-نعم أنا هي ، ما زلت أتذكرك منذ رأيتك، فى حفل توقيع  أحدى روايته ، يومها كان يوقع على نسخة من الرواية وعرفني بك، أخبريني ماذا تفعلين هنا ؟! ولم أنت باكية هكذا؟! مسحت "قسمت" دموعها مشيرة خلفها إلى باب غرفة العناية المركزة قائلة:-

هنا بتلك الغرفة يرقد أستاذك "يوسف" يصارع الموت، شهقت "عشق" بفزع قائلة:

-ماذا تقولين؟! ماذا حدث له؟! لقد كنت أتابعه بالأمس فى حلقة تليفزيونية وكان على ما يرام، تنهدت "قسمت" قائلة:

-كان كل شئ على ما يرام وأنهي حلقته التليفزيونية وهو عائد فى طريقه، رأي أحد الأطفال مُلقى على جانب الطريق ، منزوع الأعضاء، ترجل سريعا من سيارته ، أتصل بالنجدة التي  جاءت بعد أتصاله بفترة ، حملوا الطفل معهم ، وجاءت الشرطة بدورها ، قاموا بعمل المحضر فى نفس المكان ، وأغلقوا أوراقهم وانتهى الأمر، حاول "يوسف" أن يفهم شئ، أن يعترض ، أن يبحث عن حق هذا الطفل ، الذى لم يرتكب شئ بعد يستحق عليه ما حدث له، لكنه وجد لامبالاة وكأنه مجرد فأر ومات، عاد حزين مهموم، حاولت أن أخفف عنه ، لكنني لم أستطع فعل شئ ، سقط منى مغشيا عليه، أتصلت بالمشفى هنا، لأنني أعرف أنها أكبر مشفى تخصصي فى مصر ، والأن هو هنا يصارع الموت، لكن أخبريني ماذا تفعلين أنت هنا يا "عشق"؟! خطت الأخيرة ناحية باب العناية المركزة تدفعه قائلة:

-أنا أعمل طبيبة قلب هنا ولن أترك قلبه يتوقف مهما كلفني الأمر

.

                                "الفصل السابع"

                                   "أختيار"

حينما نُوضع بين  خيارين، أسهلهما مُر نقف تائهين، حائرين نحاول بكل قوتنا أن نستجمع شهقة نفس تأخذ بأيدينا إلى النجاة ، وقت أن تتوه الرؤية من أمامنا خيط رفيع  علينا أن نمسكه برفق، بحذر، بتوسل، كى نصل للأمان، حينما نُوضع بين خيارين، أمام أحد نثق به ، تصير الأشياء سهلة ، مطمئنة، نعطيهم أنفسنا ونحن نعلم أنهم لن يتركونا ،غير ونحن على بر الأمان.

خرجت "عشق" قاصدة مكتب مدير وصاحب المشفى الدكتور" عبد الرحمن الأيوبي" أكبر طبيب قلب فى مصر بأكملها، صاحب أنجح العمليات وأصعبها، معروف بسمعته الطيبة ونظافة يديه، ومهارته فى مجال طب القلب، وتعتبره "عشق " أب لها وقدوة ومعلم، هو الأخر يحبها بشدة ولا يرفض لها أمر، فهو من تبني مهاراتها وذكائها فى عملها ، منذ أن عملت معه بعد تخرجها فى كلية الطب، ومنذ أن سافر أبيها للخارج ، كى يعمل  دكتور جامعى  بجامعة "كاليفورنيا" ، حينما فشلت جميع محاولاته معها ، كى تسافر معه وتعمل هناك ألا أنها تمسكت بوجودها بمصر ، وأصرت على العمل فى المجال الذى تعشقه، دكتور" عبد الرحمن" تراه والدها الذى حرمت منه ، ولم تعد تراه سوى بضع أيام حينما يحضر إلى مصر ، أو تسافر هى إليه، رأتها  السيدة "قسمت" وهي تقف أمام باب غرفة العناية المركزة، أسرعت إليها تبحث عندها عن شئ يطمئنها على زوجها، رأتها "عشق" ورأت القلق فى عينيها ، ربتت كتفها مبتسمة لها قائلة:

-لا تخافي ، كل شئ على ما يرام، قلب أديبنا الكبير ما يزال قلب شباب، إن قلبه بقلوبنا جميعا، كل ما فى الأمر مجرد إرهاق ، بسبب تركيزه فى عمله وضغط الكتابة، مسحت"قسمت" دموع بدأت تنهمر وكأنها صمدت طويلا ، ولم تنجح فى كبحها أكثر من ذلك قائلة:

-الله يرزقك طمأنينة الحياة ، كما رزقتنى أمان أنا بحاجة إليه، لكن أقسمي لي أن ما أخبرتني به حقيقة، وليس محاولة منك كي تهدئ من روعي، زاغت عيني "عشق" قليلا تحاول أن تستجمع شجاعتها قائلة:

-إستمعي إلي جيدا، أعلم أنك سيدة قوية ، من تحيا مع "يوسف مأمون" ، تمتلك قلب محاربة أعلم ذلك، الأمر يحتاج إلى تدخل جراحى سريع وفوري، شهقت "قسمت" فزعا واضعة كفها فوق فمها ، إقتربت "عشق" منها تمسك يديها قائلة:

- أعلم مدى خوفك ، لكن ليس لدينا خيار أخر، دكتور "قاسم" نفسه رئيس القسم، يرفض إجراء العملية، لأنه يعلم أن الحالة سيئة، لكننى قمت بقراءة رسم القلب وهناك أمل ندخل به غرفة العمليات، يكفي أن يكون الأمل بداخلنا، كى نستطيع فعل المعجزات، تنفست"قسمت" بعمق رافعة رأسها لأعلى قائلة:

-أنا معكِ يا "عشق" ، يكفى أنك تحبينه، أعلم أن الحب يصنع المعجزات، أعلم أن الله سوف ينجيه ، يكفيني أحساسك بأنك ستصنعين المستحيل من أجل أن نخرج جميعا سالمين من تلك المحنة، لو أى طبيب غيرك ، طلب منى الموافقة على أن أقدم "يوسف" بيدي لعملية نسبة النجاح بها  ضئيلة كما علمت ، ما وافقت على هذا ، لكن أنتِ تختلفين عنهم، أنتِ تمتلكين قلب نقي ، أعلم أنكِ لن تتركيه يضيع منا، ضمتها "عشق" تمسح عليها برفق قائلة:

-لهذه الثقة سوف أفعل كل شئ من أجل أن تنجح تلك العملية، وننجي ذلك القلب الذى يعطي كل من حوله الأمل والحياة، كل ما أريده منك موافقة على إجراء تلك العملية الجراحية، دكتور"قاسم" سبقني الأن إلى مكتب مدير المشفى الدكتور "عبد الرحمن" من أجل أن يضع أمامه تقريره عن الحالة، وسوف يقنعه أن العملية مستحيلة، عليك أن تتمسكِ بحقك فى إجراء العملية ، وأنا سوف أساعدك، وأخبر دكتور" عبد الرحمن" أن العملية ممكنة ، وأن هناك أمل فى نجاحها، وسوف أخبره بتوقعي وما أنوي القيام به، فقط أريد موافقتك، أومأت

" قسمت" رأسها بالموافقة قائلة:

-لا أعرف لم هذا الشعور الذى يخبرني أنني أعرفك منذ سنوات، وأنك أبنتي التى لم أنجبها ؟! علمني "يوسف" شئ منذ أن كنا صغار،علمني أن القلب أصدق وكل ما يشعر به يصير حقيقة، وأن القلوب لا يمكن خداعها ، نحب من هم مثلنا، نحبهم لأنهم أنقياء، لا يدعون شئ كذبا، وأنا أشعر أنك جميلة فى كل شىء حتى قلبك يا "عشق"

                               "الفصل الثامن"

                                "فرع أعوج"

حينما يُولد من أصلابنا من لا يشبهوننا، حينما يخرجون عن عالمنا ، ويقطعون جلدنا كى يهربون بعيد عنا ، باحثين لأنفسهم عن ملاذ غيرنا، لا يجدون شئ أمامهم يتلقفهم سوى شيطانهم، يصيرون كغثاء السيل، كهشيم تذروه الريح ولا يبقى له أثر، الفرع دوما دون الجذع هش ضعيف، لا قيمة له ، الفرع مهما كبر وكانت شدته وصلابته ، دون أصله الذى يشبه الوتد، يسقط، يضيع وسط زحام وخضم الحياة، مهما أعتقد أنه قوى ، يبقى ضعيف دوما دون أهله، دون عزوته،

دوما نحن بمن جئنا منهم، مهما ادعينا كذبا أن لا حاجة لنا بهم.

كانت الساعة تزحف ناحية الثانية عشر ليلا، و"عليا" تقف فى شرفة غرفتها تراقب الطريق، تنتظر "عمر" الذي انتصف الليل ولم يعد، يفعلها كثيرا ليست أول مرة يغيب لتلك الساعة ، هو دوما ما يعود حينما ينام الجميع ،وكأنه يهرب من مواجهة "عليا"، التى تعلم جيدا أنه حاول مرارا وتكرارا أن يحبها، مثلما تحبه لكن دون جدوي، ليتنا نمسك بقلوبنا بين أيدينا نوجهها كيف نشاء لمن نشاء، ليتنا نستطيع حب من يحبوننا، ولا نعطى قلوبنا لأناس أبعد ما يكون قلبهم عنا، لكن لا أحد يمتلك قلبه، لا أحد له سلطان عليه، إلا الله خالقه، وقفت تنظر تارة ناحية السماء ، وتارة أخرى ناحية الباب الحديدي الكبير،  الذى يفصل بين فيلا"الراوي" وبين الطريق المظلم، إلا من بعض أعمدة الإنارة أمامها، رأت دادة "حسنية" تحمل بيديها، بعض الأطباق ، ضيقت "عليا" عينيها ، تستوضح الصورة عل الأمر أختلط عليها ، ويهيئ لها أنها دادة "حسنية" ، بعد مرور دقائق وجدتها تدخل غرفة خشبية صغيرة ،كان قد بناها "عمر" منذ سنوات، من أجل أبنها"سيد" الذى دوما ما يجلب لها المتاعب والمشاكل، حاول معه كثيرا "عمر" أن يجعله يقلع عما يفعله، من تناول المخدرات وجلب المشاكل له ولأمه المسكينة، التى كرهته من تصرفاته ، وقامت بطرده خارج الفيلا ، وخارج حياتهم جميعا ، بعد أن سرق ساعة معصم "عمر" الذهبية، يومها لم يفعل أى شئ ، سوى أنه نظر إلى داداة "حسنية" نظرة صامتة، كمن يخبرها أنه لن يتصرف تجاه "سيد" بأى شئ يزعجها، يومها تركها ماضيا إلى مكتبه،حتى ساعته الذهبية لم يأخذها منه، كمن فقد شئ أهم من الساعة والذهب، فقد ما فعله من أجل أن يصلحه، أن يجعله شخص صالح ، وفر له فرصة عمل سائق لديه، أغدق عليه المال، من أجل ألا يحيا تلك اللحظة وهذا الموقف، لكن دوما هناك شئ بداخل النفوس الناقصة ، لا يكتمل أبدا مهما فعلت، مهما حاولت أن تقوم أعوجاجها لا شئ يقومها، وكأنها تُصر أن تبقي كما هى ناقصة، ظلت عيني "عليا" عالقة بالغرفة الخشبية، تحاول أن ترى من خلال زجاج نافذتها من بداخلها، فتحت "حسنية " الباب وأغلقته خلفها، وضعت ما تحمله بيديها من طعام فوق طالة مستديرة بمنتصف الغرفة، وقفت عاقدة يديها فوق صدرها، تنظر إلى أبنها "سيد"، الذى كان يرتدي قميص مشجر بألوان كثيرة ، كأنها ألوان قوس قزح وبنطال ضيق، هى نفسها تعجبت كيف استطاع أن يرتديه، وضع حول عنقه سلسلة غليظة واضح أنها من الذهب، وبيديه خاتم كبير، باليد اليسرى ساعة كبيرة تلفت النظر بسبب حجمها الذي  يخلو من أى ثمة جمال أو أناقة، دون كلام مد يديه إلى الطعام يأكل فى نهم واضح، وهى كما هى ، تقف مكانها تطلع إليه ، نظر إليها والطعام يملأ فمه ، مشيرا بيديه قائلا:

-تعالي يا أم سيد أجلسي، تناولي الطعام معي، تدرين شئ يا أمي، مهما تذوقت من طعام ، يبقى طعامك أنت شيء آخر، له نكهة غريبة لا أجدها فى أى طعام غير طعامك، أمسك بقطعة لحم يأكلها، وهى كما هى لا تنطق، لا تتحرك من مكانها، أنتهي من قطعة اللحم ، وأخذ كوب الماء الذى وضع أمامه يشرب منه قائلا:

-أشعر أنك لا ترغبين بوجودى هنا ، قد جئت من أجل أن أراك وأطمئن عليك، بغضب واضح فركت كفيها قائلة:

-أخبرتك من قبل أننى لا أريد رؤيتك، فقد نسيت منذ زمن أن لدى أبن، تناثرت قطرات الماء الذى كان بيديه فوق ملابسه قائلا:

-ولم كل هذا ؟! من أجل "عمر الراوي" ! أخبريني من منا إبنك يا أم سيد؟! أنا أم هو؟! ماذا فعلت جعلك تكرهينني كل هذا الكره ؟! صرخت بوجهه مشيرة بإصبعها قائلة:

-تعلم جيدا ماذا فعلت، والجميع يعلم أنك سارق، سرقت الرجل الذى كان يأويك فى بيته، قابلت الحسنة بالسيئة، مللت الكلام معك، يئست من إصلاحك، والأن أخبرنى ما هو السبب الذي أحضرك إلى هنا ؟!وبسرعة  قبل أن يحضر "عمر" ويراك هنا ، مد يديه يمسح فمه قائلا وهو يضع يديه بجيب بنطاله، يخرج نقود كثيرة يمد يديه بها إلى "حسنية قائلا:

-جئت من أجل أن أعطيك هذا المال، وأخذك معي ، لقد اشتريت شقة واسعة لى ولك، سوف أريحك من هذا التعب والعمل لدى أبن "الراوي"، أخذت تنظر إلى النقود بيديه وإليه قائلة يتهكم:

-أخبرني أولا من أين أحضرت تلك النقود؟! جلس راجع بظهره للخلف واضعا ساق فوق ساق قائلا:

-عملت في مهنة تجلب لى الذهب، أنظري إلى ، ألا ترين فخامة ملابسي ؟! وهذا الذهب الذي أرتديه؟! حتى تلك الساعة الذهبية الكبيرة، أظنها أكبر وأثمن من ساعة "عمر" التى سرقتها من قبل، ضربت المنضدة بيديها ، لتصطدم الأطباق ببعضها قائلة:

-حسنا أخبرني ما هى تلك المهنة التى أغدقت عليك كل هذه الأموال؟! هل عملت طبيب أم قاضيا؟! لكن من هم مثلك أكبر مهنة يستطيعون العمل بها ،هى مهنة السرقة والنصب، لكن أخبرني من سرقت تلك المرة ؟! هل شخص قدم لك الخير كما فعل معك "عمر"؟! أم أنك سرقت من يشبهك؟! تريد أن تأخذني معك، حسنا سوف أتي معك بشرط ، أن تخبرني الأن وتكون صادق فيما تقول ،ما هو العمل الجديد الذى جعلك فى مصاف الأغنياء فى ليلة وضحاها؟! صمت "سيد" يفرك رأسه كمن يبحث عن شئ يقوله، وعيني "حسنية" تقذفه بشرارات لهب قائلة:

-تراك نسيت ماذا تعمل؟! أم أن الكذب لا يسعفك بكذبة ترويها لي؟! الأن تأكد أحساسي بأن عملك الجديد، لم يفرق كثيرا عن عملك القديم، الأثنين بلا شرف ، والأن تفضل من هنا ، ولا تفكر مرة أخرى أن لديك أم ، ضيعت عمرها وشبابها عليك ، بعد رحيل أبيك ، من أجل أن تصبح رجل ، لكن شيطانك أقوى من كل ما فعلت، خطى "سيد" ناحية الباب يفتحه، توقف ينظر إليها قائلا:

-طيلة عمرك تفضلين "عمر" على، ترفضين الأتين معي من أجل أن تبقين هنا بجواره، أبتسمت رغما عنها وهى تعض شفتيها قائلة:

-أنت غبي يا ولدي، وسوف تبقي غبي طيلة عمرك، لا يوجد أم على هذه الأرض تحب أحد أكثر من أبنها، لكنك لم تستطع أن تجعلني أشعر معك بالأمان والأحتواء الذي أشعر بهما مع "عمر"، رغم أنني لست أمه، وهو لم يجئ من رحمي ،لكنه يعرف أن كل أم تعتبر أم لمن حولها ، لها حقوق ، هو دوما ما يعطيني حقى دون أن يسألني أين حقه مني، هو دوما يشعرني أنه ولدي ، غيرك تماما ، دوما تشعرني أنك خطيئتي التى لم أفعلها على تلك الأرض، تتباهى بأن ساعتك أكبر وأثمن من ساعة "عمر" التى سرقتها سابقا، كنت أتمنى أن تتباهى بأنك أفضل منه بعملك وشرفك وضميرك، وليس بساعة معصم تعلم من أين جئت بها ومن أين قبضت الثمن؟! لن أستطيع أن أدعو عليك، لأنك مهما فعلت أبني، كل ما سأفعله أن أطلب منك شئ واحد فقط، لا تجعلني أراك ألا وأنت ماحي جميع ذنوبك، مغسول من أخطائك، أجعلني أراك شريف ولو لمرة واحدة ، كى لا أرحل وأنا أشعر أنني أضعت عمري هباء.

                             "الفصل التاسع"

                              "حديث دافئ"

تظل الأحاديث حبيسة صدورنا، لا تهرب من بين ضلوعنا، تحتمي به من لحظة ضعف أنساني ، يجعلنا نلقي بكل ما حملناه أمام أى عابر سبيل، نظل ممسكين لجام كلامنا ، رافضين النطق به ، إلا لمن يمتلك قدرة ترجمته دون مساعدة أو تبرير، نخفي كل ثقل بداخلنا، كي نبقى كبار أمام كل من حولنا ، حتى يشاء القدر ويجمعنا بمن نودعهم دوما أسرارنا، وقتها فقط يفتح الكلام مجراه فوق طاولتهم، يثرثر بحروفه كأنه جريان نهر جارف ، لا شطأن له ، لا مصب ينتهي عنده سوى من نجد عندهم صدى لتلك الأحاديث واحتواء لهذا الكلام.

قفز "خالد" بجوار "عمر" داخل سيارته يحتضنه بشدة والأخير يضمه وهو يضحك قائلا:

-أنتظر حتى أستطيع أن أصافحك، كما أنت مهما بلغت من العمر، تظل طفل لا يقاوم مشاعره، تركه "خالد" يخلع عن رأسه كاب الطيران الخاص به ، ملقى به أمامه قائلا:

-ولن أكبر مهما مر عليا من زمن، معك أنت يا صديق العمر لا أستطيع كبح مشاعري، أخبرني أنت كيف؟! وأنا مهما حاولت أن أعرف غيرك ، لا يستطيع أن يأخذ شئ من مكانتك عندى، نظر إليه "عمر" نظرة حانية،عائد بعينيه إلى الطريق قائلا:

-وأنا ليس لدي أخ وصديق وشئ أدخرته من الزمن سواك أنت و….، وهنا وقفت الكلمات فوق شفاها، أبتسم له "خالد" أبتسامة حزن قائلا وهو يضرب زجاج نافذة السيارة بجواره قائلا:

-هل سنظل واقفين هكذا؟! لقد إشتقت لمصر، إشتقت إلى الحديث معك، هيا أنطلق إلى مكاننا المفضل هناك على النيل ، نحكى ونثرثر كما نريد، أدار "عمر" مذياع عربته الفاخرة على أغنية لفيروز منطلق وسط صخب "خالد" وضحكاته، وصلا الأثنين إلى مكان راقى وجميل على ضفاف النيل، يشعر من يجلس به أن لا شئ بمصر سواه، النيل وصوت مياهه الرقيقة ، التى تضرب جداره على استحياء، الأضواء المتناثرة فوق مياهه ، همهات زواره ، يشعرك بشيء من الدفء والونس، دوما "عمر" يختار كل شئ بعناية ، بأحساس، وكأنه يعشق الشئ أولا ، كى يكن بمقدوره أن يتعايش معه، دوما تربطه قصة حب بالأشياء من حوله ، هو دوما هكذا ، لا يستطيع أن يفعل شئ أو يختاره سوى بالحب، جلسا الأثنين فوق طاولتهم المخصصة لهما دوما فى نهاية المكان ، قرب صفحة النيل ، ألقي "الراوي" بمفاتيحه فوق الطاولة ، جالسا مكانه ، وفى المقابل جلس "خالد" يتنهد وهو يقلب عينيه بالمكان قائلا:

-مهما سافرت وشاهدت من بلدان وعواصم، تبقى مصر في القلب، تبقى لها مكانة خاصة ورائحة مميزة، لا أجد نفسي، لا أشعر بالأمان سوى هنا على أرضها ومعك يا صديقي، قطع كلامه صوت النادل الخمري اللون قائلا بابتسامة عريضة:

-أهلا سيد "عمر"أهلا كابتن "خالد" أنرتم المكان ، كنت أعلم أنكم  ستحضران الليلة، فهذا هو موعد عودة كابتن"خالد" من سفره،أبتسم كلاهما إليه ، فهما يعرفونه حق المعرفة ، يقابلاه دوما حينما يحضران إلى المكان، حتى صارت معرفة قوية بينهم، مد إليه خالد بعلبة دواء صغيرة  قائلا:

-هذا هو دواء والدتك الذى لا تجده هنا ، حينما تنتهي منه، أخبرني أحضر لك غيره، أومأ الشاب برأسه فى أدب جم قائلا:

-لا أعرف كيف أشكرك على ما فعلته ، هذا الدواء مهم جدا لقلبها، وللأسف غير متوافر هنا، شكرا لك كابتن "خالد"، أبتسم له الأخير قائلا:

-ألن تحضر لنا قهوتنا ؟ أشتقت لتناول قهوة مصر من يديك، ضحك الشاب قائلا وهو يخطو مبتعد عن المكان :

-دقائق تكون أمامك ما، تركهما ماضيا ، لينظر "خالد" إلى "عمر" الذى كان شارد تماما فى مياه النيل أمامه، وكأنه ليس معهما ، هزه "خالد" برفق قائلا:

-ماذا هناك فيما أنت شارد هكذا؟! مسح "عمر" وجهه بكفيه قائلا:

-لا شئ ، اليوم كان طويل ومرهق حقا ، كسبت أكبر قضية كانت مصر تتحدث عنها، لكنني غير سعيد بهذا، حصلت على أكبر توكيل لبن أطفال فى مصر، لكنني أيضا غير سعيد بذلك ، لأنني خائف من تلك الأمانة ، ضيق "خالد"عينيه قائلا:

-أحكي لي بهدوء ما حدث ودعنا نرى ، قبل أن يهم "عمر" بالحديث حضر النادل يحمل صينية عليها فنجانين من القهوة، التي كانت رائحتها تسبقها، مد "عمر" يده يمسك فنجانه يرتشفه وهو يروي ما حدث "لخالد"، الذى ظل صامتا يستمع إليه حتى أنتهي من حديثه ، وضع الأخير فنجان قهوته الذي أنهى ما به من قهوة قائلا:

-فهمت موضوع القضية ، لكن ما لا أفهمه هو لم خوفك من هذا التوكيل لهذا الحد؟! مع أنه فرصة كى تصلح ما أفسده هذا الرجل ، تنهد "عمر" قائلا:

-عندما صممت على أخذ التوكيل منه، لم يكن بعقلي سوى شئ واحد فقط ، هو أن أنجي أطفال صغار، من رجل كهذا الذى يتاجر بطعامهم، ويغش فيما يصنعه، غير عابئ بكون أنهم أطفال، أخذته منه لأننى أردت أن أصنع غذاء أمن لهؤلاء الغلابة، بسعر مخفض بعيد عن السوق السوداء وتجارها، لكن لا أخفى عليك، شعرت بعدها بخوف من الذى يأتي خلف هذا التوكيل، من تنازلات ولعب خفي يحدث فى الكواليس أنت تعلمه، عاد "خالد" بظهره للخلف قائلا وما زالت أبتسامته فوق شفاهه:

-لا تخف أنت "عمر الراوي" ذلك الرجل القوى ، الذى لا يفعل شئ رغما عنه ، مهما كانت الضغوط من حوله، الأن فقط عرفت لم دافعت عنه وأخرجته من تلك القضية، سمعت بأحداث ما حصل وأنا بالخارج، تعجبت منك، لأنك لا تقبل مثل هذه القضايا، لكن الآن علمت فيما كنت تفكر، أستخدمت هذه القضية كخطوة للحصول على التوكيل، وإنقاذ أطفال أبرياء، لكن يا "عمر"هل تعتقد أن رجل مثل" أسماعيل الشريف"  يعجز عن غش أى شئ أخر؟! يعجز عن الحصول على توكيل جديد يدس به سمومه وجهله، رفع "الراوي" حاجب عينه اليسرى قائلا:

-وهل تعتقد أن مثل هذا الأمر يفوتني، لقد هددته إن فعل مثل هذا الأمر مرة أخري، سوف أدخله السجن بيدي، لا تخف مثل هذا الجاهل ما هو إلا أداة لغيره.

نظر "خالد" نظرة صامتة فهمها " عمر" الذى هرب بعينيه فى مياه النيل قائلا:

-أخبرني هل حدثتني بكل ما أردت التحدث إلي فيه؟! مد "عمر" يده يشعل سيجارة قائلاً:

-نعم هذا ما أردت قوله، هل هناك شئ أخر تراه؟! أبتسم له "خالد" يشير بأصبعه ناحية قلبه قائلا:

-نعم هناك ما يخص هذا ، تريد أن تقوله، بهذا القلب العنيد ثلاثة وعشرون عاما تريد الإفصاح عنهم كلما رأيتني، وكأن لا شئ بحياتك رغم زحامها سواهم، دوما تشعرني أن عمرك بأكمله ، وحياتك ،ونجاحاتك وشهرتك، لا شئ بهم سوى الثلاثة وعشرون عاما الذى يشغلون قلبك ويسلبون روحك يا "عمر"، حتى "عليا" لم تستطيع طيلة العشر سنوات عمر زواجكما، أن تنسيك تلك السنوات، وتأخذك منها، إلى متى يا  صديقي؟! إلى متى سوف تحيا معذب بها ؟! أحيانا كثيرة أشعر أنك منفصل عن عالمنا، تحيا داخل ما مضى فقط، حتى أنت نفسك أشعر أنك مسروق منك، مذبوح على أعتاب تلك السنون، حاول أن تنسى، جاهد من أجل أن تحيا حياتك " عليا" تحبك بشدة وأنت تعلم هذا، حاول أن تنتزع نفسك وتفر بعمرك من لعنة تلك السنوات ولو لمرة واحدة من أجلك أنت

أغمض "عمر" عينيه بشدة ، كمن يريد أن يُسقط من ذاكرته شئ قائلا:

-كم حاولت ، أقسم لك أني حاولت، وفى كل مرة كنت أفشل ،كنت أشعر وكأنني أخون نفسي، كأن شئ يسلخ مني روحي دون رحمة، صدقنى حاولت مرارا أن أنسي وأحيا بعيد عن تلك السنوات وهذا الطيف، لكن كل شئ بي كان يتركني ويهرب إليها، وكأنه منها وليس مني، وقتها فقط علمت أن تلك السنوات، تعويذة مسحورة ، كُتبت بأسمي ولن أستطيع الفرار منها، أخبرك بشئ أخير وتصدقني، أنا نفسي كاذب، أنا نفسي لا  أستطيع العيش دون تلك الثلاثة وعشرون عاما، أجد نفسي بهما ، أجد نقائي القديم وطُهر نفسي، أجد بساطة أيامي، أجدني أنا بعيد عن كل هذا الزيف الذى تراه حولي، وبالنسبة ل"عليا" أنا أعاملها كما أمرني الله ، أحسن عشرتها ، ولا أبخل عليها بأى شئ، إلا شئ واحد فقط ، ليس لي عليه سلطان ولا أملك أمره بيدي.

                              "الفصل العاشر"

                               

                                  "إنتصار"

كلما صدق إحساسنا ، كلما تمسكنا به ، حاربنا من أجله ، معلنين للجميع أننا لن تتنازل عنه وإن أهلكنا من أجله العمر ، نتمسك بما يخبرنا به القلب أنه صدق وحق ، لا نضعف ، لا نلين، لا نخضع لصوت أحد ، مهما أخبرنا أن ما نريده كذب، دوما أحساسنا صادق، دوما ما ينبهنا به يكون هو ما كُتب فى عالم الغيب

دفعت "عشق" باب مكتب صاحب ومدير المشفى "عبد الرحمن"، تتبعها السيدة "قسمت" ، لتجده يجلس مع دكتور "قاسم" ، يتبادلان حوار  أستطاعت "عشق" أن تعرف أنه يخص عملية الأديب "يوسف مأمون" رفع دكتور " عبد الرحمن" عينيه إليها قائلا بابتسامته الأبويه:

-مرحبا "عشق" تفضلى، ألقي بنظرة خلفها ، رأي السيدة تقف بابتسامة خفيفة تحييه ، وقف مكانه يمد يديه يصافحها قدمتها "عشق" إليه قائلة:

-السيدة "قسمت" زوجة الأديب "يوسف مأمون" ، مؤكد أن دكتور"قاسم" روي لك ما حدث، ومؤكد علمت حالته ، قاطعها دكتور "عبد الرحمن" وهو يشير لها وإلى السيدة "قسمت" قائلا:

-دعينا نجلس أولا ونناقش الأمر فيما بيننا، جلست فوق أريكة جلدية فى مواجهة مكتبه ، بجوارها السيدة "قسمت"، أستدار دكتور "قاسم" ناحيتها ، يضغط نظارته الطبية يثبتها فوق عينيه قائلا:

-أنا لا أعارض قيامك بتلك العملية ،كما أنني لا أنكر أنك طبيبة ماهرة ، لكن ما أنكره هو أن ألقي برجل كهذا إلى التهلكة، من أجل أجراء عملية جراحية خطيرة، نسبة النجاح بها لا يتعدى شئ، همت "عشق " أن تنطق ، لكن كانت "قسمت" أسرع منها ، نظرت إلى "قاسم" قائلة بصوت هادئ:

-لقد تعلمت من زوجي شئ هام ، وهو أن أتمسك دوما بنسبة الأمل فى أى شئ، حتى ولو كان واحدة فى المائة، هذا الواحد يعطيني أمل ورجاء، طالما هو موجود هناك شئ يجعلني أحارب من أجله، وزوجي هو كل ما لدي بهذا العالم، ولهذا سوف أتمسك بتلك النسبة الضئيلة من الأمل، وأوافق على دخوله لأجراء العملية، أمسك دكتور "عبد الرحمن" بقلم كان أمامه قائلا:

-أقدر شعورك ، كما أقدر قيمة أديبنا بمصر والوطن العربي أجمع، جميعا نتمنى إنقاذه ، لكننا دوما كأطباء، نضع الفشل أمامنا قبل النجاح فى أى شئ، إبتسمت "قسمت" قائلة:

-وأنا تمسكت بالنجاح  وواثقة أن الله لن يتركنا، كما أنني أثق "بعشق" وبقدرتها كطبيبة، لقد اتخذت  قراري وسوف أوافق على إجراء زوجي تلك العملية ، ليس أمامي خيار آخر، تنهد دكتور "عبد الرحمن" ناظر إلى "عشق" قائلا:

-أخبريني إذن ما هو تصورك للعملية ومن أين ستبدأين؟! وقفت فى حماسة ، متجهة إلى مكتبه، أخرجت من جيبها صورة لرسم القلب الذى حصلت عليه قائلة:

-سوف نتدخل بعملية قلب مفتوح، هذا هو الحل ولا تخشي شئ ، وعد مني أمام الله ،أنه سوف يخرج منها سالم ، كل ما أريده فقط موافقتك، نظر دكتور

 "عبد الرحمن" إلى رسم القلب، رافعا عينيه إليها قائلا:

-الأمر معقد للغاية وأنتِ تعلمين ذلك، أنظري جيدا إلى هذا التقرير يا "عشق" وقفت منصوبة الظهر قائلة بتحدي:

-أعلم أن الأمر جدا خطير ومعقد، لكننى قررت ، والله معي لن يخذلني، لأننى أريد أحياء إنسان، أمسك "عبد الرحمن" بورقة وقلم قائلا:

-لا مفر من إصرارك عرفك جيدا ، سيدة "قسمت" من فضلك أريد توقيعك هنا، بالموافقة على إجراء العملية ، وأنت يا "عشق" عليك أن توقعي خلفها، نهضت "قسمت"دون كلام ، أمسكت بالقلم توقع على الإقرار، ومن خلفها "عشق" التى نظرت إلى دكتور"قاسم " الذى جلس صامت تماما ، نظرة أنتصار قائلة وهي تهم بالمغادرة:

-سوف أذهب أجهز الحالة لدخول العمليات وأنت يا دكتور "قاسم" أريد مساعدتك لي، أنت من أمهر الأطباء هنا، ومهما أختلفنا تبقي تلك حقيقة لا ينكرها أحد، أغلقت الباب خلفها ، تاركة دكتور "عبد الرحمن" يضحك قائلا:

-كم أنا مبهور بك يا "عشق"، نهض دكتور "قاسم" يتبعها ولسان حاله يقول:

-ليس بيدي شيء أفعله سوى أن أتبعك.

                           

                            "الفصل الحادي عشر"

                              "حديث وألم"

نتمنى أن نوجعهم بما جعلونا نشعر به، نحاول جاهدين أن نذيقهم عسلهم المُر، نقُسم ونتوعد أننا سنجعل من كلماتنا سكين يضرب قلوبهم دون أن يقتلهم، نرتدي مشاعر غير مشاعرنا للحظات ، فقط من أجل أن نحمل ما تركوه بأرواحنا من غصة، نلقيها بين شرايينهم علهم يعيشون وخز المشاعر وبكاء الروح الذين أورثونا إياه ، لكن كل مرة نفشل، نبكي، نضرب الأرض كصغار معترضين على ما لا يعجبهم، نشهد أنهم منا وأن القلب مسكنهم، ننأى بهم عن كل ما يؤلمهم، نتمنى لو أخذنا كل شر بعيد عنا ، يهون علينا العمر ذاته وهم لايهونون مهما فعلوا.

عاد "عمر" إلى فيلته بعد أن أنتصف الليل بساعة وأكثر، دلف بهدوء إلى البهو الكبير، لم يجد أحد ، قصد الدرج كى يصعد إلى غرفة نومه يستريح، ويضع عن كاهله روتين وضغط يومه الطويل، كى يتجرد من الشكليات والوجه الذى يرتديه، أوقفه صوت "حسنية" وهى تشعل نور البهو قائلة:

-"عمر" حمد لله على سلامتك ، تأخرت اليوم ، أين كنت حتى هذا الوقت ؟!

أبتسم لها ابتسامة حانية، أقترب منها يقبل رأسها قائلا:

-كنت مع "خالد" يا دادة، عاد اليوم من سفره ، وكما تعلمين ليس لدى أصدقاء غيره، كنت مشتاق إليه بشدة، سرقنا الوقت فى الحديث ولم ننتبه غير والساعة تعلن منتصف الليل، لكن أخبريني لم أنت مستيقظة حتى هذا الوقت؟! تنهدت محاولة أن تحتفظ ببتسامتها قائلة:

-أنتظرك ، حدث شئ اليوم أريد أن أخبرك به، وضع مفاتيحه وحلته فوق الأريكة ، مقترب منها يمسك بيديها ، صارت معه بهدوء ، أجلسها وجلس بجوارها قائلا:

-ماذا حدث يا دادة ؟! أنا مصغي إليك ،عضت شفتيها تحاول أن تجمع كلماتها قائلة:

-لقد حضر "سيد" اليوم هنا ، لكنني لم أدعه يضع قدميه بداخل الفيلا، قابلته بالحجرة الخشبية فى الحديقة، ضيق "عمر" عينيه يفرك جبهته قائلا:

-لم يا دادة ؟! أنه أبنك وصاحب بيت، لم يكن يليق به وبك ما فعلتيه، همت أن تتحدث بانفعال واضح ، إلا أنه وضع كفه فوق فمها بلطف وهو يبتسم مردفا:

-دادة أعلم ما تنوين قوله، لكنني نسيت تلك القصة ، مهما حدث لن أنسي أن "سيد" أبنك، وأنتِ من ربتني بعد رحيل أمي ولم تتركني للحظة، حتى بتِ أمي الثانية، مهما فعل أبنك ، لا أملك أن أفعل شيء حياله من أجل خاطرك أنتِ، إن حضر هنا بعد الأن ، عليك أن تقابلينه هنا داخل بيتك وبيته، وليس بحديقة القصر، بكت "حسنية" بشدة ، جعلت " عمر" ينتفض فى مكانه ، أخذ يمسح فوق رأسها يهدئ روعها قائلا:

-ماذا حدث لكل تلك الدموع ؟! أخبريني هل أزعجك بشئ وهو هنا؟! حاولت "حسنية" أن تهدأ قائلة :

-"سيد" يسير فى طريق وعر يا "عمر" لقد سار فى طريق لا عودة منه، باع نفسه للشيطان، لوى الأخير عنقه يستفهم بعينيه ، التى فهمت "حسنية" ما ترمي إليه لتكمل مردفة:

-جاء اليوم وهيئته مختلفة تماما، يلبس ملابس غالية وإن كانت خالية من الذوق، يرتدي الذهب ، وبحافظته  نقود كثيرة يا "عمر"، كثيرة بشكل يجعلك تخاف، أى عمل يجلب كل تلك النقود وهذا الذهب؟! أنا أعرف أبني حق المعرفة، هو لا يستطيع العمل فى شئ شريف، أنا أعرفه لقد ألفت روحه الحرام ، لذلك أعلم أن هناك شئ خفي وغير مريح، شرد "عمر" قليلا عائد بعينيه إليها قائلا:

-لا تخافي يا دادة ، أتركي هذا الأمر لي، سوف أعرف ما يفعله، ومهما كان لن أتركه يفعل شئ يؤذيك ولا يؤذيه هو الأخر لأنه منكِ يا دادة، حاولت أن تُقبل يديه ، إلا أنه جذب يديه منها بشدة ، ممسك يديها يقبلها ورأسها قائلا:

-لا تفعلي هذا مرة ثانية ، أنتِ أمي وهذا حقك علي أنا ، والأن هيا انهضي، كى تنامين، السهر يؤذي صحتك ، وأنا أريدك دوما بجواري، مد لها كفه تستند إليه، نهضت وهى تدعوا له ، مال يتناول مفاتيحه وحلته يغادر حيث غرفته، أوقفها صوته مرة أخرى ، أستدار ينظر إليها قائلا:

-هل هناك شئ أخر يا دادة؟! نظرت بالأرض ثم إليه قائلا:

-"عليا" يا "عمر"، نظر إليها نظرة صامتة بها ألف كلمة فهمتها دون أن يبوح بها، أغمضت عينيها كمن يعتذر لأحد عما سيقوله مردفة:

-أعلم ما تحمله داخلك، أعلم من كُتبت منذ زمن فوق أضلعك، أعلم أن عمرك تنازلت عنه بطيب خاطر، كما أعلم أنك مقسوم نصفين، مذبوح بين ما تبحث عنه وبين ما تحيا به ، لكنني أعلم أيضا كم تحبك "عليا"، لن أقول لك بادلها حب بحب، وإلا سوف أكون قاسية ، وأطلب منك ما ليس بيديك، وما لا تملك زمامه، سوف أطلب منك أن تحاول أن تُشعرها ولو بالكذب أنك معها، أنها تتعذب لأحساسها أنها لم تستطع إسعادك، وتُعزي ذلك إلى عدم قدرتها أن تنجب لك طفل، أوقفها "عمر" بتنهيدة قوية ، شعرت أن ضلوعه تكسرت وهى تخرج من صدره قائلاً:

-أستحلفك بالله يا أمي ، أستحلفك برأس كل من تحبين ، لا تفتحي جُرح لم يندمل بعد، لا تضعي فوقه جمر من نار وهو يئن، أستحلفك بغلاوتي عندك ، ألا تقطعين قلبي أكثر بيديك، أتركي ما دُفن مدفون كما هو،أنا لم أطلب من "عليا" أن تنجب لي أطفال، لم أُشعرها بأنني أحتاجهم، لم أُقصر فى حقها ولو ذرة ، لكن هذا وضرب فوق قلبه بشدة ، جعلتها تجرى نحوه ، تمسك بيديه كى لا يفعلها ثانية ، ليبكي كالأطفال مردفا:

-هذا ليس بيدي، أقسم بالله ليس بيدي، ولو كنت أمتلك زمامه لأخرجتها منه منذ زمن، لقد تربت هنا بين ضلوعي ، كبرت يوم بعد يوم أمام عيني، وإن كانت عيني لا تراها ولا أعرف عنها شئ، إلا أننى أشعر أنها معي ، تغفوا كل ليلة بحضني، أروي لها كيف كان يومي؟! أستيقظ كل صباح على أمل أن أجدها، أن أعثر عليها بين زحام البشر، تعبت ، تعبت من الإنتظار ، ومن الأمل الذى لا ينتهي، حتى الغد الذى أتعشم أن يحملها معه إلي ، تعبت من انتظاره، لكنني لا أعرف أن أحيا دونها ، صدقيني وجودها ولو بالكذب يجعلني أحيا ، لا تطلبين مني مرة ثانية أن أنسي أو أسقطها أرضا من قلبي وأمضي فى طريقي،من سيطلب مني ذلك، سوف يخسرني للأبد، ضمته إليها مطبقة بيديها عليه، بكت معه وبكي كما لم يبكي من قبل، شعرت أنه حمل كثيرا حتى فاض منه الكيل، شعرت أنه يتكسر فوق صدرها، لامت نفسها مائة مرة ، أن فتحت معه تلك القصة ، تمنت لو أخذت منه ما كانت السبب فيه ، تركته يبكي حتى هدأ تماما ، أخرجته من حضنها تمسح عينيه قائلة:

-حينما ناديتني يا أمي ، علمت أنك متعب حد الوجع، أنت لا تناديني يا أمي ، إلا حينما يقف بك كل شئ، سامحني يا بني ، والله لو كنت أعلم أن كل هذا الوجع بداخلك ما نطقت ، ولا نبشت بذكري تؤلمك ، رفع رأسه عاليا قائلاً:

-لا عليك يا دادة، لم يحدث شئ ، الفجر يؤذن ، سوف أصليه وأنام ، كى أستيقظ باكرا لعملي، تركها يصعد درج السلم ببطء، وهى واقفة مكانها تتبعه بعينيها ولسان حالها يقول:

-ليضعها الله يوم فى طريقك ، من أجلك فقط ، من أجل أن تحيا الباقى من عمرك وأنت تتنفس يا بني.

                             "الفصل الثاني عشر"

                                "قلب يحيا"

ننسى كل شئ ، حتى أسمائنا والوجوه من حولنا، ننفصل عن الحياة وما يحدث بالكون، نصم أذاننا عن كل الأصوات ، إلا صوت نبضات قلوبنا ، التى تضربنا دون رحمة ، فقط من أجل أن تخبرنا أننا أحياء،نحبس أنفاسنا من أجل ألا تتحرك أعيننا عنهم، وكأننا أن أغمضنا أعيننا عنهم  طرفة عين ذهبوا منا .

وقفت "عشق" تعقم يديها وترتدي سترة بيضاء أستعداد لدخول غرفة العمليات، كي تجري عملية القلب المفتوح "ليوسف مأمون"، وقف بجوارها دكتور "قاسم"، يفعل مثلما تفعل نظرت إليه قائلة:

-لولا وجودك معي ما كنت أمتلك الشجاعة ، لخوض مثل تلك العملية الخطيرة بمفردي، شكرا أنك هنا بجواري، وأتمنى ألا يكون أختلاف وجهة نظرنا ، قد جعلك تأخذ موقف مني، أنت فى نهاية الأمر، أستاذي ورئيس القسم، أردت أن أجعلك تفتخر بي  كتلميذة لك، وفى نفس الوقت "يوسف مأمون" حقا من مثله يجب أن يعيش، أنهي "قاسم" تعقيمه، ممسك بأحد المناديل يجفف يديه قائلا:

-لا داعي لك هذا الكلام ، أعلم أنك طبيبة ماهرة، سواء تعلمتي تحت يدي أم تحت يد دكتور "عبد الرحمن"، أنا لست ضدك "عشق" أنا فقط ضد أن نجعل إنسان حقل تجارب، تلك العملية أرى من وجهة نظري أنها صعبة جدا، ونسبة نجاحها ضيئل، لكن كما قلت،علينا أن نتمسك بهذا الأمل وإن كان مجرد شعرة، سوف نفعل ما علينا والباقي على الله، لكن قبل دخولنا غرفة العمليات، عليك أن تعرفي أنني سوف أراقبك فقط ، لن أتدخل إلا إذا لزم الأمر، ليس من أجل أن أتركك بمفردك، لكن ليكن نجاح العملية كله منسوب إليك ، أبتسمت له "عشق" أبتسامة إمتنان ، فجأة فُتح الباب ، ودخل شاب يافع طويل القامة، أبيض البشرة ، له عينان خضراوان ، شعره بني كثيف، لكن به شئ غير مريح، من يراه لا يدخل قلبه، دلف يرتدي سترة العمليات البيضاء ويعقم يديه، تبادلت "عشق" النظرات مع "قاسم" ،قطع صوت صمتهم ودهشتهما صوت هذا الشاب قائلا:

-سمعت أن اليوم سوف تجري دكتورة "عشق" عملية خطيرة، كان يجب علي أن أحضر وأُلغي مواعيد الجيم ، من أجل أن أشاركها هذا الحدث، فتحت "عشق" فمها من الدهشة ضاربة كف بكف قائلة:

-لم أسمع ما قلته، من يحضر مع من؟! ومن يجري عملية جراحية مساعدة لمن؟! دار حولها حتى تسرب إليها عطره الفاخر قائلا:

-ليس هناك أدنى مشكلة، سوف أعيد ما قلته مرة ثانية، أنا سوف أدخل معك غرفة العمليات وأعمل ضمن فريق العمل ، أظن سمعتي الأن، أبعده "قاسم" بيديه من خلف "عشق" قائلا:

-دكتور "مهاب" أظن أن خبرتك كطبيب لا تؤهلك لهذا، كما أظن أنك لا تعرف شئ عن تفاصيل الحالة، وأكثر من هذا أنني لا أعتقد أن دكتور "عبد الرحمن" نفسه ، سوف يوافق على دخولك غرفة العمليات مجدد، نفخ فى الهواء معترض على ما قاله "قاسم" قائلا:

-تُراك نسيت أنني أبن صاحب تلك المستشفى، وأمتلك بها النصف مع أخي، من أنت كي  تحدد من يدخل غرفة العمليات ومن لا؟! كاد صوت "قاسم" يرتفع ، لولا أن أمسكت يديه "عشق" تجنبه الموقف ، واقفة بوجه "مهاب" قائلة:

-أنا الطبية المشرفة على الحالة، وأنا من أقرر من يدخل معي ومن لا، أنا من ترى مع من مصلحة مريضي، هل نسيت ذلك الطفل الذي مات على يديك وأنت تجري له عملية منذ شهور، إن كنت نسيت فأنا لا أنسي، وكما قلت لن تدخل معنا غرفة العمليات،كونك أبن صاحب المشفى وتمتلك نصفها مع أخيك ، فذلك شئ يخصك وحدك، أما حالتي تخصني أنا فقط، لن يدخل معي غير دكتور "قاسم" ودكتورة "نهال" التى تنتظرنا منذ وقت بغرفة العمليات، والأن هيا بنا دكتور "قاسم" الحالة جاهزة ولا يجب علينا أن نتأخر أكثر من ذلك، مضيا تاركين الغرفة ، ومن خلفهم"مهاب" الذي احمرت أذنيه مما ألقته "عشق" على مسامعه، ضرب الحائط بيديه قائلا:

-لن أتركك يا "عشق"، سوف أكسر أنفك هذا يوم ما، صار الأثنين بجواره بعضهما صامتين، وأرواحهم تقرأ أيات من القرأن الكريم ، دفعت "عشق" باب العمليات ، التي رأت أمامه "قسمت" تقف وقد هرب الدم من وجهها،ليشعر من يراها أنها هاربة من الموت، أبتسمت لها "عشق" ، قائلة لها بعينيها الله معنا، تبعها "قاسم" ،أغلق خلفهم باب غرفة العمليات، وقفت "عشق" بجوارها "نهال" صديقتها المقربة ، قبالتها وقف "قاسم" ، بدأت إجراءات العملية والجميع منهمك فيها حتى أذنيه، مشرط يوضع ، ومشرط يُمسك، نظرات تتبع أخرى على جهاز رسم القلب ،وأخرى على جهاز التنفس وقياس الضغط، مرت ساعة وراء الأخري  و"عشق" تتصبب عرقا، تمد أحدي الممرضات يديها تمسحه كل دقيقة للحظة وقفت يدها ،أرتعشت رغما عنها ، فجأة زارها الخوف، من أن تتسرب من بين يديها تلك الأمانة التى أقسمت بالله أن تحافظ عليها ، نظر إليها "قاسم" نظرة حزم، يخبرها أن تعود كما كانت ولا تخف، أمسكت المشرط بقوة من جديد تكمل ما بدأته، نسي الجميع أن لهم أقدام يقفون عليها قرابة السبع ساعات ،نسي الجميع شئ أسمه التعب، وكأنهم فقدوا الشعور، إلا شعور واحد أن بين أيديهم روح، تنهدت "عشق" وهى تنهي تحديها الذى بدأته، تنفس الجميع الصعداء، قرأت سريعا قياس الضغط ، وتصفحت تعاريج القلب، نزع "قاسم" عن وجهه ، قناع العمليات وهو يتمتم، الحمد لله، أبتسم لها وحياها بأماءة من رأسه، خرجوا جميعا يسيرون بجوار" يوسف مأمون" الذى لم يكن يعي شئ مما يحدث حوله، قابلتهم "قسمت" ودموعها وأحمرار عينيها ، يخبرهم جميعا كم كان الوقت قاسي عليها، أمسكت "عشق" من ذراعيها تسألها بعينيها ، كيف حال زوجي؟! أبتسمت لها قائلة :

-لقد كسبت الرهان، وكسب الأمل الذي لم يكن يتعدى النصف، ضحكت "قسمت" وبكت فى آن واحد ، وهى تضع كفها فوق فمها قائلة:

-يا الله لك الحمد، حاولت أن تشكر "عشق"، أن تقول لها أى شئ ، لكنها لم تلحق بها فقط كانت مسرعة خلف الحالة، دخلت إلى العناية المركزة، تطمئن على ما فعلته، تم وضع "يوسف" فوق فراشة ، قام "قاسم" بمساعدة "نهال" بتعليق المحاليل ووضع الأدوية بها، جلست "عشق" بجواره تتحسس نبضه وحرارته ، همست  إلى زملائها قائلة:

- كل كلام الشكر لا يفي حقكم ، وقفتم بجواري، ولم تتركوني بمفردى، رغم أن جميع المؤشرات تقول أننا نفعل المستحيل، والأن تفضلا لتستريحوا اليوم كان مرهق بالنسبة لكم ،وأنا سوف أظل بجواره كى أطمئن عليه ، تحرك "قاسم" من جوار الفراش ، بعد أن أنهي تعليق المحاليل، حسنا سوف أذهب أتناول فنجان قهوة ، "نهال" هل تأتين معي ؟! وضعت يدها بجيب سترتها ناظرة إلى "عشق" قائلة:

-سوف أذهب مع "قاسم" ، أتناول قهوتي أنا الأخرى ، وسوف ننتظرك ، لا تنسي نفسك والحقي بنا، أومأت لها برأسها أن أذهبي، ترك الأثنين الغرفة، تاركين "عشق" تجلس وعينيها معلقة بالجهاز تارة وبوجهه تارة أخرى وهي تبتسم قائلة:

-سوف تحيا من جديد، سوف تملأ العالم بقيمك وكلماتك الحرة، نحن نحتاج إلى من هم مثلك ، نحتاج للشرفاء الذين يخبروننا دوما ، أن علينا أن نبقى أقوياء

        

                     

                           "الفصل الثالث عشر"

                               

                              "ماذا أفعل؟!"

نتمني لو كان المستحيل ممكن من أجل من نحب، نتمني لو كان بأيدينا أن نهديهم العمر، يوم بيوم وساعة بساعة، فقط من أجل أن يبقوا معنا ، أن يكافؤنا بشئ من مشاعرهم، ويعطون الفرح في ابتسامتهم، نظل متمسكين بهم ، حتى ولو نزفت أيدينا دمائها ، فهو لهم ولا شئ دونهم، ينبض القلب لأنهم يسكنون شغافه ، يحيا فقط لأنهم هنا، نفعل كل شئ وأى شئ ، طمعا فى أن يكتبوا أسمائنا خلف كلمة أنا أحبك.

سمعت "عليا" حديث "عمر" مع "حسنية" ، تصنعت النوم كى لا يراها، تحاشت أن تنظر بعينيه فلا تري شئ منها ، فتح باب الغرفة بهدوء، ألقي عليها نظرة خاطفة، ترك حلته فوق أحد المقاعد بالغرفة، خلع رابطة عنقه وأعلي زرار بقميصه، فتح باب شرفته الكبيرة المطلة على حديقة الفيلا، وقف يستنشق نسمات الفجر وهو مغمض العينين، لم يشعر بوجودها غير وهى تحتضنه من الخلف، أنتبه محاولا أن ينظر خلفه، إستدار ببطء وهو ممسك بكتفيها، رأها تبتسم له ، وبعينيها حب كبي أبتسم لها قائلا:

-ما الذى أيقظك من نومك فى مثل هذا الوقت؟! دخلت ببطء شديد من أجل ألا تشعرين بي، ضمته إليها قائلة:

-كنت أنتظرك، لقد أشتقت إليك كثيرا، طيلة اليوم بالخارج ، حتى الأيام الماضية كنت مشغول بقضية غش الألبان، ولم أستطع الحديث معك ،مسح فوق رأسها قائلاً:

-أعلم أني مقصر بحقك ، لكن كما تعلمين مشاغلي كثيرة ، لكن وعد مني ، سوف أعطي نفسي أجازة طويلة ونسافر إلى مطروح، أعلم أنك تعشقين بحرها، خرجت من حضنه ويديها معقودة خلف ظهره، كمن لا يريد أن يترك أحد قائلة:

-حقا يا "عمر" ما قلته؟! أومأ برأسه وهو يبتسم، أقتربت منه تقبله، شعر بحرارة أنفاسها، أغمض عينيه تارك شفاهه لها دون أن يبادلها ذلك الأحساس، كان يعتصر أصابعه حتى كاد أن يكسرها، كلما  أعتصرت  شفاهة  بين شفاهها، كان كمن يتناول دواء لا يريده، لكنه مجبور عليه، لم يمتلك حتى قدرة أن يوهمها أنه معها، كمن أقسم أن يحتفظ بكل شئ به بكر حتى الأحساس من أجل واحدة فقط، لا يعلم أين هى؟ ولا يعلم متى سيقابلها؟ شئ محير حقا أمر تلك القلوب، من الممكن أن تحيا أي شيء ، ما عدا شئ واحد ، وهو أن تحيا مشاعر بعينيها مع أحد غير من كُتبت بأسمه وله، مر وقت و"عليا" غارقة فى "عمر" ، وهو كما هو يحاول أن يحترم ما تحياه، وقلبه ينفطر بين ضلوعه، أنتهت مما كانت تفعله نظرت إليه تتحسس بأناملها ملامح وجهه، نظرت بعينيه لم تجد بهما صدي لأي شئ، حاول أن يظهر لها أنه سعيد بوجوده معها، أخذها من يديها وهو يخطوا داخل الغرفة قائلا:

-هيا دعينا ننام، لقد تأخر الوقت ولم أستريح حتى الآن، عندي  عمل كثير جدا، لا تنسي أنك متزوجة من أكبر محامي مصر، جلس على حافة الفراش يخلع باقى ملابسه، جلست خلفه تضمه من جديد ، علم ما تريده منه، ضغط أسنانه بشدة، حتى كاد  يسمع صوتها ، حاول أن يبحث عن أى شئ يقوله أو يفعله ينهي به هذا الموقف، هب واقفا قائلا:

-سوف أحصل على حمام دافئ ، كى أستطع النوم، تركها دون فرصة للرد وأسرع إلى الحمام، أغلق الباب خلفه ، مستند إليه وقلبه يتمزق قائلا:

-سامحيني أعلم أني أظلمك معي، لكنني أفعل كل ما بوسعي كى أجعلك تحيين حياة كريمة، لكن قلبي ومشاعري ليسوا لك، ولا لي أنا أيضا، فهم ملك لواحدة فقط بهذا الكون، هم أمانة لها عندي ،حاولت أن أعيش مع غيرها ، لكنني وقفت معلنا عجزي، أحتضنت "عليا" وسادتها قائلة:

-ماذا أفعل يا "عمر" أكثر مما أفعله كى تبقي معي؟! ماذا أفعل كي تحبني كما أحبك؟! أي سحر هذا يأخذك بعيدا عن أرضي؟! أي امرأة تلك التي تستحوذ عليك لهذا الحد؟!  لو كان الأمر بيدي لأذبت  لك جزء من حبي ، وسقيتك إياه كي تبادلني حب بحب، لكن يكفي أنك  ملكي أنا، مكتوبة على أسمك، أُنادي زوجة "عمر الراوي"مهما كلفني الأمر لن أتركك لغيري، أعلم أن بقلبك واحدة أخري، كم تمنيت أن أعرفها ، كى أمنع عنها الهواء، لكن حتى هذا الأمر لم أستطيع أن أعرفها ،أنت نفسك لم تنطق حرف عنها أمامي طيلة عشر سنوات ، هم عمر زواجنا، لكن عمر حبي لك يفوق الألف سنة، خرج "عمر" من الحمام، ينثر المياه من فوق شعره ، ليجدها ما زالت تنتظره نظر لها باستغراب قائلا:

-لم لم تنامي؟! عادت بظهرها إلى الخلف قائلة:

-أنتظرك كي أنام داخل حضنك، مشط "عمر" شعره فى المرأة دون أن ينطق بكلمة،عاد إلى فراشه فاتح لها ذراعيه، وضعت رأسها فوق صدره، ظل هو كما هو لم يحاول أن يضمها ، شعر بشئ بها مختلف تلك الليلة ، شئ أخبره أنها من داخلها ليست بريئة فى مشاعرها وما تفعله، نظرت إليه قائلة:

-أول مرة لا تضمني إليك ، كنت كلما طلبت منك ذلك تفتح لى ذراعيك وتضمني إليك حتى أذهب فى نومي، زفر فى الهواء قائلا:

-لأنكِ تلك الليلة بكِ شئ جديد، شئ يخبرني أن خلف ما تطلبينه شئ أخر، وليس ككل مرة، عادت تضع رأسها فوق صدره قائلة:

-يهيأ لك فقط ، أطفأ النور وهو كما هو قائلا:

-وأنتِ أيضا يهيأ إليك فقط، صمت الأثنين ولسان حاله يقول:

-والآن مهما فعلت لن تأخذى حقها ، حتى وإن كانت هى نفسها لا تعلم عني ولا عنه شئ.

                                "الفصل الثالث عشر"

                                 "مقابلة سريعة"

تتقابل الوجوه كثيرا ، نصافحها مسرعين فى طريقنا ، ونحن لا ندري أن تلك الوجوه تحمل لنا هدايا القدر إلينا، نجهل أن الزمن يدخر لنا معها أجمل ما قد يحدث فى عمرنا، تمر الأيام ومع كل يوم يسقط تقترب منا تلك الهدايا الربانية، لنعلم وقتها أنه كان علينا أن نتوقف كثيرا ، أمام تلك الوجوه ، شاكرين لها ما صنعته معنا، شاكرين إياها على جميل عطائها.

مرت الأربعة وعشرون ساعة الحرجة، على حالة "يوسف مأمون"، وبدأت حالته تأخذ طريقها للأستقرار، كانت أول الحالات التي مرت عليها "عشق" صباح يومها ،رغم أنها لم تفارقه سوى ساعتين، حاولت فيهم أن تغفوا بغرفة مكتبها ، كي تستطيع أستئناف عملها من جديد، فتحت باب غرفة العناية المركزة بهدوء تطل من خلفه، رأته مستيقظ ،حينما شعر بها أستدار ناحية الباب، حاول أن يبتسم لها، شعرت بتعبه وما يعانيه، أسرعت هى فى الإبتسام له، وقفت أمامه قائلة:

-حمد لله على سلامتك، لقد أخفتنا جميعا عليك، بصعوبة بالغة جاوبها قائلا:

-الفضل يرجع لك بعد الله سبحانه وتعالى، كنت غائب عن الوعي، لكن ذهني كان يسمع كل الأحاديث الدائرة حوله، كنت أتعجب من إصرارك الشديد، على إجراء عملية خطيرة كتلك، رغم أنني أنا نفسي كنت مستسلم للموت، ولكن الأن حينما رأيتك، علمت لم كان إصرارك، لأنك من أهم قرائي، أعرفك حق المعرفة، أشارت إليه "عشق" بأصبعها واضعة إياه فوق فمها:

-لا نريد التحدث كثيرا، هذا إرهاق لك ، حالتك تتطلب الراحة التامة والهدوء الشديد، أستاذ" يوسف" من هم مثلك نحن بحاجة شديدة إليهم، والأن سوف أري رسم القلب وما يجب علينا تناوله من أدوية الفترة القادمة ، كى تستقر حالتك، وتغادر المستشفى سريعا، كي تبهرنا برواية جديدة لك ، أبتسم لها دون كلام، أخذت تقرأ رسم القلب أمامها على الجهاز، وتراجع قياس الضغط ودرجة الحرارة، أمسكت ببيانات الأدوية المعلقة فى نهاية الفراش، أخذت تكتب أدوية جديدة ، وقبل أن تنتهي مما تفعله ، شعرت بالباب يفتح ببطء، نظرت خلفها تري من؟! رأت السيدة "قسمت" تنظر إلى زوجها الذى تعلقت عينيه بوجهها، صمتت "عشق " احتراماً لتلك المشاعر قائلة بعد برهة من الوقت:

-من لدية زوجة جميلة تحبه مثل السيدة "قسمت" عليه أن يفعل شئ واحد فقط، هو أن يتمسك بالحياة، سوف أسمح لك بخمس دقائق فقط، تعليمات طبيبته يجب أن تنفذ، تركت "قسمت" الباب مسرعة إلى زوجها، مالت على رأسه تقبلها، أحتضنته برفق حرصا على تلك الأسلاك العالقة بصدره، ماسحة فوق شعره ، لم تستطيع أن تنطق كلمة ، بل تركت لدموعها تلك المهمة، أبتسم لها قائلا:

-لا تخافي حبيبتي أنا بخير، أقتربت منها "عشق" تأخذها تحت ذراعيها، متجهة بها ناحية الباب قائلة:

-يكفي هذا اليوم، لقد رأيته وسمعتِ صوته، من أجله علينا الا نرهقه، مع مرور الوقت سوف يصبح فى أمان أكثر، أغلقت الباب خلفها، واقفة معها خارج الغرفة، مسحت "قسمت" عينيها قائلة:

-شكرا لكِ، كل يوم يزيد حبي وامتناني لكِ، سأبقى هنا أمام الباب ولن أدخل مرة أخري، سوف أنظر عليه فقط من الزجاج ، أومأت لها "عشق" برأسها بالموافقة، همت أن تغادر المكان ، لولا أن رأت "خالد" أتي من بعيد، أبتسمت له حتى وقف أمامها يصافحها، يخلع عن عينيه نظارته الشمسية قائلا بمرحه المعتاد:

-كيف حال أجمل طبيبة قلب فى مصر؟! أقتربت من أذنه قائلة:

-لو سمعت "نهال" ما قلته، لقتلتني ونحن أصدقاء ،حمد الله على عودتك ، متى رجعت؟!مسح على شعره يرجعه للخلف قائلا:

-رجعت بالأمس فى أجازة ،أين "نهال"؟! لقد أشتقت إليها، نظرت "عشق" فى نهاية الممر الطويل قائلة:

-لديها مرور على بعض الحالات، سوف تحضر حالا، ألم  تخبرها بعودتك، نظر حوله قائلا:

-أردت أن أفعل لها مفاجأة، فقد كان من المقرر أن أعود نهاية الأسبوع القادم، لكن جئت مع إحدى الرحلات، قطع حديثه صوت "نهال" التى ما إن رأته، حتى نادته وهي تجري نحوه، وقفت أمامه تمسك يديه، وهو الأخر ظل مطبق فوق كفها، فمنذ أن جمعهم الحب وتم إعلان خطبتهما لبعض، ولا أحد منهم يطيق فراق رفيقة ، أحاط وجهها بكفيه قائلاً:

-أشتقت إليك حبيبتي، أبتسمت له واضعة يديها فوق يديه قائلة:

-وأنا الآخر أشتقت إليك كثيرا ، أجمل شئ حدث لي مع بداية اليوم هو رؤيتك هنا، ترك "خالد" وجهها ممسك كفها بكفيه قائلا:

-هل أبي بمكتبه؟! أنتظرته بالأمس كي أراه، لكنني علمت من "مهاب" الذى عاد هو الأخر فجرا، أن أبي سوف يبيت بالمستشفى، لوجود حالة قلب مفتوح خطيرة، تستدعي وجوده، تبادلت "نهال" النظرات مع "عشق دون كلام ،أشارت الأخيرة بيديها إلى باب غرفة العناية خلفها قائلة:

-هل تعلم من ينام بتلك الغرفة ومن هو صاحب تلك العملية الخطيرة؟! أنه الأديب "يوسف مأمون" رفع "خالد" حاجب عينيه فى تعجب واضح قائلا:

-"يوسف مأمون" هنا؟! أنني من أشد المعجبين به وبقلمه ونزاهته، كان "مهاب" محق فيما قاله، قلبت"عشق" شفتيها كطفل يعارض شئ لا يعجبه قائلة:

-أتعجب كل يوم كيف أنت و"مهاب" أشقاء؟! أنت يليق عليك أن تبقي أبن الدكتور الكبير"عبد الرحمن الأيوبي"، تنهد "خالد" وتبدلت ملامحه قائلا:

-أعلم أن "مهاب" كثير الشغب والمشاكل، ولا يهتم بعمله ، يعتمد على إسم أبي وسمعته، ويفعل كل شئ، لأنه يعلم أن هناك من يصحح خلفه، منذ وفاة أمي وأبي يحاول أن يعوضه حنانها، حتى  أنقلب هذا الحنان لعنة، جعلته لا يتحمل مسئولية أي شئ ، ولا حتى نفسه، مللت معه من كثرة الكلام، لكن ليس بيدي شيء أفعله، الأن سوف أذهب إلى أبي كي أراه لقد أشتقت إليه،"نهال" سوف نتناول العشاء اليوم مع بعضنا ، "عشق" سوف أنتظرك مع "نهال" وضعت يدها بجيب سترتها قائلا:

-لا أستطيع صدقني يا "خالد"، لدي عمل كثير ، سوف أعطي نفسي ساعة واحدة فقط ، أذهب مع خطيبتك، حيث الكافية الذى نتناول به غدائنا ،وأعود هنا ثانية، أنتما تمتعا بوقتكما معا، أشاح لها بيديه وهو يهم بالذهاب إلى مكتب والده قائلا:

-لن تنتهي أجازتي دون أن تتناولين معنا العشاء، تبعته بعينيها هى و"نهال" قائلة:

-أدعوا لكما دوما أن يديم الله عليكما تلك السعادة وهذا الحب، ضمتها "نهال" إليها قائلة:

-وأنا أدعوا الله أن يرزقك أضعاف تلك السعادة وهذا الحب، أنتِ تستحقين أن تحبي ويحبك من يستحقك، نظرت عشق إلى الفضاء حولها نظرة طويلة متعدية كل شئ قائلة:

-أين هو هذا الذي يستحقني ؟! تعبت من البحث عنه، رغم أحساسي أنه قريب مني.

                             "الفصل الرابع عشر"

                                 "صدفة"

علينا أن نترك القدر يرسم لنا طريقنا كيفما يشاء، واثقين أننا مهما كانت قدرتنا على تخمين الأشياء من حولنا، دوما يبقى للقدر الكلمة النافذة، نرسم ونضع الخطط وفى نهاية المطاف يأتي القدر، يطيح بكل ما رسمناه، متحديا إيانا بأننا مهما كنا ومهما فعلنا، هو فقط صاحب الكلمة النافذة والقرار الصائب.

أستيقظ "عمر" باكرا كعادته كل يوم،مارس رياضة المشي المحببة إليه داخل حديقة فيلته، دلف مناديا على "حسنية"  قائلا:

-من فضلك يا دادة أحضري لي قهوتي باللبن ، حتى أنتهي من ارتداء ملابسي،صعد إلى أعلي حيث غرفته، بدل ملابسه حاصلا على حمام سريع، أرتدي قميص وردي اللون وبنطال جينز أزرق، مشط شعره سريعا ، مال يأخذ ساعة معصمه لينتبه على صوت "عليا" وهى تتثائب قائلة:

-إلى أين ذاهب فى مثل هذا الوقت الباكر؟! نظر إليها وهو يهم بالخروج قائلا:

-كل يوم أغادر فى مثل هذا الوقت ما الجديد اليوم؟! وكل يوم أغادر وأنتِ تغضين فى نومك ، ما السبب الذى يجعلك تستيقظين اليوم على غير عادتك؟! جلست فى فراشها مستندة بظهرها إلى الخلف قائلة:

-كنت أود أن أسير معك قليلا، ونتناول طعام الفطور سويا ، عقد "عمر " حاجبيه قائلا:

-منذ متى وأنت تهتمين بمثل تلك الأشياء؟! جمعت شعرها خلف أذنيها قائلة:

-أحاول أن أرضيك يا "عمر" ، ضحك وهو يضع زخات من عطره قائلا:

-لا تشغلي بالك بي كثيرا، أكملي نومك، أنا فعلت كل ما أريده منذ ساعات، خطي ناحية الباب، أمسك به يفتحه ، وقبل أن يغادر نظر إليها قائلا:

-هناك أشياء أخرى أكثر أهمية مما قلتِ يا "عليا" ، إن كنتِ تريدين كسب شخص ما ، أهمها أن تأتي الأشياء عفوية دون قصد أو ترتيب، أن تفعلينها لأنك تحبينها، وتفعلينها لأنكِ تريدين ذلك وليس إرضاء لغيرك، أغلق الباب خلفه، تاركا إياها غارقة فى صمتها ، هبط الدرج ليجد "حسنية" قد أعدت له فنجان قهوته باللبن ومعه بعض الشطائر التى يحبها، أبتسم لها قائلا:

-صباح الخير يا دادة، دوما تتعبين نفسك من أجلي، ليس هناك داعي لتلك الشطائر، سوف أتناول فنجان القهوة فقط وأغادر، جلست بجواره تحاول أن تغريه بإحدي الشطائر من أجل أن يتناولها، أمسك يديها يقبلها قائلا:

-تناوليها أنتِ بدلا مني ، اليوم ليس لدي جلسات بالمحكمة، سوف أذهب كي أقف على حقيقة ما يفعله "سيد"، وعدتك أن أتيك منه بخبر يجعلنا نفهم حقيقة وضعه الحالي، دقت "حسنية" المنضدة أمامها شاردة تمام، أخذ "عمر" رشفة من فنجانه وهو ينظر إليها قائلا:

-ماذا هناك يا دادة ؟! هل سمعتِ ما قلته؟! نفضت رأسها سريعا قائلة:

-سمعتك يا "عمر" لذلك شردت منك، خائفة مما سوف تعرفه، أعرف أنه يعمل شئ مخجل، قلبي يحدثني بذلك وقلب الأم لا يكذب، نهض بعد أن أنهي فنجان قهوته قائلا:

-لا تتوقعين السيئ، تفائلي دوما خير، سوف أذهب الأن ولن أعود غير وأنا معي حقيقة كل شيء، سمعت صوت أنذار سيارته ، علمت أنه غادر بالفعل، أتكأت بيديها فوق المنضدة ، تجمع الأطباق المتناثرة عليها وفنجان القهوة الذى ما زال ساخنا، دلفت إلى المطبخ وقلبها يدعوا الله ، أن يجعل القادم خير، أخذ "عمر" طريقه إلى مكتبه ، يسمع صوت رنات هاتفه ، يبتسم حينما يرى اسم "خالد" يجاوب قائلا:

-أين كنت مختفي ؟! يأتيه صوته  يضحك قائلا:

-كنت مع "نهال" حتى أبي ذاته لم أكن قد رأيته لأنه كان بالمشفى، ذهبت إليهم كى أراهم ، وأدعوا خطيبتي على العشاء، لكن أخبرني أين أنت الأن؟! كان يقطع الطريق ليصل إلى الجهة المقابلة قائلا:

-كما تعلم الان موعد الذهاب إلى مكتبي، أنت ماذا سوف تفعل ؟!صمت برهة قائلا بعدها:

-هل لي أن أطمع فيك يا صديقي العزيز، وتمر علي البيت تأخذني معك فى طريقك إلى المستشفى؟! فقد أخذ "مهاب" السيارة باكرا وغادر، وأنا كما تعلم لا أستطيع ركوب المواصلات هنا بمصر، أدار "عمر" مفتاح المسجل بالسيارة على صوت فيروز قائلا:

-إلى متى سوف تبقى تلك السيارة بينك وبين "مهاب"؟! رجل طيار مثلك يجب أن يكون لديه سيارته الخاصة به ، وقف "خالد" أمام خزانة ملابسه ، يخرج من الملابس ما سوف يرتديه قائلا:

-سوف أفكر فى هذا الموضوع الإجازة القادمة أن شاء الله، أنا بانتظارك لا تتأخر علي وقبل أن ينطق "عمر" كان قد أغلق "خالد" الهاتف، يبتسم وهو يقود سيارته مما فعله ، فهو يعرفه ويعرف كيف يحصل على ما يريد ، مر نصف ساعة وكان صوت سيارة "عمر" أمام فيلا "خالد" يخبره أنه حضر، أسرع الأخير بالخروج والقفز بجوار صديقه قائلا:

-كنت أعلم أن سيادة المحامي الفذ لن يتركني بمفردي، تحرك "عمر" قائلا:

-لقد حن قلبي لحالك ، ومن أجل "نهال" فقط أتيت كي أوصلك إليها، ضرب "خالد" كف بكف قائلا:

-أعلم ذلك دون أن تقوله، والأن أسرع حبيبتي فى  أنتظاري، قاد "عمر" بسرعة جنونية جعلت "خالد" يربط حزام الأمان وهو يضحك قائلا:

-لا أخاف من سرعة الطائرة ولكنني أخاف من قيادتك أنت ، أنتهي الطريق بين ضحكاتهم وتبادل النكات والضحكات ، وصل الإثنين إلى المستشفى، ترجل "خالد" من جوار "عمر" مغلق باب السيارة ناظر إليه من زجاج النافذة المفتوح قائلاً:

-لا يجب أن تحضر إلى هنا ولا تري "نهال" أو أبي، هم دوما يسألون عنك ، ولم تراهم منذ فترة،هرش "عمر" رأسه قائلا:

-معك حق أنا الأخر أود رؤيتهما، سوف أتي معك ومن ثم أغادر، ترك سيارته أمام المستشفى ودخل الأثنين معا، قابلتهم "نهال" أمام أحدي الغرف، ما أن رأت "عمر" حتى هللت قائلة:

-لا أصدق عيني ، لقد اشتقت إليك دوما ما أسأل عنك "خالد" ، صافحها "عمر" وهو يبتسم قائلا:

-كيف حالك "نهال"؟! لم نتقابل منذ شهر تقريبا، من أخر أجازة "لخالد"، وقف الثلاثة يتحدثون سويا ، تبدلت ملامح "عمر" فجأة واتسعت عيناه وهو ينظر بنهاية الممر ،تعجبت  "نهال" و"خالد" الذى تعجب من رد فعل "عمر" قائلا وهو ينظر بنفس الإتجاه الذي ينظر إليه:

-ماذا حدث ؟! لم أنت تنظر لهذا الشخص هكذا؟! هل تعرفه؟! نظرت "نهال" إلى هذا الشخص مشيرة إليه بإصبعها قائلة:

- تقصد "سيد"؟! نظر إليها باهتمام واضح قائلا:

-نعم أقصده هل تعرفينه؟! هزت كتفيها قائلة:

-نعم أعرفه ، فهو يعمل لدي "مهاب" إستدار "عمر" بظهره كي لا يراه ،وهو مقبل فى اتجاههم قائلا:

-وماذا يعمل عند "مهاب"؟! هل غير نشاطه من طبيب لعمل أخر لا نعرفه، يتطلب وجود "سيد" معه؟! ضرب "خالد" مقدمة جبهته قائلا:

-نعم أنه أبن دادة "حسنية" كيف لم أنتبه لهذا من قبل؟! نظر إليه "خالد" قائلا:

-ماذا يعمل لدى "مهاب" يا "خالد"؟! قلب الأخير شفتيه قائلا:

-كل ما أعرفه أنه يحضر له أشياء يحتاجها، يأخذ بعض الأدوية من المستشفى يوصلها لمستشفى آخر، يحضر لنا بعض أكياس الدم التى نحتاجها، يحمل نفايات العمليات للخارج وهكذا، لوي "عمر" عنقه قائلاً:

-الا يوجد هنا طاقم مخصص لتلك الأعمال؟! مستشفى كبير ومعروف مثل هذا ، مؤكد هناك فريق يختص بتلك الأعمال، تبادل "خالد" النظرات مع "نهال" التى نظرت إلى "عمر" قائلة:

-تقصد أن هناك شئ أخر خفي بينهما لا نعرفه ؟! تطلع إلى أحدي اللوحات المعلقة بالحائط أمامه قائلا:

-مؤكد هناك ما لا نعرفه، حينما يجتمع من هو مثل "سيد" و "مهاب" علينا أن نعرف، أن هناك شئ يتم، لكنه يحتاج الظلام كى لا يراه النور ويحترق.

         

                          "الفصل الخامس عشر"

                            

                               "عودة الحياة"

لا نحيا بقلوبنا، بل نحيا بقلوب من نحبهم التى نحملها بين ضلوعنا، مع كل يوم يمر لنا معهم، نبرهن للعالم أن قلوبهم إن وهنت وهنت أرواحنا، وإن عاشت تحيينا من جديد ، نعود نغني ونثرثر ونرى الدنيا بألوان قوس قزح، حتى وإن كان الظلام يكسو كل شئ، يعودون للحياة ونحن معهم، وكأنهم شريان حياة يربطنا بالحياة.

مرت الأيام سريعا، تماثل خلالها "يوسف" للشفاء، كان مع كل يوم يمر تتوطد علاقته أكثر ب"عشق" التى حضرت صباح وهي تضحك قائلة:

رغم أنه صعب علي أن يمر يوم دون رؤية أديبنا الكبير ، إلا أنني فرحة بشفائك ومغادرتك المستشفى، صفقت "قسمت" التى كانت تقف بجوار زوجها قائلة:

-حقا ما قولتيه "عشق"؟! سوف نغادر ونعود إلى بيتنا مرة أخرى؟! أمسكت بقلم تكتب أسماء الأدوية التي سوف يتناولها "يوسف" بالبيت، وبعض الإرشادات التى يجب عليه تنفيذها قائلة:

-إن كان على أنا لا أريد حقا فراقكما، لقد تعودت وجودكم ورؤيتكما كل صباح ، لقد تبدل لدي شعور الوحشة دون أهلي هنا بمصر بوجودكما معي ، فكما حكيت لكما أبي يعمل بباريس ، لا يحضر إلى مصر إلا نادرا، وأنا أعوام كثيرة لا أسافر إليه بسبب ظروف عملي، شعرت معكما بالونس والألفة وكأنه الله أعطاني أم وأب هنا، أعتدل" يوسف" فى جلسته قائلا:

- ونحن أيضا أعطانا الله أبنة كبيرة وجميلة دون تعب، وفوق كل ذلك طبيبة قلوب ماهرة ، لن نتركك بعد اليوم، عليك أن تأتينا إلينا دوما، ضمتها "قسمت" تربت ظهرها بحنان أم قائلة:

-يعلم الله كم أحببتك، وكيف زرع حبك فى قلبى، لا تحرميني من شعور الأمومة الذى أهديتني إياه والذي لم أشعر به إلا معك، ضمتها "عشق" بشدة إليها وكأنها تحتاج هذا الحضن أكثر منها قائلة:

-وأنا لأول مرة أشعر بالأمان بصحبتكم ، صدقيني أنني طيلة هذين الأسبوعين وأنا رافضة الحصول على إجازة أو راحة ، فقط من أجل أن أبقى هنا بجوارك أنت والسيدة "قسمت" وكأنني أتحصن  بكم ، وضع " يوسف" قدميه على الأرض قائلاً:

-والأن هل سوف أرتدي ملابسي بمفردي؟! أم سوف تتركاني أغادر المستشفى بتلك الملابس، ضحكت "عشق" و"قسمت"مقتربين منه يساعدونه على تغيير ملابسه، دقائق وطرقات هادئة على باب الغرفة، استدارت "عشق" تري من الزائر؟! تطل "نهال" من خلف الباب قائلة:

-هل لي أن أصافح أديبنا الكبير  قبل أن يغادرنا سالما؟ جذبتها "عشق" من يديها تدخلها قائلة:

-يكفي ثرثرة كثيرا، هيا أجمعي معي متعلقات أستاذ "يوسف" وقفت بجوارها يجمعان كل ما يخصه ، وهو يقوم بإنهاء ارتداء ملابسه، أقتربت "نهال" من أذن "عشق" قائلة:

-أنت مدعوة تلك الليلة على عشاء فاخر على النيل، ضيقت عينيها ناظرة إليها قائلة:

-معكِ أنتِ و"خالد"؟! أومأت لها برأسها محاولة أن تخفي ضحكة خبيثة أكتشفتها "عشق" قائلة:

-أنتِ من دبرتِ لهذا الأمر، حبيبتي لا يجب أن أكون حاضرة معكما هذا العشاء، مؤكد لديكما ما سوف يحتاج أن تكونوا بمفردكما، ضربتها "نهال" برفق فى كتفيها قائلة:

-اطمئني لقد أنهينا كل الكلام ، سوف أمر عليك بالبيت الساعة التاسعة، عليك أن تكوني جاهزة، همت بالمغادرة ناظرة إلى "يوسف" الذى جلس على حافة فراشه ينتظر "عشق" قائلة:

-حمد لله على سلامتك، عليك أن تنتبه لحالك جيدا، مصر تحتاجك، تركته مغلقة الباب خلفها ، أبتسمت له "عشق" وهى تقدم له ورقة  قائلة:

-تلك هى الأدوية التي سوف تستمر عليها وأنا سوف أمر عليك كل أسبوع أتابع حالتك ، والأن سوف أذهب كى أمر على باقي المرضى ، صافحتهم تاركة الغرفة مغلقة الباب خلفها، صارت فى الممر الطويل وبداخلها صوت يتردد قائلا:

-"يوسف مأمون" وزوجته، رحلة بدأت اليوم ،أشعر أنها سوف تكون مليئة بالأحداث ، وأن الله هو من رتب تلك المعرفة ، لأنه وحده يعلم أنني سأحتاج إليهما، أسألك يا الله أن تكون رحلة موفقة بعيدة عن أى جرح أو فراق

                            "الفصل السادس عشر"

     

                                 " لن تتعلم "

لن نستطيع أن نغير القلوب مهما فعلنا، لن نمتلك القدرة على غسل الضمائر وتهذيب النفوس، جُبلت القلوب على ما تعودت عليه ، إن كان خير أو شر، لا نمتلك أن نجعل الجميع يشبهوننا، فلكل منا قلب مختلف وعقل يراه دوما على حق، القلوب تبقي بما تحمله ونبقي مسؤولون أمامها عما نقترفه من صواب وخطأ.

وقف "خالد" أمام مرأته ، يدندن بأغنية من أغاني أم كلثوم، وهو يرتدي ملابسه، إستعداد  للذهاب إلى "عمر" ، من أجل عشاء الليلة مع "نهال" و"عشق"، يُفتح باب الغرفة فجأة ، بعصبيه جعلته ينتفض فى مكانه، ليرى صورة "مهاب" منعكسة أمامه فى المرأة، يمسك بمشطه يمشط شعره دون كلام، يدخل الأخير يجلس على حافة الفراش، عائد بظهره للخلف، واضعا ساق فوق ساق قائلا:

-ما السر وراء تلك الأناقة التى أراها؟! إستدار "خالد" إليه ملقى بمشطه أمامه قائلا:

-منذ متى تهتم بي، وبما أفعله ، وإلى أين أنا ذاهب؟! أمسك "مهاب" بإحدى رابطات العنق الخاصة "بخالد"، والتى كانت ملقاة فوق الفراش قائلا:

-لم أكن أهتم بتلك الأشياء كثيرا يا أخي، كما تعلم أنا  شخص عملي، لا أحب أن أضيع وقتي ومجهودي فى أشياء لن تفيدني، جذب منه "خالد" ربطة العنق قائلا:

-كما قلت أنت لا تهتم بأحد إلا وإن كنت سوف تحصل من خلفه على مصلحة، حياتك كلها مصالح ومزايدات، ضحك "مهاب" بصوت مرتفع رافعا قدميه فوق الفراش قائلا:

-هكذا هى الحياة ، أنت فقط دوما تنظر تحت قدميك، تحيا بعالم أخر مثالى ، لم يعد له وجود، المثالية يا عزيزى ، فقط فى كيف تصبح سيد لك كلمة ونفوذ ، العالم يتغير من حولك ، أنظر جيدا سوف تجد أن العالم لا يعترف ألا بشيئين، القوة والمال، ولن يهابك أحد إلا بهم، وقف "خالد" عاقدا يديه أمام صدره قائلاً:

-كما قلت المثالية لم يعد لها وجود تعرف لماذا؟! لأنها لا توجد ألا بداخل شخص سوي، علم أن الحياة قصيرة وعليه أن يفعل شئ يجعله يحيا بقلوب الناس، تدعي أن العالم لا يعترف بغير القوة والمال، حسنا أنت أمامي الأن ، لديك القوة والمال والنفوذ، ماذا فعلت بهم؟! ماذا أضافوا لك؟! كم كسبت وما هو رصيدك الآن من أشخاص تحبك؟! سوف يأتيك وقت لن تنفعك أموالك ولا نفوذك، لن تجد حتى قوة تستند إليها، كل ما سوف تكون بحاجة إليه هى يد تمسك بك، تحملك وقت عثرتك، تضمك وقت ضعفك، فلتت من بين شفاه "مهاب" ضحكة ساخرة قائلا:

-أنسي تلك الجمل المنمقة، والشعارات الكاذبة، ما قلته الآن يوجد بالكتب فقط، ليس له أرض هنا، عليك أن تلحق بالركب وتفعل شئ من أجلك أنت، أترك تلك الموضة القديمة، وأغاني أم كلثوم التى هرمت ككل شئ ببلدنا، والأن لم تجيبني على سؤالي إلى أين أنت ذاهب؟! نظر "خالد" للسقف وهو يتنهد بضيق قائلا:

-لدي موعد عشاء مع "نهال" لأنني سوف أسافر غدا، أعتدل "مهاب" فى جلسته قائلا:

-لا أعرف ما الذي يعجبك بها، أنها مجرد طبيبة من أسرة بسيطة، عليك أن تبحث عن واحدة غيرها حينما تفكر فى الزواج ، تزوج من أبنة واحد ثري، أو شخصية سياسية كبيرة ، تعطيك ولا تأخذ منك، "نهال" لن تعطيك شئ يُذكر فى حياتك، رفع "خالد" حاجب عينيه فى نظرة غاضبة رمقه بها قائلا:

-من مثلك لن يفهم شئ ، سوف تبقى هكذا لا قلب لديك، "نهال" عندى بكل ما ذكرت، يكفي أنها تعطيني الحياة التى لم ولن تعرفها أنت ، كل شئ تستطيع أن تشتريه بأموالك إلا الحب، لن تستطيع أن تحصل عليه ، سوف تبقي هكذا لا يعرفك أحد ولا يتذكرك أحد، وتلك هى المرة الأخيرة التى أسمعك تتحدث فيها عن "نهال" هكذا ، لا تنسي أنها سوف تصبح زوجتي وأم لأطفالي، هم بالخروج من الغرفة ، لكنه توقف ناظر إليه مردفا:

-نسيت أن أسألك ، ما هى علاقتك بمن يدعى "سيد" أبن دادة "حسنية" مربية "عمر" ؟! لقد رأيته بالأمس بالمستشفي، وحينما سألنا عن سبب وجوده، علمنا أنه يعمل عندك، أى عمل يجمعك به؟! مد يديه يخرج من جيبه علبة سجائر قائلاً:

-كما أخبروك يعمل لدي، هل من مانع لديك؟! أقترب منه "خالد" يجذب قدميه يلقي بهما على الأرض قائلاً:

- من النظافة ألا تضع قدميك بالحذاء فوق الفراش، وألا تدخن بحجرة أحد لا يحب التدخين ، لكن سوف أخبرك بشئ أخير قبل أن أغادر، من يتبع من هو مثل "سيد" لا يعرف شئ عن النظافة، للمرة المليون أبتعد عن أى عمل من الممكن أن يلوثنا  ويلوث سمعة أبي التى صنعها بدمه، إن فعلت هذا يا "مهاب" لن يقف لك أحد غيري حتى ولو كنت سوف أخسرك.

                               "الفصل السابع عشر"

                             

                                 " بداية جديدة"

أوقات تجبرنا الظروف أن نسلك طريق شائك، ونتعامل مع بعض الأشخاص التى لا تشبهنا ، فقط من أجل أن نصل لما نريد ، و نصحح وضع لا يروقنا، أوقات تجبرنا الغاية أن نمسك بطرف خيط معقد، يكون بمقدوره أن يكون طريق نسير عليه من أجل أن نصل لنهاية طريق أعوج وبداية طريق مستقيم.

 إجتمع "عمر" بفريق العمل الذى كان يدير مصنع ألبان "الشريف"، جلس يتصفح أوراق كثيرة أمامه تخص المصنع ونشاطه، رفع عينيه عن الأوراق قائلا:

-دعوني أولا أرحب بكم جميعا ، وأخبركم أنني أصبحت المالك الحقيقي لمصنع الألبان وتوكيله هنا فى مصر، أعلم جيدا كيف كانت سياسة "إسماعيل الشريف" فى عمله، وكيف كان يفعل فى صناعة الألبان، صرت همهمات بين الحاضرين، أخذ ينظر إليهم جميعا فى صمت، شاهدهم يتحدثون مع بعضهم البعض، ماعدا واحد فقط بدت عليه علامات الهدوء والوقار، كان رجل خمسيني يبدو أنه مسئول كبير بالمصنع، تعلقت عيني "عمر" به قليلا، كمن يحاول أكتشافه، تلاقت أعينهما ليفهم كلا منهم نظرة الأخر، دق منضدة  الإجتماعات أمامه بقلمه قائلا:

-لا أعرف ما السبب وراء تلك الهمهمات، هل بكلامي شئ لا يروق أحد؟! صارت الأصوات متداخلة وكثيرة غير واضحة ، يضيق "عمر" عينيه قائلا:

- أريد شخص واحد فقط يتحدث، كي أتبين ما تقولونه، ومن الواضح أنكم جميعا مجتمعون على قلب رجل واحد ، إن تحدث أحدكم سوف يغني عن الباقيين ، لأن هدفكم وكلامكم واحد، لكنني سوف أختار من يتحدث ، وإن كان الوحيد الذى لم أسمع صوته بتلك الثورة التى لا أعرف لها سبب! أختلس الجميع النظر إلى بعضهم ومن ثم إلى "عمر" الذى أشار ناحية الرجل الصامت قائلا:

-تفضل أنت أخبرني بكل شيء تعرفه عن المصنع، زفر الجميع فى ضيق وكأنهم يرفضون حديثه، علم "عمر" بفراسته أنه على حق فى أختياره، أومأ له برأسه أن تكلم، جاء صوت الرجل هادئ قائلا:

-أعرفك أولا بنفسي أنا "عبد الحميد شاهين" أقدم مهندس تغذية بالمصنع، ورئيس قسم الإنتاج، كان العمل يسير بالمصنع تبع هواء "الشريف" ومعاونيه، مشيرا بيديه لمن حوله مردفا:

-الجميع يعلم ذلك، المواصفات القياسية للبن كانت غير المستوى المطلوب، يُبدلون عناصر بعناصر أقل جودة، يستخدمون خامات منتهية الصلاحية، أو باقى أيام وتنتهي صلاحيتها، كانوا يستغلون عطش السوق لوجود لبن الأطفال، ويحتكر ونه  فى السوق السوداء، تعالت الأصوات تهاجمه فيما قال، ضرب "عمر" فوق الأوراق أمامه حتى تناثرت قائلا بغضب واضح:

-لم تهاجمونه ؟! لم كل تلك الجلبة والسخط؟! هل تعتقدون أنني لا أعرف ما قاله؟! وتأتون الأن تدعون أمامي الشرف،أنا أكثر من يعرف من هو"إسماعيل الشريف" تُراكم قد نسيتم أنني محاميه، وأنا من أخرجته من تلك القضية، وعندي أعترافات  كاملة منه شخصيا ، يخبرني بها بكل ما يفعله بصناعة اللبن، ومن أجل هذا المصنع  ومن أجل أطفال تموت من صنعتكم الفاسدة، صممت أن أخرجه براءة من تهمته، ليس حبا فيه ولا جهل بحقيقته ، لكن فقط من أجل الحصول على هذا التوكيل ، ليصير هذا المصنع تحت يدي، أعيد تشغيله كما يحلوا لي ، الرجل لم يكذب فيما قاله ، أنتم فقط الكاذبين ، والأن بعد أن وضحت الأمور ، وعلمت من النظيف من الفاسد، أحب أن أخبركم جميعا ، أننى بصفتي رئيس مجلس إدارة المصنع ، متنازل عن خدماتكم، ولا أريدكم معي بالمصنع، وبدون إستقالة منكم ، قد قبلت أستقالتكم جميعا ، وكى لا أكون ظالم ، جميع مستحقاتكم المالية سوف تحصلون عليها غدا، والأن تفضلوا أنتهي كلامي وأنتهي الإجتماع، نهض الجمع وبينهم لغط وثرثرة كبيرة، خرجوا جميعا واحد خلف الأخر، نادي "عمر" قائلاً:

-سيد "عبد الحميد" من فضلك أبقي أنت، يقف الرجل مكانه وقد بدت عليه علامات الدهشة، يشير له بيده أن أجلس، يجلس "عمر" خلف مكتبه ويجلس هو أمامه يبتسم له قائلا:

-أعلم ما يدور بذهنك الأن، سوف أقصر عليك الطريق وحيرة التفكير وأخبرك لأنني أحتاجك معي بالمصنع، لن أجد أحد مثلك ، يهتم بعمله ويخاف الله فيما يفعل، تعلم أن هذا غذاء أطفال أبرياء ، وعلينا أن نكون أكثر حرصا عليهم ، لهذا سوف تبقي نائب رئيس مجلس الإدارة ، تتولى كل شيء في غيابي، أنت كما تعرف ليس لدى وقت ، المحاماة والقضايا تأخذ كل وقتي، أبتسم له وهو لا يكاد يصدق نفسه مد يديه يصافحه قائلا:

-شاكر لك صنيعك، وأعاهدك أنك لن تندم على أختيارك لي، سوف أكون عند حسن ظنك ، ليقدرني الله على تلك الأمانة، نهض كي يغادر ، إلا أن "عمر" أوقفه قائلا:

-سؤال أخير من فضلك، كيف تكون بهذه النزاهة وتعمل مع "الشريف"؟! أبتسم الرجل أبتسامة تقطر حزن قائلا:

-مثلك تمام سيد "عمر" ، كنت أحاول أن أفعل ما أقدر عليه ، كى أحمي أطفالنا ، كثيرا كنت أغير فى المكونات والمواصفات بعد أن يعتمد "الشريف" غيرها دون أن يدري، كنت أضع خامات بدلا من خامات ليلا وأنا بمفردي بالمصنع، لم يكن بمقدوري ترك العمل ، لدى بيت ومسؤوليات، لكنني حاولت قدر أستطاعتي ويعلم الله ، ألا أخالف ضميري ، تنهد "عمر" بشدة قائلا:

-أعلم أن أحساسي لا يكذب ، وحينما رأيتك علمت أنك غير الجميع ، من  الآن عليك أن تمارس مهام عملك كما يحلوا لك ، تركه الرجل مغادر، ينهض "عمر" مبتعد عن مكتبه ، يقف أمام نافذته يتنفس بعمق قائلا:

-لتكن تلك بداية جديدة لكل الأشياء بحياتك يا "راوي"

                        "الفصل الثامن عشر"

                          "موعد مع الحياة"

حينما تقرر الحياة أن تهبنا السعادة ، لا تختار وقت بعينه، ولا مكان معين، ولا حتى أناس نعرفهم، هى حينما تقرر أن تعطينا حظنا، لا تستأذن أحد، لا تنبهنا أن هناك سعادة كبيرة ، سوف تدق أبوابنا قريبا، هى فقط تعطينا ما حُرمنا منه العمر كله، تدخر لنا سعادة بحجم الكون، تصممها على مقاسنا دون غيرنا، تمسح رأسنا برفق ، وكأنها تعتذر لنا عن كل ما فعلته بنا خطوبها، بعد أن كدنا أن ننسى، تأتينا دفعة واحدة بكلن ما سلبتنا إياه، لنقف وقتها عاجزين عن فعل أى شئ ، أى شئ ، إلا شئ واحد لا نعرف أن نفعل غيره، وهو أن نمسك بكل ما أوتينا من قوة بمن نحب.

مر "خالد" فى طريقه على بيت "نهال" التى كانت تنتظره فى أبهي صورة لها، سمعت صوت سيارته ، نزلت سريعا ليقابلها بابتسامة عريضة تارك السيارة، يمد يديه يمسك كفها ، تدور حول نفسها وهى تمسك فستانها قائلة:

-ما رأيك؟! يأتي صوت صفير منغما، يعلن عن رأيه قبل أن ينطق، تضع كفها فوق فمها ضاحكة كالأطفال، تضربه فى ذراعه بلطف مردفة:

-هل ستقف تنظر لي هكذا كثيرا ؟! سوف نتأخر على "عشق" و"عمر"، يقترب منها يأخذها من تحت ذراعيها، تدفعه بخجل ناظرة حولها قائلة:

-أيها المجنون نحن بقف فى الشارع، سوف يرانا المارة ،ويحضرون لنا الشرطة، جذبها إليه أكثر قائلا:

-أو يحضرون لنا المأذون، ويقفون حولنا يصفقون ويباركون، شوارعنا ما أكثر اجتياحها  للحب والحرية والفرح حبيبتي، هل يليق بنا أن نبخل عليها بتلك الأشياء وهى معنا، أبتعدت عنه قاصدة السيارة وهي تمسك بذيل فستانها الطويل قائلة وهى تهم بالجلوس داخلها:

-سوف تبقى مجنون طيلة حياتك، وعد مني سوف أفرش الشارع لهم ورود ، وأوزع عليهم الحلوى، والأن هل من الممكن أن ننطلق، كي نلحق من قمت بدعوتها على العشاء؟! فتح باب السيارة يجلس أمام المقود قائلا وهو يدير محركها:

- لكِ ما تشائين سيدتي الجميلة ، أنطلق  بالسيارة وضحكاته تختلط بضحاتها وثرثرة حديثهما الذي لم ينقطع طيلة الطريق حتى وصلا إلى مكان العشاء، وهو ذاته ذلك المقهى الراقي الذي يحتضنه النيل وكأن بينهما قصة عشق سرمدي، ترجل "خالد" من سيارته، يفتح الباب "لنهال" التى أمسكت كفه وهى تغادر ، أطبق على كفها سائرين بجوار بعضهما، وصلا إلى المكان الذي حجزه "خالد" لهذا العشاء، كانت منضدة مستديرة تناثر حولها أربعة مقاعد ، نثرت على جوانب المنضدة ورود كثيرة حمراء وبيضاء ، وفى المنتصف وضعت شموع خافتة وكاسات وزُعت بطريقة مثالية، تجعل كل كأس أمام  مقعده، أقترب النادل مسرعا حينما رأي "خالد" قائلا بأدب جم:

-أنرت المكان كابتن "خالد"، مد يديه يسحب له مقعده، إلا أنه ظل واقفا واضعاً يديه فوق كتفه قائلا:

-لا داعي لأن ترهق نفسك، المنضدة جميلة حقا، كما رسمت صورتها بخيالي، كنت أثق أنك سوف تقوم بتنسيقها كما أردت، أنحني له قائلا:

-هل تحب أن أحضر لكما مشروب حتى يحضر أستاذ "عمر" والضيف الرابع؟! تبادل "خالد" و"نهال" النظرات التى فهم منها أنها لا تريد الأن شئ، أشار إليه برأسه أن لا ، تركهما النادل ماضيا في طريقه، جذب لها المقعد لتجلس عليه جلس فوق مقعده أمامها، أخذ يتأملها صامتا، نظرت إليه بتعجب قائلة:

- لم تنظر لي هكذا؟! تُشعرني أن تلك هى المرة الأولى التي تراني بها، وضع يديه تحت ذقنه قائلاً:

- دوما أراك كل مرة ، كأول مرة رأيتك بها، وكأنني أراك كل مرة بشكل جديد، أحب أن أملأ عيناي منكِ، كى تتسربين إلى نفسي فتحيا، الله أمرنا أن نشكر النعم، وأنا دوما أنظر إليكِ كنوع من الشكر له، همت "نهال" أن تجيب على كلامه ألا أنها سمعت صوت "عمر" الذى حضر قائلا:

-أشعر أن هناك كلمات غزل تقال، وأنا حضرت أقطعها، ضحكت "نهال" قائلة:

-أنا سوف أسامحك، لم هذا التأخير؟ نظر إليه "خالد" قائلاً:

-دوما تحضر فى الوقت المناسب ، لكن تلك المرة لم تختار الوقت الذي تهبط  فيه علينا من السماء، وضع "عمر" كفيه حول رقبته يخنقه بلطف قائلا:

-سوف أتركك تلك المرة فقط من أجل "نهال"، أمسك "خالد" يديه يجذبه ، يجلسه بجواره قائلا:

-أجلس أولا بجواري وكف عن ثرثرتك قليلا، لقد أضعت مني الكلمات التى ظللت أرددها طيلة اليوم من أجل تلك اللحظة، خلع "عمر" حلته يضعها فوق الكرسي المقابل له قائلا:

-هل لي أن أتناول قهوتي أولا قبل تناول العشاء؟! أستدار  إليه "خالد" قائلاً:

-كما تحب لك ما تريد، دون أن تستأذن ، لأننا ببساطة لن نتناول عشائنا الآن، عاد "عمر" بظهره للخلف مشيرا للنادل قائلا:

-لم يا ترى ؟!هل طلبت عشاء من الخارج ، حضر النادل الذي طلب منه قهوته، مردفا:

-هيا أخبرني من أي بلد سوف نتناول عشائنا؟! أم أنك تريد أن تمضي الليلة ونكتفي بالقهوة، ضحكت "نهال" قائلة:

-سامحني يا "عمر"، أنا السبب وراء تأخير موعد العشاء قليلاً ، نحن بانتظار ضيف أخر سوف يتناول عشائه معنا، أنها صديقة قديمة لي ، تعمل معي بالمستشفى ، وتربط بيننا صداقة طويلة ،أطمئن لن تتأخر كثيرا، دقائق ونجدها معنا، وضع النادل القهوة أمام "عمر" الذى مد يديه يتناولها ومع أول رشفة منها تشير "نهال" بيديها لشخص أتي من خلفه قائلة:

-قد حضرت الضيفة، سمعتك ولم تريد أن تجعلك تنتظر أكثر من ذلك، نادتها مردفة:

-"عشق"، أرتعشت  يد "عمر" تُسقط قهوته فوق يديه، يسمع صوت قلبه وهو يضرب ضلوعه دون رحمة، يريد أن يخرج من صدره قائلا:

-أهدأ مؤكد تشابه أسماء أين هى منك الأن؟! بعد كل تلك السنوات وهذا العمر، لكن قلبه أصر أن يضربه بشدة، لم يستطع أن يتحكم بنفسه ، أستدار فجأة خلفه وكأنه يبحث عن ذرات الهواء في الفضاء حوله، رآها تقترب منهم فى ثوب أسمر ينحصر فوق ركبتيها ، مكشوف الذراعين، وقد تركت شعرها القصير يحتضن وجهها ، وكأنه طفل صغير يغفو داخل أحضان أمه، شهق بشدة جعلت "خالد" يتعجب منه ، ينظر إليه يسأله بعينيه ماذا بك؟! يظل كما هو ناظر إليها وكأن كل شئ به توقف فجأة عن النبض،شعر أن روحه تخرج منه ، تكسر مائة قطعة وتجمع فى آن واحد ، شعر أن العمر بأكمله حضر أمامه  فجأة دون أن يسأله إن كان على أستعداد أن يستقبله أم لا؟! أقتربت " عشق" من المنضدة وعلى ثغرها أبتسامة حلوة ، أضافت حمرة خجل جميلة بين ملامحها، وقفت تصافح "خالد" الذى وقف مرحبا بها هو و"نهال" التى أشارت إلي المقعد بجوارها قائلة :

-هيا تعالي أجلسي  بجواري، لقد متنا جوعا بسبب تأخرك، لكن دعيني أعرفك أولا ، نظرت إلى "عمر" الذى كان ما يزال غارق فى يم ليس له شاطئ مردفة:

-هذا "عمر الراوي" ، صديق "خالد" وأكبر محامي مصر، نظرت إليه "عشق" وهي ما تزال تحتفظ بأبتسامتها، تمد إليه يدها قائلة:

-أهلا بك، ظل غارق فى وجهها وكل خلجة به تحتضنها، تعتصرها بين ضلوعه دون أن يشعر به أحد ، تعجبت منه "نهال" متبادلة النظرات مع "خالد" الذي هزه فى كتفه قائلا:

-"عمر" ماذا بك؟! هل أنت بخير؟! هز رأسه ناظر حوله كمن يجمع شتات نفسه قائلاً بصوت مبحوح لم يكد يخرج :

-أنا بخير يا "خالد" ، غمز له الأخير بعينيه مشيرا إلى يد "عشق" الممدودة له، قرب كفه منها يصافحها، ترك يده تنام بين أصابعها، كتائه فى بلد غريب ، وجد أحد من أهله فاطمئن، أغمض عينيه دون إرادة منه، يُخفي دموع كادت أن تسقط، فى لحظة كان هو نفسه دون شريك ، وفى لحظة صار كله هي دون أختيار منه ، وكأنه القدر أختار له الزمان والمكان رغما عنه ، عاد من شروده على صوت "نهال" قائلة:

-وتلك هى ضيفنا الرابع وصديقتي العزيزة ، أمهر طبيبة قلب تعمل معنا بمستشفى والد "خالد" ، الدكتورة "عشق"، عاد يغمض عينيه بشدة مرة أخرى، كمن أصابه سهم يحاول أن يمتص ألمه، أبتلع ريقه يهمس قائلا:

-"عشق"! إن كانت نفس الملامح تقريبا واحدة ، وهذا الشبه الكبير صدفة ، هل الأسم أيضا صدفة؟!

       

                              "الفصل التاسع عشر"

                                 "أريد إجابة "

تأخذنا الحيرة حينما نجد أنفسنا  أمام حيرة النفس والف سؤال يبحث له عن إجابة تخرس هذا الصوت الصاخب داخل الروح، نظل نتلمس إجابة ترضي كبريائنا المذبوح على أعتاب ضريح حبهم، نستحلف الحروف ، نقسم عليها أن تأتينا بجواب السؤال الذى ينهش قلوبنا دون رحمة.

وقفت "حسنية" داخل المطبخ ، تنهي تحضير العشاء قبل أن تهبط "عليا" من غرفتها، شعرت ببعض الإرهاق ،فتحت باب المطبخ الصغير المطل على الحديقة ، تستنشق هواء نقي وقد جلست فوق مقعد صغير، بعد أن قامت بأعداد كوب من العصير تتناوله ، شردت قليلا فى كل شئ يحدث حولها، تعجبت كيف الحياة هكذا؟ لا تعطينا كل شئ ، إن أعطتنا المال والشهرة أخذت منا من نحب، وإن أعطتنا الحب سلبت منا راحة البال، هكذا هى، لا تسير وفق أهوائنا، تنهدت أثر نسمة هبت عليها وبداخلها أمنية أن يرزق الله الجميع راحة البال وهدوء القلب، صوت خطوات "عليا" التى جعلتها تنظر خلفها ، تراها تدلف إلى المطبخ حيث هى قائلة:

-مساء الخير يا دادة ، كيف حالك ؟! وضعت "حسنية" كوب العصير جانبا فى محاولة منها أن تبتسم قائلة:

-مساء الخير حبيبتي، الحمد لله أنا بخير ، كيف حالك أنت ؟! جذبت مقعد وضع أمام منضدة تتوسط المطبخ ، جلست عليه قائلة:

-أحاول أن أكون بخير يا دادة ، نظرت إليها متعجبة قولها ، أقتربت منها تمسح فوق رأسها قائلة:

-ماذا بك يا "عليا"؟! أشعر أن هناك ما يؤرقك ، أنت لست على ما يرام وإن كنت تحاولين أظهار هذا، هل هناك شئ يؤلمك؟! أمسكت "عليا" ثمرة  تفاح من سلة الفاكهة أمامها تلهو بها قائلة:

-لا شئ يؤلمني بتلك الحياة ، غير إحساس يقسم لي أن بحياة "عمر" أمرأة غيري تسرقه مني، تسلب روحه وقلبه بعيد عني ، تجعله لا يراني مهما فعلت ، هناك شئ يقف بيني وبينه، حاجز لم أستطيع طوال عشر سنوات أن أهدمه ، فعلت كل ما بوسعي ، وما أقدر عليه ، حتى ما لا أقدر عليه فعلته من أجله أيضا، لكنه رغم كل هذا لا يشعر بي ، لا يراني أمامه ، وكأن عينيه ممتلأة بغيري ،لا أعرف ماذا هناك يخفيه عني ، خطت "حسنية " خطوتين وقفت أمام صنبور المياه، تنشغل بغسل بعض الأطباق، كى لا تلتقي عينيها بعين "عليا" التى تعجبت من رد فعلها قائلة:

- داده الا تسمعيني؟! مالك صامتة هكذا؟! عضت "حسنية" شفتيها دون أن تستدير إليها قائلة:

-أسمعك جيداً، كما سمعت كل ما قولتيه، لكنني لا أمتلك رد عليه ، لأنك واهمة كما قلت لك من قبل ، تحدثنا فى هذا الموضوع مرارا وتكرارا، ومثل كل مرة أقولها لك ، "عمر" لا يوجد شئ بحياته سوى عمله وأنتِ، هبت واقفة خلفها، تجذبها من كتفيها قائلة:

-حسنا أستديري إلي دعيني أراك وأنت تتحدثين، قولي لي ما قولتيه وعيني بعينيك مرة أخرى، لم أسمع شئ مما تحدثتي به ، والأن سوف أعيد عليك السؤال مرة أخري، لن أسألك هل بحياة "عمر" امرأة غيري؟ لأنني واثقة من هذا، بل سأقول لكِ من هي تلك المرأة ؟! أخبريني أسمها الأن، بدأ صوت "حسنية" ترتفع نبرته دون شعور قائلة:

-ماذا تريدين أن أقوله لكِ؟!  كى توقفي هذا الوسواس الذى ينخر صدرك كل يوم أكثر من اليوم الذى قبله، حتى يسقط هذا البيت رأسا على عقب ، أخبريني فقط بما تريدين أن تسمعينه، وسوف أكذب عليك وأخبرك بما تريدين كي تستريحي وتنهي هذا الكلام ،ضيقت "عليا" عينيها قائلة:

-أنفعالك هذا أكبر دليل على صدق أحساسي، زفرت "حسنية" فى ضيق شديد وهى تضع الأطباق  التي تحملها بعنف فوق المنضدة ، تحدث صوت واضح قائلة:

-أنفعالي يخبرك أن تكفي عن هذا اللغو، ولا تسأليني فيه مرة أخري لأنني ببساطة لا أعرف فيما تتحدثين، تركت "عليا" تقف مكانها وخرجت إلى البهو الكبير، لحقت بها الأخيرة تناديها قائلة:

-داده أنتظري من فضلك ، لم ننهي حديثنا بعد، لا تتركيني هكذا، وقفت "حسنية" مشيرة لها بيديها قائلة:

-كلمة واحدة سوف أقولها لكِ وننهي هذا الحوار، بدلا من أن تبحثين عن شئ تضعين نفسك وسط  دوامته التى سوف تغرقك داخلها، أهتمي أكثر بزوجك حتى وإن كان ما تقولينه صحيح، حاولي أن تأخذيه أنت من كل شئ حوله، هذا كل ماعندى وأستطيع قوله، وصدقيني ليس لدى غير هذا، نظرت إليها "عليا" نظرة ضيق وهى تهم بالمغادرة قائلة:

-وتلك هى المرة الأولى التى تكذبين بها يا دادة ولن أصدق ما نطق به لسانك دون قلبك.

                             "الفصل العشرين"

                               "لن أصمت"

كانت عقارب الساعة تزحف نحو الثانية بعد منتصف الليل، كل شئ هادئ داخل مستشفي الدكتور "عبد الرحمن الأيوبي" كهدوء تلك الساعة المتأخرة ، إلا من حركة بسيطة بين أطباء وممرضات وموظفين الأستقبال، الذين لا يهدأون حتى فى تلك اللحظات، صوت آتي من غرفة حضانة الأطفال حديثي الولادة ،الذين يخضعون لفحوصات طبية ، قبل إجراء عمليات بالقلب، خرجت إحدي الممرضات مسرعة ناحية غرفة دكتور "قاسم" ، الذي كان موجود بالمستشفى ، فهي ليلة تناوبه العمل ، طرقت بابه طرقات متلاحقة ، فرك عينيه ببطء ، بعد أن كان عاجله النوم فجأة وهو يقرأ كتاب علمي ، يتحدث عن القلب، نظر فى ساعة معصمه يتعجب من الطرقات المتلاحقة قائلا:

-تفضل، تدفع الباب فى توتر واضح قائلة:

-دكتور "قاسم" من فضلك نحتاجك بقسم حضانات الأطفال سريعا، تتركه مهرولة، دون أن تترك له فرصة الرد عليها،قام مسرعا خلفها، فما رآه من توتر بادي عليها، ينبأه بأن هناك أمر خطير يحتاجه، وصل إلى قسم الحضانات، دفع الباب يبحث عن الممرضة ، يراها تقف أمام حالة لديها تشير ناحيتها قائلة:

-تلك الطفلة هنا منذ يومين تقريبا، جاءت بها والدتها وأبيها كي نوقع الكشف عليها، كنت وقتها بالعمليات، قامت دكتورة "نهال" بتوقيع الكشف عليها وعمل بعض الفحوصات والأشعة اللازمة لها، وتم عرضها على دكتور "عبد الرحمن" الذى قرر أنها بحاجة إلى إجراء عملية تغيير صمام قلب، كانت حالتها مستقرة حتى ساعة مضت، قمت بعمل رضعة لها من هذا اللبن الذي تجلبه المستشفى، لمثل تلك الحالات ، لكنني عندما عدت أطمئن عليها وجدت درجة حرارتها مرتفعة جدا وتعاني تشنجات كما ترى، لم أدري ماذا أفعل ؟غير أن أجئ إليك كى تراها، أبعدها دكتور "قاسم" من أمامه، أقترب يفحص الصغيرة التى كان لونها يتحول ببطء إلى  اللون الأزرق ، تحسس جبينها محاولا أن يفتح فمها الذى خرج منه سائل أصفر، صرخ فى وجه الممرضة قائلا:

-أنها حالة تسمم واضحة، أسرعي خلفي بتلك الطفلة ، خرج يهرول وهو يصرخ بصوت مرتفع قائلاً:

-جهزوا لي غرفة العمليات وأكياس ملح سريعا، هناك طفلة تموت، جري الجميع ناحية غرفة العمليات، فى حين حملت الممرضة الصغيرة، تهرول بها خلف دكتور "قاسم" الذى أسرع بعمل غسيل معدة كى ينقذ حياة الطفلة من الموت، حاول أن يبحث بيديها عن عرق يضع به المحلول فلم يجد، بحث برقبتها وصدرها وهو يكاد يبكي، كان يضرب الأرض تحت قدميه ، يستحلفها بالله أن تتوقف عن الدوران، كي لا يمر الوقت الذى مع كل دقيقة تسقط، تقرب تلك الصغيرة من الموت، صرخ فيمن يحيطون به من طقم تمريض وأطباء قائلا:

-من منكم يري وريد بها  يتحمل أن نعلق به المحلول، نظروا جميعا لبعضهم دون النطق، نظرت الممرضة ذاتها إلى الطفلة ومن ثم إلى "قاسم" قائلة:

-لا داعي للبحث عن شئ، لقد ماتت دكتور "قاسم" نظر إليها وهو يغض الطرف عن الطفلة ، لا يريد النظر إليها ،وضع ما كان بيديه من محاليل، ترك المكان وخرج قاصد صيدلية المستشفى،دخل قاصد علب اللبن الخاصة بالأطفال، أمسكها يقرأ مدة صلاحيتها المكتوبة عليها ويلقى بها على الأرض، أستيقظ موظف الصيدلية على صوت الجلبة التى حدثت بالمكان، ينظر حوله يقف مفزوعا قائلا:

-دكتور "قاسم" ماذا حدث؟! ماذا تفعل هنا فى مثل هذا الوقت؟! لم تلقي بعلب اللبن على الأرض هكذا؟! أمسك الأخير بعلبة فى يديه أقترب منه وقد أحمرت عيناه إثر انفعاله قائلا:

-من الذى يجلب لنا تلك الألبان ؟! وكيف تستلمها منه؟! تعجب الموظف قائلا برعشة صوت واضحة:

-ماذا حدث لكل هذا؟! نحن نستعمل هذا النوع من الألبان منذ فترة طويلة،ضرب "قاسم" الأرض بما كان يحمله بيده قائلا:

-أنطق وجاوب سؤالي، لا ترد علي بسؤال لم أسأله، أبتلع الموظف ريقه قائلا:

-دكتور "مهاب" هو المسؤول عن جلب لبن الأطفال وهو المتعاقد بأسم المستشفى مع مصنع الألبان، أنا لا أعرف شئ أكثر من هذا، ضيق "قاسم" عينيه زافر بضيق شديد قائلا:

-"مهاب" ؟! حسنا سوف أعرف حقيقة الأمر برمته، لكن أخبرني قبل أن أترك المكان ، من الذى يضع تاريخ الصلاحية والإنتهاء هذا؟! تردد الموظف كمن يبحث عن كلمات ،ناظر إلى علبة اللبن تارة ، وإلى دكتور "قاسم" مرة أخرى قائلا:

-أي تاريخ صلاحية تقصد؟! العلب تأتي مغلقة وعليها جميع بياناتها دون تدخل منا، أمسكه "قاسم" من رقبته مقرب من عينيه العلبة قائلا:

-أنظر إلى هذا التاريخ جيدا وأخبرني،هل هذا التاريخ هو التاريخ الحقيقي المطبوع فوق العلب؟! هل هذا التاريخ هو التى أتت به تلك السموم أيها الكاذب، تعتقد أنك تتحدث مع واحد جاهل لا يعرف شئ؟ يخيل إليك ذكائك آيها الغبي أنني لا أمتلك القدرة أن أعرف التاريخ الصحيح الذى يتم طباعته على العلب، من التاريخ الذى يتم تزييفه ؟!حسنا ليكن ما قولته ولنضع الأمر كله أمام دكتور "عبد الرحمن" ، سوف أخبره أن هناك طفلة ماتت هنا ، منذ قليل نتيجة تناولها هذا اللبن، جاءت هنا كى تجرى عملية تحيا بها ، فقمنا نحن بقتلها، أمسك الباب يفتح كى يغادر ، يجد من يفتح الباب قبله ويقف أمامه وجه لوجه، ينظر إليه بتعجب شديد ، يلوي الأخر عنقه كمن سددت له المفاجأة لكمة أوجعته، يستدير "قاسم" ناحية الموظف الذى نظر إلى الأرض يخفي خوفه قائلا:

-من هذا الشخص؟! وكيف استطاع الدخول إلى هنا فى مثل هذا الوقت المتأخرة وهو ليس من طاقم المستشفى؟! تبادل الموظف والزائر الغريب الواقف مكانه النظرات قائلا:

-أنه "سيد" السائق الخاص بدكتور"مهاب" مؤكد يحتاج شئ له ، أو أنه نسي شئ يخصه هنا وهو يمر صباحا على الأدوية وأرسله كى يأخذها له، فرك الضيف رأسه وهو يهم بالدخول قائلا:

-لقد نسي دكتور "مهاب" مفاتيح سيارته هنا وأرسلني كى أخذها له، فلتت من بين شفتي "قاسم" ضحكة ساخرة قائلا:

-نسي مفاتيح سيارته؟! كدت أصدق تلك الكذبة، لكنني تذكرت أنني رأيته ينطلق بسيارته الخامسة مساء من جراج المستشفى عند حضورى ، وأعتقد أنني رأيتك أنت نفسك تقودها له ، تذكرتك أنت أيضا من كان يحمل أكياس وصندوق حفظ الدم منذ فترة وكنا أيضا فى مثل هذا الوقت، وحينما سألت عليك أخبروني أنك عامل نظافة تقوم بأخذ القمامة من هنا، لكن واضح أنك تعمل شئ أخر غير أنك تحمل القمامة، سوف أترك لكما المكان تتحدثان كما يحلوا لكما، لأن المكان لا يسع ثلاثتنا، لكن أظن أن مكتب دكتور" عبد الرحمن " يسعنا جميعا.

                          "الفصل الواحد والعشرين"

                                "من أنت؟!"

نشعر فجأة أننا نقف بمنتصف الطريق، ننظر حولنا نجد الكون باتساعه وحجمه لا يسعنا، لا يستطيع أن يحتوينا داخله، نضحك فقط، غير مصدقين ما نحياه، نشعر أن ما يحدث لنا فوق قدرتنا، أكبر من حجم أدركنا، نبحث عن كلمات تشعرنا أننا أحياء، تجعل من أمامنا يشعر أننا معه نشاركه ما يفعله، لكننا فجأة يتوقف كل شئ بنا، نحيا مشاعر شتى دفعة واحدة ، نهمس لأنفسنا أن أهدئي كى نلملم شتاتنا ، حتى روحنا التى نحملها، نشعر أنها كبيرة جدا علينا وأننا لا نستطيع حملها.

حاول "عمر" أن يجمع شتات نفسه، أن ينتشل روحه الغارقة  داخل عيني "عشق" التى تركت يديها بيديه ، متعجبة منه ، تشعر أنها تعرفه، أنها تقابلت معه منذ زمن، وتحدثت إليه ظل الأثنين صامتين ،غارقين داخل بعضهما ، متوحدين بشعور واحد، وإن كان لا يعرفان ما هو! شئ من الأمان ، وشئ من الدفء، شعور خاص لا يولد سوى داخل قلوب صادقة ، شعور لا نحياه سوى مرة واحدة طيلة العمر،أبتسم "خالد" وهو ينظر إلى "نهال"، التى رفعت كتفيها مبتسمة له مغمضة عينيها ، تخبره أنها تفهم ما وراء أبتسامته  تلك، جلس "عمر" بجوار "خالد" صامت تماما، لا يفعل شئ غير النظر إلى وجه "عشق" التى حاولت أن تخفي توترها واضطراب خلجات روحها ، التى لا تفهم لها سبب، مالت عليها "نهال" هامسة:

-أراك جميلة الليلة أكثر من أى ليلة مضت،ما السر إذن وراء هذا الجمال الهادئ ؟! أبتسمت"عشق" كمن يحاول أن يجد شئ يخبئ به ضعفه الواضح ، وضعت كفها فوق شفتيها قائلة بهدوء:

-أنت فقط تحبينني لذلك تريني جميلة دوما، رفعت رأسها ناحية "خالد" تصطدم عينيها "بعمر" ، تجده ما زال ناظر إليها وبعينيه مئات الأسئلة، رأت من بين تلك الأسئلة وهذه المشاعر الكثيرة، دمعة تلمع تحت نور الأضواء المنعكسة فوق سطح مياه النيل أمامه، شردت قليلا فيه رغما عنها، كان كل شيء حولهما، يتعجب مما يحدث، حتى النيل نفسه تراقصت مياهه فجأة ، كمن يخبرهم أنه فرح من أجلهما ، وأنه يحيا مشاعرهما، ساد صمت ناعم بالمكان، كمن يهدهد طفل صغير، يقبل كفه الناعم ، يستنشق عطره المتناثر فوق أجزائه، حاول "خالد" أن يكسر هذا الصمت قائلا:

-صوت الموسيقي أنساني أن أعرفكم إلى بعضكما، هذه الدكتورة"عشق" تعمل بالمستشفى الذى يمتلكه أبي ، كما أنها صديقة لي بخلاف صداقتها هى و"نهال"، وهذا هو "عمر الراوي" أكبر محامي مصر ، صديق طفولتي وشبابي، نظرت إليه "عشق" وهى تحاول ألا تنظر بعينيه قائلة:

-سعيدة بمعرفتك كثيرا، أبتسم "عمر" وهو ينظر ناحية النيل قائلا:

-وأنا أنتظرت تلك المقابلة منذ ثلاثة وعشرون عاما، تبادل الجميع النظرات ، ضيقت "عشق" عينيها متعجبة مما قاله، نظر "خالد" ناحيته قائلاً:

-"عمر" ماذا تقول؟! هل شردت فى شئ لا نعرفه؟! هز رأسه كمن يستجمع نفسه قائلا:

-لا شئ أنا ممتن كثيرا لدعوتك لي على هذا العشاء، وممتن أكثر أنني تعرفت بدكتور "عشق"، لكن أخبرني أين العشاء؟! هل سوف يمضي الليل ونحن نتحدث فقط ؟! لقد مت من الجوع، ومؤكد أن الجميع مثلي، ضرب "خالد" مقدمة رأسه وهو يضحك بصوت مسموع قائلا:

-حاولت أن أجعلك تنساه، لكنك لا تنسي شئ كعادتك دوما ، أمسك "عمر" علبة سجائره يخرج واحدة منها قائلا:

-أنا لا أنسي شئ مرت عليه سنوات طوال، لا أنسي شئ مهما كان وأنت تعرف ذلك، والآن دعنا نرى ماذا أعددت لنا من عشاء، نادى "خالد" على النادل يطلب منه العشاء، الذى لم تمر عليه دقائق الا وهو أمامهم ، يتناولونه وسط جو يملأه حب وضحكات ، أنتهت السهرة، قامت "نهال" مع "عشق" التى عرضت عليها أن توصلها  لبيتها ، صافحت "نهال" "خالد" و"عمر" ، وقفت "عشق" تحييهم بنظرة منها وابتسامة دون أن تمد يديها، خافت أن تصافحه مرة أخري، شعرت إن فعلتها سوف تترك جزء منها معه، قرأ "عمر" ما بداخلها ، مد كفه إليها كى يصافحها ويفوت عليها فرصة الهروب من أن تترك له شئ منها، مدت كفها إليه دون النظر إليه، أمسك بكفها يشعر أن هناك وريد جديد خُلق له، شئ من فوضي مشاعر رقيقة أجتاحهما مرة أخرى، سحبت كفها منه تاركة المكان مع "نهال" ظل يتبعها بعينيه حتى وصلت للباب، نظرت خلفها تسرق نظرة إليه، أبتسم حينما رأها تفعل ذلك،علم أنه ترك بعقلها مائة سؤال وبروحها آلف شعور، قرب كفه من أنفه يستنشقه، تنهد بقوة وهو يُقبل مكان كفها، ظل "خالد" واقفا مكانه متعجب مما يفعله قائلا:

-أشعر أنك تلك الليلة شخص أخر، غير "عمر الراوي" الذي أعرفه، أشعر أنك تبدلت ،عينيك لها بريق لم أراه من قبل، وجهك وملامحك ذاتها ، أصبحت هادئة وكأنك عدت طفل صغير، أبتسامتك ذاتها يا "عمر" بها شئ مختلف، وكأنها أتية من براح الكون، أنت الليلة شخص أخر، أخبرني ماذا حدث لك؟! ما الذي أبدل حالك هكذا؟! خطي "عمر" ناحية النيل، وقف أمامه فاتح ذراعيه كمن يريد أن يحتضن الكون قائلا:

كما قلت أنا لست من تعرفه منذ زمن،كل ما فى الأمر أنني الليلة حقا "عمر الرواي" على حقيقته، "عمر" الذى أشتقت أنا نفسي إليه ، الليلة فقط عاد إلي من جديد بعد طول غياب .

                          "الفصل الثاني والعشرون"

             

                                "مكالمة ليلية"

حاول "خالد" أن يصطحب "عمر" معه وهو يغادر المكان،بعد أن رحلت"عشق" بصحبة "نهال" تعجب منه كثيرا، فهو يراه ويشعر به تلك الليلة شخص أخر مختلف، وكأنه طفل صغير، كل شئ به نقي ، حتى عينينه يري بهما صفاء لم يره من قبل، شئ بداخله فرح من أجل صديق عمره، شئ يشاركه ما يحياه حتى وإن لم يكن يعرف ما هو؟ أقترب منه وهو ما يزال واقفا مكانه صامتا أمام النيل قائلا:

-" عمر" لقد تأخر الوقت ، والمكان صار فارغ من رواده، والعاملين هنا يريدون أن ينصرفوا، هيا بنا نحن الأخرين، أترك سيارتك هنا وتعالي معي أوصلك إلى البيت، ظل واقف مكانه دون أن يستدير إليه قائلا:

-أذهب أنت يا "خالد" ، أنا سوف أعود بمفردي، أريد أن أبقي قليلا أستنشق هواء النيل، أحتاج أن أحتضن كل شئ بي، أن أشعر أن الكون خُلق تلك الليلة على مقاسي ولا أحد يشاركني به، أريد ولو لمرة واحدة أن أتنفس بعمق روحي، أن أتحرر من قيود قيدتني زمن طويل ، وما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون، أذهب أنت يا "خالد" وأنا سوف أعود حينما أكتفي من نفسي، تعجب الأخير مما قاله ، أقترب يقف بجواره قائلا:

-ماذا حدث لك ؟! لم أشعر أن حالك تبدل فجأة؟! حضرت هنا شخص والأن أنت شخص أخر، نظر إليه "عمر" وعلى ثغره أبتسامة مختلطة بتنهيدة قائلاً:

-سوف أحكي لك كل شئ ، لكن ليس الأن، فقط أمضي واتركني، لا تخشي شئ علي، قبل تلك الليلة كان لك أن تخشي علي، أما من الأن عليك أن تطمئن أنني سوف أصبح دوما بخير، ربت "خالد" كتفه دون أن يعترض على شئ ، أحترم ما شعر أنه يحياه، تركه ماضيا في طريقه، لم تمر دقائق إلا وهو الأخر يستقل سيارته يمشط بها الطرقات، فاتح جميع نوافذها ، وكأنه يريد أن يأخذ أكبر قدر من هواء الفجر، أخذ يغني مع صوت فيروز المنبعث من سيارته وروحه تضحك ،كأنها لم تضحك من قبل ، شعور غريب يقتحمه يغسله من شوائب الزمن، يرد عليه جميع من يحب دفعة واحدة ، تمني لو بقي الليل هكذا حتى يروي ظمأ روحه إلى روحه….

وصل "خالد" إلى البيت وقد أقترب أذان الفجر، دلف إلى الصالة الكبيرة، أتجه ناحية الدرج كي يصعد إلى غرفته، سمع صوت أتي من غرفة مكتب أبيه، ضيق عينيه فى استغراب شديد ، من الذى سوف يكون مستيقظا بالبيت حتى هذه الساعة المتأخرة؟! يعلم أن أباه بالمستشفى، أقترب بهدوء من الباب يري من بالداخل، كان هناك ضوء خافت يتسرب من فتحة الباب، أستطاع من خلاله أن يري "مهاب" الذى جلس فوق المكتب، يتحدث فى هاتفه قائلا بانفعال واضح:

-يا غبي ألم أخبرك من قبل ألا تذهب إلى المستشفى فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل؟! ولا تدخل الصيدلية لأى سبب، أخبرني هل عرف دكتور"قاسم" شئ؟! أقترب "خالد" من الباب أكثر وهو أشد أنتباه ، لم سمعه وأثار الشكوك فى نفسه، صمت "مهاب" دقيقة يستمع إلى الطرف الأخر الذى يتحدث إليه ثم عاد بانفعال أكبر قائلا:

-أخبر الموظف بالصيدلية أن يُخفي ما لديه من علب اللبن التى أتينا بها ، وإن حدث وأخبر أبي كما توعد ، لا تتحدث بأي شيء ، وكأنك لا تعرف شئ، حتى أفكر فى حل لتلك المصيبة التى تسببت بغبائك فى حدوثها، ثواني وهب واقفا مكانه مردفا:

-ماذا تقول ؟! ماتت طفلة بسبب هذا اللبن، أين هى الأن؟! أنا سوف أحضر حالا قبل أن يأخذها أحد من المستشفى، لم يكد يغلق هاتفه مغادر المكتب، حتى وقف "خالد" أمامه يسد عليه طريقه للخروج، جحظت عينيه حينما رأه ، كانت المفاجأة أكبر منه ، لجمت لسانه، رفع الأخير حاجب عينيه ناظر إليه نظرة نارية، أكدت له أنه سمع كل شئ ، حاول بخبث أبليس أن يرتب كذبة بعقله يخبره به إذا سأله عن شئ، مد يديه يزيح "خالد" من طريقه قائلا:

-ماذا بك؟! لم تقف هكذا تمنعني من المرور؟! ضرب الأرض تحت قدميه صائحا بصوت مرتفع، كاد يُوقظ بها كل من بالبيت قائلا:

"مهاب" قف مكانك، لا تغادر، هناك حديث بيننا لم ينتهي بعد، كان قد وصل إلى باب الفيلا يهم بالمغادرة ، وقف مكانه يزفر بضيق شديد قائلا بعصبية:

-ليس لدي وقت الآن، كي أستمع إلى خطبة منك ،أريد أن أذهب إلى المستشفى  أقترب منه "خالد" حتى وقف أمامه وجه لوجه قائلا:

-لأجل ذلك أريدك ، أخبرني مع من كنت تتحدث الأن ؟! وما هى قصة لبن الأطفال؟! وتلك الطفلة التي ماتت هناك؟! نظر "مهاب" إلى السقف يعض شفتيه بغيظ قائلا:

-طفلة من ؟! ولبن ماذا الذى تتحدث عنه؟!يُخيل إلي أنك سمعت أحد غيري، أمسكه "خالد" من مقدمة قميصه بشدة قائلا:

-أقسمت بربي إن كان هناك شئ مشين تفعله، وهذا ما أصدقه وأعلم أنه حقيقة ، لن أتركك وسوف تجدني لك بالمرصاد، هل وصل بك الجشع لهذا الحد؟! تملكك طمع لا أمل فى شفائك منه، أي قلب تحمله بين ضلوعك؟! ساعدك أن تقتل طفلة؟! لكن أخبرني هل تلك الأولي ؟! أم أن هناك غيرها قتلتهم دون أن نعرف؟! وصل بك الجُرم إلى طعام الأطفال ، وأين وكيف؟! مؤكد فى مكانك الذى لا يمكن أن يشك فيه أحد لأنك طبيب، لكن حسنا باقى ساعات قليلة ويأتي الصباح ، لي ولك ودكتور "قاسم" حديث طويل هناك بمكتب أبيك.

                        "الفصل الثالث والعشرون"

                             "وجدت روحي"

يا سنين العمر بربك أخبريني، من جعلوا منا قبلة يقصدونها ، يحطوا بها رحالهم بعد كل سفر وظمأ للظل؟! من حفروا أسمائنا فوق ضلوعهم كوشم لا يقدر عليه الزمن؟! يا سنين العمر بربك أخبريني، من أخفيناهم بين الجلد والعظم ، جعلنا منهم معطف نتدثر به كلما أصاب صقيع الشتاء أرواحنا؟! من أطعمناهم خبز قلوبنا ، وكلما أشتد بنا الظمأ أغمضنا أعيننا ترتوي بأسمائهم؟! يا سنين العمر بربك أخبريني ، من جعلناهم عنوان بطاقة هويتنا؟! وكلما تاهت من المراسي وجدنا لنا بأعتابهم مرسي نحط به بعد كل سفر وترحال وتخبط ، أخبرينا  بأسمائهم ، أتينا بوجوههم معكِ ، أطعمينا وجودهم ، أتركينا نكفر عن وزر المسافات وما فعلته السنين بنا.

عاد " الراوي" إلى فيلته الساعة السادسة صباحا، بعد أن مر على كل الأماكن التى كان يذهب إليها، يحكي لها عن عشق العمر وحب السنين ، الذي لم يستطع

الزمن أن يجور عليه،كلما مر على طريق همس باسمها فيه فضحك وهو يخبره أنه وجدها بعد طول الغياب، رأي بائع الحلوة العجوز ما زال يقف مكانه ، أرسل إليه بعينيه وعد ، أنه سوف يحضرها معه إليه، كى يعلم كما أخبره، أنها أحلي بكثير من كل حلوي العالم، حتى روحه ذاتها ، لم ينسي أن يعرج عليها ، يضمها، يعتذر لها عن طول صبرها معه، فتح باب فيلته، وهو يشعر أنه لا يسير على الأرض، وأن كل شئ حوله مختلف، تكاد تكون تلك هى المرة الأولى، التى يرى فيها بيته، الجدران ذاتها يشعر أنه ترقص، الأثاث صار أكثر أناقة، لم يقصد غرفته، بل ألقي بحلته ومفاتيح سيارته على طول ذراعه، أخذ يدور فى المكان وهو يغني بصوت عذب هادئ، رأي "حسنية" تخرج من المطبخ، تنظر إليه بتعجب شديد، أغمضت عينيها وعادت تفتحهما من جديد، علها أخطأت فيما رأته، لم يعطيها الفرصة تنطق، أخذها من تحت ذراعيها، يدور ويرقص بها فى المكان ، وهى تضحك كطفلة صغيرة ، لا تستطيع أن توقفه عما يفعل، فرحت لفرحته التى لا تعرف لها سبب، لكن يكفي أنها تراه أمامها منذ زمن بعيد فرح بهذا الشكل، حاولت أن تشاركه أحساسه دون أعتراض، فهي الأخري عادت طفلة فى لمح البصر، هكذا نحن نمسك بتلابيب أي فرحة أتية إلينا حتى لو لم نكن أصحابها، وكأننا نحتاج لشئ ينسينا أسمائنا وما نحن عليه، ظل "عمر" هكذا هارب من الوقت وكأنه فقد الأحساس بالزمن ، لم يوقفه غير سقوط "حسنية " على الأريكة الكبيرة وهى تلتقط أنفاسها وتضحك قائلة:

-مهلا يا "عمر" ، لقد كبرت يا ولدي، ولم يعد لدى قوة كي أجاريك فيما تفعل، لكن أدعوا الله أن يفرح قلبك أكثر وأكثر ، حتى ولو لم أكن أعلم من سر تلك البهجة التى أراها تحتل تفاصيلك؟! ألقي بنفسه يجلس بجوارها وضحكته تملأ المكان يحاول أن يلتقط أنفاسه قائلا:

-وجدتها يا دادة ، وجدت ثلاثة وعشرون عاما هاربة من عمري، وجدت ذاتي التى كنت أحيا دونها، وجدتني أنا نفسي، وجدت "عمر الراوي" ذلك الصبي ذات الستة عشر عاما، عدت أخيرا من غربتي الطويلة، أغلقت دفتر عمري القديم بأكمله، وجدت مرساي ، أخذت أخر سفينة عائدة إلى وطني، وجدتها ووجدت معها نقائي وهدوئي وونس قلبي الذى شاخ دونها ، حتى صار شجرة يابسة لا حياة فيها ولا ظل يرزقني الصبر على ما هو أت، الأن فقط تصالحت مع كل شئ، كل شئ، لن أغضب مرة أخرى، لن أدافع عن ظالم مهما كانت الشهرة والمكاسب التي سوف أجنيها من خلفه، عادت إلى كي تطهرني من كل دنس وسوء نفس، وضعت "حسنية" كفها فوق فمها، تحاول أن تحبس صرخة فرح آتية من أعماقها قائلة:

-تقصد من يا "عمر"؟! تقصد من؟! "عشق"؟! حقا ما تقول؟! صدقا يا ولدي وجدتها؟! لا أصدق ما تقوله، بعد هذا العمر وكل تلك السنوات يا "عمر" ، كم أنت كريم يا الله، أحكي لي كيف وأين؟! أنا نفسي كنت فى بعض الأحيان، أشفق عليك من هذا الجنون، أدعوا الله أن يُنسيك هذا العشق، الذى صار داء يسكنك، كان يجلس صامتا تماما ، ينظر إلى الأرض ، أقتربت منه ترفع وجهه إليها، رأت دموع كثيفة بعينيه، مختلطة بابتسامة أرسلها إليها، ضمته إلى صدرها ماسحة فوق رأسه قائلة:

-دموع فرح هي ، دموع باردة تطفئ نار شوق السنين يا "عمر"، لكن قبل أن تروي لي ما حدث ، دعني أعتذر لك، سألها بعينيه عن ماذا تعتذرين؟! هزت رأسها قائلة:

-نعم لك فى رقبتي أعتذر، لأنني في يوم ما أتهمتك بالجنون بيني وبين نفسي، كنت كلما رويت لي ما بداخلك ، وحكيت لي عنها، كنت أتعجب هل من الممكن أن يكون ما تحكيه حقيقة ؟! هل يوجد أحد يحب بهذا الجنون العاقل، وهذا العقل المحموم بها ؟!هل يوجد قلب يحمل كل هذا الإخلاص بداخله لإنسانة لا تعرف حتى عنها شئ؟! كيف  يحيا إنسان على مجرد أمل من الممكن أن يكون وهم؟! ما هذا الحب ؟! وما هذا القلب؟! الذي لا أجد له وصف الأن؟! بعد أن كسب الرهان، وأثبت لي ولكل من حوله أنه كان محق، وأن ما يشعر به صدق، أعتذر لك يا "عمر" ، عن كل مرة كنت أطلب منك أن تنساها، دون علمي بحجم ما تحمله لها ، قلبك حقا كان أصدق من الجميع ، حينما كان يخبرني ويُصر، أنه سوف يصل إليها ذات يوم، خرج من حضنها وما زال ثغره يحمل أبتسامته قائلا وهو يشير إلى قلبه:

-هذا من كان دوما يخبرني كلما ضعفت ، أنها قد هانت وأنها باتت قريبة مني، فقط عليا الصبر قليلا، هذا من كان يشد أذري ، يهمس لي لا تستمع لمن حولك أستمع إلي وصدقني دون غيري، فأنا من يحملها بداخله، يشعر بها حتى ولو كان يفصل بينك وبينها بلاد، القلب الصادق إذا أحب، رأي بنور بصيرته، وأنا أحببت بعمري أكمله، وجدتها الليلة صدفة وأنا أتناول العشاء مع "خالد" أتسعت أبتسامته أكثر مردفا:

-صارت طبيبة قلب ماهرة، تعمل بالمستشفى الخاصة التي يمتلكها والد "خالد"، أشار بيديه يصفها قائلا:

-صارت جميلة أكثر مما كانت، تكاد تصل إلى طولي، نفس العينين الجميلتين ، اللتين كنت أرى بهما الدنيا ، نفس دفئهما وبراءتهما، صارت صبية كل ما بها ينبض له قلبي، لكنني كما أنا أراها دوما أبنتي الصغيرة ، التى تربت على يدي، حتى ولو لم أكن أراها، مد يديه يمسح دمعة خانته مردفا:

- كنت كل ليلة  أجدل لها شعرها جديلة حلوة مثلها، كنت أقرأ عليها المعوذتين، أسمع منها كيف كان يومها؟! ومن أضحكها؟ ومن أغضبها؟ كنت أختار لها لون ثوبها وأحمر شفاهها، الذى أخبرتها ذات يوم ،أن تستغني عنه، فشفاها الأجمل بطبيعتها، عندما كنت أمر من أمام محل لبيع لعب الأطفال، أشتري لها عروسة ، حتى صار لدي لها ، ثلاثة وعشرون عروسة، هى عدد سنوات غيابها عني، حتى يوم ميلادها ، كنت أذهب إلى نفس المكان الذي رأيتها به الليلة، أصنع لها حفل جميل مثلها، وعندما كانوا يسألونني أين هي  صاحبة هذا الحفل؟! أخبرهم أنها مسافرة وسوف تحضر معي العام القادم ، حتى صارت الأعوام ثلاثة وعشرون عام، عشت معها وهي ليست هنا كل شئ يا دادة، كنت أحكي لها عن عملي ومشاكله، كانت تخبرني أي القضايا أقبل وأيها أرفضه، غضبي وضيقتي كنت ألقي بهما أمامها وهي تبتسم لي ، أن أصبر سوف يمر كل شئ، تنهدت "حسنية" بشدة قائلة:

-كل هذا تحمله بداخلك وحدك؟! كيف تحملت هذا الثقل دون البوح به؟! هل لهذا الحد لم أستطيع أن أشعر بك؟! لك حق برقبتي لا أعلم كيف من الممكن أن يُسد؟ لكن رأيت كيف هو عوض الله لك ؟! رزقك بها وكأنه يخبرك أن جزاء صبرك سوف يُنسيك مرارة كل ما مررت به.

                         "الفصل الرابع والعشرون"

                                  "صدام "

حينما نجئ نبحث عن الحقيقة ، علينا أن نكون على قدرها، حينما نقف وجها لوجه لها ، يجب أن نتقبلها بكل ما فيها حتى وإن كانت سوف تكسرنا، أوقات يكون فى كسرنا جبر دون أن ندري، أوقات نحتاج لهزة عنيفة تقلب ما بداخلنا رأسا على عقب،كي نعيد ترتيب المشهد من جديد، نحذف منه المعطوب والفاسد، ونُبقي الجميل والطاهر، إن قررنا فى لحظة شجاعة الولوج إلى عالم مغلق، علينا أن نمتلك جميع أسلحتنا بأيدينا من أجل أن نستمر فى طريقنا حتى النهاية.

بدلا من أن يصعد "عمر" إلى غرفته كي يتناول قسط من النوم، دلف إلى غرفة مكتبه، وقفت "حسنية" على الباب قائلة:

-سوف أحضر لك كوب من اللبن الدافئ ، أبتسم لها وهو يجلس خلف مكتبه ، يفتح درج صغير مقفل بمفتاح لا يتركه أبدا من يده، أخرج منه مجموعة من الصور القديمة التى جمعها بشريط أحمر، وضعها أمامه ينظر إليها وهو يضحك كطفل صغير يرى ألعابه الصغيرة المحببة إليه والتى لا يعرف شئ فى الحياة غيرها، وقفت أمامه دون أن يشعر بوجودها، أنتبه فجأة على صوت "حسنية" وهى تدلف من باب المكتب تحاول أن تنبه قائلة بصوت مرتفع:

-"عليا"؟! ما الذي أيقظك أنت الأخري مبكرا هكذا؟! نظر "عمر" إليها فجأة عاقد حاجبيه قائلا:

-هل يدخل الناس مكان به غيرهم هكذا دون استئذان؟!حاولت أن تنظر لما يحمله بيديه ،تري صور من تلك ؟! التى شغلته عن كل شئ، حتى جعلته لا يشعر بوجودها، وضع ما كان بيديه فى الدرج الموجود على يساره وأغلقه، مالت بجسدها فوق المكتب قائلة:

-منذ متى ويجب على الزوجة الأستئذان قبل الدخول على زوجها؟! عاد بظهره للخلف يستند إلى مقعده، يدور به فى مكانه قائلا:

-حينما يكون الزوج فى عزلة مع نفسه، عليها أن ترى أولاً، إن كان بحاجة لوجود غيره معه، أم أنه يحتاج نفسه فقط؟! ضربت المكتب بكفيها قائلة بانفعال:

-وما الشئ الثمين الذي يجعلك تحتاج إلى الخلوة بنفسك من أجله؟! وما هو السر الذى تدفنه فى هذا الدرج ، سلب النوم من عينيك ، حتى زوجتك لم تعطي نفسك فرصة تطمئن عليها بعد يوم وليلة لم تراها ولا تعرف عنها شئ؟! رفع "عمر" حاجب عينيه وقبل أن يهم بالرد ، تدخلت "حسنية"التى شعرت أن الموقف سوف يتأزم بينهما، قائلة وهى تضع كوب الحليب أمامه فوق المكتب:

-ماذا حدث يا "عليا" لكل هذا الأنفعال؟!"عمر" كان عائدا من المكتب فى موعده  وجدني متعبة بعض الشئ، جلس بجواري حتى أطمئن علي، وحينما وجد أن الفجر قد حان والصباح أقترب من البزوغ، فضل أن يُكمل عمله بالمكتب، لذلك ذهبت أُحضر له كوب اللبن هذا، أهدئي قليلا الأمر لا يتطلب كل تلك الضجة، هب "عمر" واقفا ينوي الأنصراف، إلا أن صوت هاتفه المتلاحق أوقفه، نظر فى ساعة معصمه يتأكد أن الوقت مازال مبكرا، تبادلت "حسنية" و" عليا" النظرات وقد بدت على وجوههم علامات القلق، أخرج هاتفه من جيب سترته ينظر إلي شاشته ، يفتحه بسرعة قائلا بقلق واضح:

-"خالد" ؟! ماذا حدث؟ هل أنت بخير؟ هل ثمة شيء حدث معك ؟ يصمت دقيقة يتلقى إجابة منه يعود صوته مرة أخرى قائلا:

-حسنا سوف أمر عليك الأن ونذهب سويا ، أهدأ فقط حتى أتي إليك ونري ماذا نفعل؟! أمسك سترته فى يديه يهم بالأنصراف ناظر إلى "حسنية" قائلا:

-دادة سوف أذهب إلى "خالد" يوجد أمر يخصه يستوجب ذهابي إليه، تركها ماضيا دون أنتظار جوابا منها ، تجاهل "عليا" التى وقفت فى مكانها تستشيط غيظا ، ضغطت على أسنانها حتى كادت تكسرها، تبعته "حسنية" بعينيها حتى غادر الفيلا، أمسكت بكوب اللبن ناظرة إليها نظرة عتاب دون كلام، همت بالأنصراف، أوقفها صوتها الهادر على الباب قائلة:

-دادة من تلك التي كان يحدثك عنها "عمر"؟! لقد سمعت كل حديثكما، أستدارت تنظر إليها قائلة:

-إن كنت سمعتي ما دار بيننا وهذا لا يليق بك ، لأن التجسس حرام، لم تسألني الأن؟! من المفترض أنكِ تعرفين ما تسألين عنه، تصرفك كله خطأ، وما فعلتيه الأن مع زوجك خطأ أكبر "عمر" تعرفينه أكثر مني ، لكن من الواضح أنك رغم عشرتك الطويلة له، ألا أنك لم تستطيعين أن تعرفي أنه حينما يصل لأخر صبره لا يبقي على شيء مهما كان هو بالنسبة له، أخبرتك مائة مرة أن لكل أنسان ركن بداخله لا أحد يعرف عنه شئ ، ولا حتى أقرب الناس إليه، مفتاحه معه هو فقط، وإذا حاول غيره النزوح إليه يغرق، حاولي أن تُمسكِ بأخر طرف للخيط ، الذى يربط بينك وبين "عمر"، بدلا من أن تقطعيه أنت بيديك "عمر الراوي" ليس حكر لأحد ولا جزء من ممتلكاتك التي وقعتي عقد شرائك لها، أنه إنسان حي من لحم ودم ، يريد أن يتنفس وأنت توثقين وثاقك حول عنقه، أفهمِ ما قلته لكِ جيدا، ولا تكرريه ثانية، لأنك وقتها سوف تكونين أنت الخاسر الوحيد ،  قلوب البشر ليس لأحد عليها سلطانا ولا هى بأيدينا ،نحركها كيف نشاء، أنها بيد الله وحده، وما يضعه الله داخل القلوب، لن تقدرين أنتِ ولا غيرك على نزعه.

                             "الفصل الخامس عشر"

                                 "دون اتفاق"

حينما يقرر القدر أن يمنحنا فرصة كى نحيا ، لا يخبرنا بذلك ، يكتب هو السيناريوا كما يروق له ، يضع لكل شخص بالحكاية دوره ، ويحرك الأحداث كما كتبها، يحدد الوقت والمكان دون اتفاق مسبق ، يرزق كل واحد بمن يشبهه، يضع البدايات ويرينا الطريق، يتركنا نُكمل قصتنا، ونحن مرحبين بكل ما يعطينا إياه، نتلبس الشخصيات التى وضعها لنا بكل ترحاب، لأننا نجدها على مقاسنا.

وصل "مهاب" إلى المستشفى قبل وصول أحد من أطباء القسم ،عدا "قاسم" الذى بات ليلته دون أن يغادر، قبل أن يصل "مهاب" إلى غرفة مكتب أبيه، وجد "سيد" وموظف الصيدلية يجلسان بالممر المؤدي إلى داخل المستشفى، ما أن رأوه حتى هرولوا إليه قائلين بنفس واحد:

-ماذا سنفعل فى تلك الورطة؟! لن يتركنا دكتور "قاسم" وحالنا، لن يتركنا ننجو بفعلتنا، أقترب منهم يحاول أن يكظم غيظه ضاغطا فوق أسنانه قائلا:

-لا أريد سماع صوت أحدكما الأن، كل ما حدث كان بسبب غباء تفكيركم، لقد نبهت أكثر من مرة أنه يجب عليكما،عدم التواجد بالمستشفى بوقت متأخر، أشار بأصبعه فى وجه "سيد" موجها الكلام إليه مردفا:

-وأنت ألم أخبرك من قبل أنني لا أريدك هنا ، إلا عندما أطلب منك ذلك؟! أزاح الأخير موظف الصيدلية خلف ذراعه قائلا:

-كان هناك أمر هام أريد أن أخبرك به، جئت على أمل أن أجدك هنا، فأنا أعلم أنك كثيرا ما تتواجد فى هذا الوقت من الليل، أمسكه "مهاب" من ذراعيه بشدة قائلا:

-من أنت كى تقرر متى أكون متواجد ؟! لا تنسي نفسك مرة أخرى، أنت مجرد خادم ، تقوم بفعل خدمة مقابل المال ، للمرة الثانية لا تنسي نفسك، سوف أذهب إلى مكتب دكتور"عبد الرحمن" ، مؤكد "قاسم" عنده وأخبره بكل شئ، وأنتما أبقيا هنا، لا كلمة واحدة تخرج منكما، وإن تم وسألكم أبي عن شيء، لا تخبروه بشئ غير أنكما لا تعرفون عما يتحدث "قاسم" وأنك كنت هنا فى مثل هذا الوقت، لأنني أرسلتك تُحضر لي بعض الأوراق الهامة، فهمتم يا أغبياء، ألقي عليهم نظرة أحتكار واضحة ماضيا فى طريقه ، بغيظ واضح تبعه "سيد" بعينيه كان يضمر له شئ بداخله لا يعرفه أحد سواه، دقيقة وكان "مهاب" يطرق باب غرفة مكتب أبيه ، دلف إليه ، وجد "قاسم" يجلس وما أن رأه حتى أشاح بوجهه بعيد عنه، أشار إليه أبيه بالجلوس قائلا:

-أجلس ، هناك حديث طويل بيننا، نريد أن نتناقش بالأمر سويا ، دكتور "قاسم" أكتشف حالة وفاة لطفلة هنا بالأمس، نتيجة تناولها لبن مسمم، وعندما سألنا موظف الصيدلية أخبرنا أنك من تقوم بجلب تلك الألبان هنا بمستشفي

 "عبد الرحمن الأيوبي" طفلة تموت بلبن مسمم يوجد لدينا،بعد كل هذا العمروما فعلته كي أحافظ على هذه المستشفى نظيفة، ذات سمعة طيبة، يحدث ما حدث،ضرب فوق المكتب بكفه بعنف واضح مردفا:

-والسبب أنت ، ليس أحد أخر، أخبرني ما تلك القصة دون كذب ، جلس ببرود واضحا دون أن يهتز له جفن، واضعا ساقا فوق ساق ، أمام "قاسم" الذى رماه بنظرة أحتكار لم يستطع هو نفسه أن ينكرها قائلا:

-من أخبرك بتلك الرواية الملفقة؟! مؤكد هذا، مشيرا بسبابته إلى الأخير الذى هم أن يرد عليه ويمسك به، لولا وصول "خالد"إلى المكتب فجأة، يتبعه " عمر" أقترب من "قاسم" يهدئه قائلا:

-من فضلك أهدأ فقط من أجل والدي، دعنا نستمع إليه ، نظر إليه "قاسم" أومأ برأسه وعاد يجلس مكانه ، فهو يحب "خالد" ويقدره ، لأنه يعلم أنه غير أخيه تماما وأنه شريف فى كل شئ، جلس "خالد" وبجواره "عمر" على أريكة بجوار الباب، صمت الجميع يتطلعون إليه ينتظرون ما يقوله ، وإن كانوا جميعا يعلمون كذبه مقدما، أشار إلى أبيه قائلا بسخرية واضحة:

-سوف أثبت لكم جميعا أن لا علاقة لي بهذا الأمر كله ، أشار إلى خزانة بجوار أبيه قائلا:

- بتلك الخزانة جميع الأوراق التى تخص أى شئ داخل وخارج من أدوية تخص المستشفى، من السهل جدا أن نرجع إليها ونرى من وقع على أوراق الألبان، إن وجد أحدكم توقيع بأسمي ، لكم ما تريدون جميعا، وقف "خالد" يقترب من الخزانة ينظر إلى أبيه قائلا:

-حسنا أفتحها يا أبي، وسوف يظهر كذبه جليا، مد دكتور"عبد الرحمن " يده  يفتح الخزانة يخرج كل ما بها من أوراق تخص شراء الألبان الخاصة بالأطفال، وضعها أمامه على المكتب، يقرأ ما بها، تطلعت الأعين به  ومع كل ورقة يتصفحها يتغير لون وجهه، تبادلوا النظرات فيما بينهم، ضيق "خالد" عينيه قائلا:

-ماذا هناك يا أبي؟! ما الذى يوجد بتلك الأوراق؟! من وقع عليها؟! ألقى أبيه بالأوراق التى يمسكها فى وجه "مهاب" قائلا بانفعال شديد:

-من وقع بأسمي على تلك الأوراق؟! وقف "عمر" ودكتور "قاسم" يلتقطون الورق المتناثر فوق الأرض يتأكدون مما سمعوه، وجدوا جميع الأوراق موقعة بأسم "عبد الرحمن الأيوبي"، ضحك "مهاب" عائد برأسه إلى الخلف قائلا:

-ماذا حدث لك يا والدي العزيز ؟! أنه توقيعك وهذا أسمك، ضرب المكتب بيديه واقفا يريد أن يمسك رقبته قائلا:

-توقيع من أيها اللص ؟! تخون ثقتي بك وكل يوم تحضر لي أوراق أوقعها لك دون النظر بها ، تحت زعم أنها أوراق بعض الأجهزة الطبية التى سوف نستوردها للمستشفى من الخارج، نظر "مهاب" إلى السقف وهو يصفر بسماجة واضحة قائلا:

-القانون لا يحمي المغفلين ، أنت وقعت بأرادتك، لم يجبرك أحد ، وإذا قمت بإبلاغ الشرطة عن تلك الألبان، لن يضيع غيرك ، أمسك به "خالد" يلكمه لكمة قوية بوجهه أطاحت به أرضا قائلا:

-أيها الكلب الحقير، ماذا تقول؟! تخون ثقة أبيك وفى نهاية الأمر تلصق به تلك التهمة وأنت من فعل كل هذا، أمسك "عمر" "خالد" يهدأ من روعه قائلا:

-أهدأ من أجل أبيك، سوف يقع أمامك من صدمته،الأمور لا تعالج هكذا، ضربه أو حتى تقطيعه لن يحل الموقف، علينا الأن أن نفكر بهدوء ، كيف لنا أن نخرج من هذا المأزق ؟! أقترب دكتور "قاسم" من دكتور "عبد الرحمن" الذى بدت عليه علامات الإجهاد الشديد، تناول كفه يتحسس وريده ، وعيني "عمر" و"خالد" عالقة بوجهه، مد "قاسم" يديه يفك أزار قميصه ورباط عنقه قائلاً له:

-حاول أن تتنفس بهدوء، حاول أن يفعل ما طلبه منه، لكن دون جدوى ، دقائق وخرا على الأرض فاقد الوعي، صرخ "خالد" جري يرفع أبيه من الأرض ، أمسك "قاسم" بسماعة الهاتف الموضوع فوق المكتب قائلا:

-أخبر دكتور "عشق " أن تحضر إلى مكتب دكتور "عبد الرحمن" فورا، أضربت ملامح "عمر" الذى حاول أن يتماسك أمام ما يحدث، أقترب من "مهاب" قائلا:

-أظن أنه لا مكان لك هنا الأن ، من فضلك غادر المستشفى بأكملها من أجل أبيك، رفع الأخير حاجب عينيه قائلا:

-من أنت كي تأمرني بهذا؟! أنه مستشفي أبي ، كما أنني أمتلك نصف أسهمها ، لن أغادر،عليك أنت أن تغادر هذا المكان ، جري "خالد" ناحيته يجره من ملابسه  إلى الباب، حاول "عمر " أن يخلصه من يديه لكن دون جدوى، كان أحساس "خالد" أكبر من أي شئ ،خوفه على أبيه جعله يطيح بكل ما يقابله، أحساس مختلط، خزي من تصرف أخيه ،وضعف وهو يري أبيه يهوي أمام عينيه ، فتح الباب يلقى به خارجه بصوت هادر، جعل جميع من يعملون بالمستشفى يحضرون قائلا:

-هذا الحيوان من تلك اللحظة لا يوجد على ذمة المستشفى، لا أحد يأخذ منه أى أمر مهما كان ، لا وجود له هنا من تلك اللحظة ، جميع أوامركم المسئول عنها هو دكتور "قاسم" وفى حالة غيابه يوجد بدلا منه"عشق" و"نهال" إن حدث وسمع كلامه أحد يعتبر نفسه هو الأخر خارج المكان، كانت "عشق" قد حضرت بسرعة ، ما أن رآها "خالد" حتى صرخ فيها قائلا:

-"عشق" أبي يموت بالداخل أسرعي إليه، وقف "مهاب" يعدل ملابسه قائلا وهو يهم بالمغادرة:

- حسنا سوف أمضي الأن فقط كى أرد عليك رد أكبر مما فعلت، لكن سوف أعود لا تنسي لي نصف أسهم المستشفى،مالت "عشق" على دكتور

"عبد الرحمن" بلهفة قائلة:

-ماذا حدث له؟! جاءها صوت "عمر" الذى كان يقف خلف الباب ولم تراه قائلا:

- أنفعل بعض الشئ ، بعدها فقد وعيه هكذا، رفعت رأسها تري من المتحدث، فهى تعرف أصواتهم جميعا، تلاقت أعينهما دون كلام، صمتا معا ، حاولت هى الأخري أن تخفت صوت دقات قلبها الذى كان صوته أعلي من صوت أى شئ يحدث حولها.

                        "الفصل السادس والعشرون"

                               " رفقا بي "

ليس هناك أقسي من لحظات نموت بها مائة مرة خوفا على من نحب، نتمنى لو كان ما نحياه مجرد لحظات وتسقط، أو حلم ثقيل ننتبه لنهجره ، نجئ نبحث حولنا عن وجه يطمئننا أنها مجرد لحظات لن تدوم ،لكن ماذا عسانا أن نفعل، إن وجدنا الوجه الوحيد الذى تذهب إليه روحنا ويطمئن له قلبنا، وجه لا نعرفه، وجه نحاول أن نتلاشى النظر به، لأنه يسرقنا من كل شئ ، نخاف إن أستسلمنا له نقع في حبه و نتوحد به.

أصرت "عشق" أن تبقى بجوار دكتور "عبد الرحمن" حتى تطمئن على حالته، نظرت للواقفين حول فراشه قائلة بصوت منخفض:

-"خالد" أطمئن أنه بخير، أهدأ أنت كبير بما يكفي، خذ " نهال" وتفضلوا من هنا سوف أبقي معه، أراقب سرعة ضربات قلبه، أنت تعرف أن قلبه مُتعب منذ زمن، وما حدث نتيجة طبيعية لوقوعه تحت ضغط عصبي وانفعال،عض "خالد" شفتيه بغيظ قبل أن يهم بالنطق، نظرت "عشق" إلى "نهال" نظرة فهمت مغزاها، أقتربت من "خالد" أمسكت بيديه تجذبه ناحية الباب قائلة:

-تعالي معي يا "خالد" نتناول شيء دافئ بكافية المستشفى، أستسلم لها كمن فاض به التعب، خرج دون نقاش، أبتسمت" عشق" فى وجهه وهو يغادر تطمئنه وضعت وجهها بين كفيها تطلع بوجه الغافي أمامها قائلة دون صوت:

-لا أعرف كيف رجل مثلك ، ينجب شخص مثل "مهاب" و"خالد"؟! شتان حقا بين الأثنين، لكن لا يهم هذا الآن ، قلبي يحدثني أن هناك شئ أخر لا يتوقعه أحد منا جميعا ، يحدث داخل أروقة المستشفى دون علم ، شيء أبشع من لبن الأطفال الفاسد، من يقتل أطفال بيديه ، سهل جدا أن يفعل ما هو أبشع وأعظم، يا الله كن رحيم به وبنا، ببطء شديد فُتح باب الغرفة من جديد، همت "عشق" أن تنطق، لاعتقادها أن "خالد" قد عاد، لكن رائحة العطر الذى تسرب إليها، جعل دقات قلبها تزداد سرعة حتى كادت تسمعها، العطر لا يخص أحد مما تعرفهم، العطر هو نفسه عطر ذلك الزائر الجديد ، الذى ترك بها شئ لا تعرفه، وإن كانت تحاول ألا تعترف به أو تحدث نفسها عنه، ظلت كما هى تحاول ألا يرى أضطرابها أحد، وقف خلفها حتى شعرت بطيفه ،جائها صوته الرخيم الذي يشبه صوت الكريستال قائلا:

-كيف حاله الآن؟! تنفست بهدوء قائلة بصوت بدت به رعشة :

-الحمد لله أنه بخير، خرج من خلف ظهرها يقترب منه، مسح على رأسه يقبلها

تعلقت عينيها به تحاول أن تحفظ ملامحه، رفع رأسه ينظر إليها، صمتت كأنها مسلوبة الإرادة والحس، كل ما كان بإمكانها فعله، أن تبقى كما هى ،تنظر إليه كأنه قطعة من الجنة ، التى تقرأ عنها، رأت نفسها بوجهه، رأت طفولتها وصباها وحتى ما لم تحياه بعد من شبابها، رأت كل شئ جاءها بالحلم، شعرت بيد خفية تنتزع من كل ما مر وكل ما سقط منها ورحل عنها وأُخذ منها عنوة، لتولد من جديد ، بقلب صافي خالي من كل شئ وأى شئ، أبتسم لها حينما رأها هكذا ، أبتسم وكأنه حيزت له الدنيا ، وأتته دفعة واحدة بكل سنين عمره التي لم يحياها، ولم يشعر بها وهى بعيدة عنه، أبتسم كمنتصر عائد من حرب ضروس، خاضعها وهو أعزل من سلاحه ألا من عينيها ، التى كانت له دوما درع وسيف ووطن يحتمي به، هى الأخري وجدت نفسها تبتسم له ، تمنى لو ضمها إليه، تمني لو أنه استطاع أن يعتصرها بين ضلوعه، كان بوده شئ واحد فقط فى تلك اللحظة وهو يرى ابتسامتها التى كانت أحب الأشياء إليه ، التى تمنى لو رأها مرة واحدة في حياته البائسة، أن يمتلك خاتم سليمان، كى يهديها العالم بأسره صوت ضعيف أتي من ذلك الغافى وكأنه شعر أن بجواره حياة جديدة تبدأ وروح تدب بقلوب حوله، فأخذ منها شئ أحياه، أنتبهت "عشق" على صوته، نهضت مسرعة إليه ، أقتربت منه تسأله:

-دكتور "عبد الرحمن" هل تسمعني؟! كيف أنت الآن ؟! بصوت منخفض جدا جاوبها قائلا:

-الحمد لله أنا بخير، أقترب منه "عمر" مد يديه يربت كفه، لامست أنامله يد "عشق" التي شعرت بقشعريرة غريبة لم تشعر بها من قبل، كماء هبط فجأة على أرض عطشى فارتوت، سحبت يديها بسرعة وهى تنتفض ، أخذت طريقها للخارج هاربة منه قائلة:

-سوف أذهب أحضر "خالد" و"نهال" ليطمئنوا عليك، نظر إليها بطرف عينيه يحاول أن يمنع ضحكة منه، شعر بما شعرت به ، علم أنه فاز فى رهان عمره الطويل، تنهد بقوة كمن يخبر نفسه أن من الأن هى لك، ما أن غادرت حتى وقفت تستند بجسدها على جدار خلفها ، تبحث عن أنفاسها المتسارعة، تحاول أن تهدأ قلبها الذي لم يتوانى فى ضربها ، كأنه يخبرها أن تتركه معه، كمن يشتكيها لنفسها لأنها أخذته بعيد عنه، أغمضت عينيها تستجمع شتاتها، هزتها يد "نهال" ، وأعادها صوت "خالد" قائلا:

-" عشق" ماذا بكِ؟ هل أنت بخير؟ هل حدث شئ لأبي؟! فتحت عينيها تبحث عن صوتها قائلة:

-لا شئ هناك ، كل شئ على ما يرام، دكتور" عبد الرحمن" على ما يرام، كنت في طريقي إليكما، أخبركما أنه بخير ، فتح "خالد" الباب كى يراه، وقفت "نهال" بجوار "عشق" تمسح فوق شعرها قائلة:

-ماذا بك ؟! هل أنت متعبة من شئ؟! لون وجهك شاحب، أبتسمت لها قائلة:

-مجرد إرهاق من جراء ما حدث، أذهبي  لترى  كيف حاله، وأنا سوف أذهب أتناول فنجان قهوة ، تركتها ماضية قبل أن تضعف وتخبرها أن بالداخل من سرقها دون إرادة منها، سارت واضعة كفها فوق قلبها قائلة:

-بربك رفقا بي.

                           "الفصل السابع والعشرون"

                                  "أمر مشبوه"

للشيطان ألف باب يطرقه دون ملل أو ضجر، حتى يصل إلى مبتغاه، هناك  من يغلقون الباب في وجهه دون الألتفات إليه، ومنهم من يتفوقون عليه دون ندم أو وخزة ضمير، نحن دوما من نختار طريقنا ، نزكي خيرنا أو نجعل شرنا يقودنا

نحن من نختار وعلينا أن نمتلك الشجاعة لنعترف أننا نتحمل تبعة أختيارنا

جلست "عشق" بمكتب دكتور "عبد الرحمن"، أستدعت المسئول عن حضانة الأطفال، طرق الباب يستأذن بالدخول، يجاوب صوتها قائلة:

-تفضل، يدلف شاب فى العقد الثالث من العمر، ملامحه هادئه تشبه الأطفال التى يتعامل معهم، أبتسمت له ترد عليه تحية الصباح التي ألقاها عليها قائلة:

- أهلا بك ، تفضل أجلس، أريدك فى أمر هام، دقائق وأكون معك، جلس واضعا يده فوق المكتب، ينظر أمامه بأدب جم، أخذت "عشق" تتصفح سريعا بعض الأوراق الموضوعة أمامها، رفعت عينيها إليه قائلة:

-عذراجعلتك تنتظر، لكن كما ترى هذا تقرير بحالة الطفلة التي توفيت بالأمس داخل الحضانة، أريد أن أعرف ماذا حدث بالضبط بحكم عملك هنا وأنك أنت المشرف على الحضانات بالمستشفى؟! أين كنت قبل أن تستدعي الممرضة دكتور "قاسم" ؟! أستدار إليها بنفس هدوئه قائلا:

- كنت أصلي الفجر ولم يكن هناك وقت طويل بين مروري على الأطفال وترك الحضانة ، كان كل شيء على ما يرام ، حالتهم جميعا مستقرة ، لا شئ يدعو للقلق، وحينما عدت وجدت ما حدث ،وهذا ما يعرفه الجميع، تنفست بشدة تطرق المكتب بقلم تمسكه قائلة:

-حسنا هل أنتهت إجراءات خروج الطفلة لكي يتسلمها أهلها؟! ضيق الشاب عينيه باستغراب واضح قائلا:

-الطفلة المتوفاة خرجت بالفعل صباحا قبل حضورك إلى المستشفى، لوت "عشق" عنقها وبعيونها نظرة أستغراب قائلة:

-كيف خرجت؟! ومن وقع على أوراق خروجها من المستشفى؟! ومن قابل أهلها؟! زفرت من بين شفتيه ضحكة ساخرة قائلا:

-من يفعل ذلك كل مرة، وينهي أى شئ قبل معرفة أحد به،هو أيضا من فعلها تلك المرة، وسوف يفعلها كل مرة، لأنه المستفيد الوحيد من ورا هذا الأمر، مسحت "عشق" وجهها بكفيها، تريد أن تستوعب ما قاله ، تُكذب صوت عقلها الذى أخذ يردد أسمه لها كى لا تنساه قائلة:

-تقصد من؟! كابتن "خالد" كما علمت أمر أن لا أحد هنا يأخذ أى إجراء تجاه أى شئ يحدث، غيري أنا ودكتور "قاسم"، ولم يعط أحد منا موافقة على خروج الطفلة من المستشفى، رفع حاجب عينيه كمن يخبرها أنه لا يصدق أنها لا تفهمه قائلا:

- سوف أوفر عليك أن ترهقين نفسك فى التفكير ، مع أنني واثق تمام الثقة أنك تعرفينه ، دكتور "مهاب" قد حضر هنا ليلا، مؤكد بعد أن وصله خبر موت الطفلة ، حضر وبعده بقليل حضر واحد من أهل الطفلة أظنه والدها، جلس مع "مهاب" أكثر من ساعتين داخل مكتبه، دون أن يدري أحد ولا حتى دكتور

"عبد الرحمن" بعدها وجدتهما يدخلان الحضانة بصحبة من يدعي "سيد" ، ذلك الشخص الغريب الذى هبط علينا فجأة من السماء ، يسير خلف "مهاب" فى كل خطواته، حينما شعرت بوجودهم ، أختبأت خلف ستارة ، سمعته يقول لذلك الشخص الذي حضر كى يأخذ الطفلة:

-كما تري لقد توفت لأن ما كانت تعانيه من ثقب بالقلب، لم يمهلها تلحق بإجراء العملية لها، فى كل الأحوال قد ماتت، لا أظن أنك إن رفضت عرضي سوف تجني شئ من خلف رفضك، أما إن أستعملت عقلك قليلا، سوف تجني الكثير الذى يجعلك تنجب بدلا منها عشرة أطفال ، تأمن لهم مستقبلهم، وأظن أن لديك طفليين غيرها هم فى حاجة لأن تقبل عرضي، إن كنت تريد أن يحيوا حياة كريمة، رأيت الرجل يهز رأسه بالموافقة، فى تلك اللحظة خرجت من خلف الستارة قائلاً:

-مرحبا دكتور "مهاب" هل بأمكاني مساعدتك، رأيتهم يتبادلون الثلاث النظرات ألا أن نظرات الرجل كانت زائغة أكثر منهما، علمت وقتها أن هناك شئ غير مريح يحدث، ضغط "مهاب" أسنانه بشدة حينما رأني قائلاً:

-لا شئ، ما أريده ليس من اختصاصك، هذا والد الطفلة جاء يتسلمها، وقد وقعت له على أوراق خروجها من المستشفى، أقتربت من الطفلة أحاول أن أمنعهم من أخذها،حتى يحضر أحد منكم، أو حتى يطلع الصباح ، ألا أنه رفض بشدة ، واتهمني أنني أتدخل فيما لا يعنيني، مؤكد أنه صاحب المستشفى وله حرية القرار فى كل شئ ، حمل الطفلة تاركين المكان ، هذا كل ما حدث ليلا، وضعت "عشق" يديها تحت ذقنها شاردة فى الفراغ أمامها، مرت دقائق وهى هكذا، تحاول أن تفهم ما كُتب بين السطور، وما يلوح به عبر كلامه ، قرأ صمتها ، أشفق عليها مما تحاول الوصول إليه، قام واقفا وهو يضع يديه بجيب البالطو الأبيض قائلا:

-تعلمين كم أحترمك وأقدر إنسانيتك،أعلم أنك لا تقبلين الغش أو الشئ الذى نسلك طرق ملتوية للحصول عليه ، لذلك سوف أخبرك شئ وعليك أن تضعيه داخلك، واتركي حقيقته تكشفها لك الأيام، لأنها مهما بقيت خفية ،سوف يأتي الوقت الذي تتكشف فيها، هنا بين تلك الجدران يحدث الكثير من الصفقات المشبوهة ،حاولي فقط أن ترى ولو لمرة واحدة بعين الشك، سوف ترين ما لا يخطر لك على بال، لا تنظري دوما بعين الثقة ، لأنها كثيرا ما تكون عمياء،  تعطي الأمان كامل، ومن مكان الأمان تأتي الطعنة، تركها ماضيا يغادر المكان وصل إلى الباب، أمسكه يفتحه ،استدار ناحيتها مردفا:

-حاولي أن تذهبي مرة واحدة ليلا على ثلاجة الموتى بالمستشفي، لكن كما قلت لكِ ،عليك الذهاب ليلا ، ففي الليل بإمكانك أن ترى الخفافيش.

                           "الفصل الثامن والعشرون"

                                 "نبض جديد "

لم يكن هناك شئ بوسعها أن تفعله ، بعد كل ما مرت به من أحداث طوال اليوم، وما جعل عقلها يتشتت أكثر ما أخبرها به مسئولي حضانة الأطفال، جلست صامتة تماما ،لا تعرف ماذا تفعل؟ ولا مع من تتحدث ؟! تخبره أنها لأول مرة طوال حياتها ، تشعر أنها تائهة ، لا تفهم ما يدور حولها، قفز فى ذهنها فجأة ، صوت "يوسف مأمون" وصورة زوجته التى شعرت أنهم عائلة أخري لها، هبت واقفة تخلع عنها البالطو الأبيض، تجمع حاجاتها واضعة إياها فى حقيبتها الصغيرة، قاصدة الخارج ، رأها "عمر" الذي كان يقف أمام نافذة كبيرة تطل على مدخل المستشفى والطريق الخارجي، أسرع بالمغادرة خلفها، أستقلت سيارتها التي كانت تقف بجوار سيارته دون أن تعرف، أنطلقت خارجة قاصدة بيت "يوسف وزوجته"، سار خلفها دون أن تراه، كان شئ بداخله فرح كطفل صغير يلهو تحت المطر، أراد أن يخبرها أنه بجوارها، مر من جوارها بسرعة جعلتها تنظر إليه ، كادت أن تقذفه بوابل من الشتائم، أشار إليها بيديه،أبتسمت له رغما عنها قائلة:

-أيها المجنون، من أى البقاع أتيت كى تقلب حياتي ؟! لا أعرف ما سر تلك الفرحة التي تتملكني حينما أراك؟! شئ لدي يخبرني أنه يعرفك حق المعرفة، فجأة وجدته يسد عليها الطريق ويقف أمامها بسيارته، وقفت فجأة وهي تشهق من فعله، نظرت إليه من نافذة سيارتها وهو قادم ناحيتها يبتسم، مال على النافذة قائلا:

-أولا أعتذر عن أنني أجبرتك على الوقوف فجأة، نظرت إلى الأرض ثم إليه، تحاول أن تحبس ضحكة أتية منها ، لكنه رآها فى عينيها قائلة:

-عرفت أولا وماذا ثانيا؟! فتح باب السيارة بحركة مباغتة ،جعلتها ترجع بظهرها للخلف ، جلس فى المقعد المجاور لها قائلا وهو يدير زرار الكاسيت قائلا:

-ثانيا عندى أنا ، دعيني أدعوك إلى فنجان قهوة ، فى مثل هذا الجو الشتوي الرائع أمام النيل،همت أن تنطق ، لكن صوت فيروز الدافئ الآتي من السيارة، جعله يمسك أصبعها ، الذى كانت قد رفعته كمقدمة لحديث لم تنطقه، واضعا أصبعه فوق شفتيه قائلا:

-لا تتحدثي الأن ، فى حضرة فيروز لا يجب أن يتحدث أحد، فقد دعينا نسمع ما تقوله، جاء صوت فيروز قائلا:

-أنا لحبيبي وحبيبي إلي، يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي، تركت أصابعها بين أصابعه دون إرادة منها، سلبت فجأة منها كل مقاومة وكل كبر وعناد، مخدر هادئ لذيذ تسرب إلى أجزائها، صمتت وكل شئ لها يتحدث، يستجير به أن يتركها وحالها، صمتا الأثنين وكان صمتهما أبلغ حديث، تعجز حروف العربية أن تكتبه، دوما حينما تتملكنا مشاعر أكبر من قدرة أستيعابنا نصمت، ليس عجزا أو ضعفا، بل نصمت أستسلام لما نحياه، نصمت ونحن نسلم أنفسنا بكامل أرادتنا لمن كان بأمكانه أن يخطفها من بين حنايانا دون مقاومة منا، نصمت وكأننا داخل محراب لا يقبل أى كلام ، لأن الكلام فى محراب العشق عبث ، كل ما علينا فعله وقتها ،هو أنت نتعبد بطهر كي يليق بنا المقام، أنتهت فيروز من الغناء ، لتبدأ حياة جديد داخل قلبين، وكأن كلاهما كان يبحث عن الأخر طوال حياته، عادت "عشق" من شرودها، سحبت أصابعها من بين يد "عمر" الذي أخذ يضحك وبداخله يرقص، كطفل صغير نال قطعة حلوة يحبها، ضحك حينما شعر برجفة أصابعها ومن قبلها ، سمع دقات قلبها التى تحاول أن تُصمتها بأي شكل ، مسح على شعره قائلا:

-هيا أغلقي سيارتك وتعالي معي،سوف أجعلك تنسين كل ما يشغل فكرك،نظرت

إليه تضرب كفا بكف وهى تهز رأسها ، تطايرت خصلات شعرها فوق عينيها، مدت يديها ترفعه عن عينيها، تمني لو كانت يديه أسرع إليها، لكنه أكتفي بالأمنية مؤقتا كي لا تهرب منه، فتح باب السيارة يترجل منها قائلا:

-هيا لا تتأخري القهوة لا تنتظر أحد، أغلقت زجاج سيارتها مغادرة إليه دون أعتراض منها، وكأنها بحاجة لتلك الدعوة، فتح لها باب السيارة قائلا:

-كم عام مضى وأنا أنتظر تلك اللحظة، جلست بجواره وهى تشير له ناحية الطريق قائلة:

-هيا أنطلق لنرى أي قهوة تلك التى جعلتك تخطفني هكذا من أجلها؟! أدار محرك السيارة يريد أن يختصر المسافات ويطوى الطريق، فقط من أن يجلس أمامها يحتضن وجهها ،ويتنفس عطرها، وصلا إلى المقهى الذي يرتاده دوما "عمر"، قصد المنضدة المخصصة له أمام النيل،سحب لها مقعد تجلس فوقه

جلس هو أمامها ، جاءه النادل مرحبا بقدومه قائلا:

-دقائق وتكون قهوتك أمامك، عاد ببصره إليها، وجدها شاردة فى مياه النيل أمامها، تركها كما هى، لم يقطع شرودها، كان يعلم طبيعتها، يحفظ تفاصيلها، يعرف أن لحظات شرودها، خاصة بها فقط دون شريك، أحترم صمتها،  مضت دقائق طويلة وهي على حالها،لم تنتبه إلا على صوت فنجان قهوته وهو يضعه أمامه، ضيقت عينيها ونفس الأبتسامة الجديدة التى طرقت ثغرها منذ أن رأته كما هي قائلة:

-أظن أنني شردت أكثر مما ينبغي ، لدرجة أن القهوة حضرت ولم أنتبه، لكن لم تركتني في  شرودي؟! أرتشف أخر رشفة من فنجان قهوته قائلاً:

-لأنني أعلم طبيعتك وأعلم أنك لا تحبين أن يسرقك أحد مما أنت مسافرة عبره، تحبين الصمت وقت أن يكون بعقلك ما يشغلك، لذلك لم أرد أن أفسد عليك ما أنت به، نظرت إليه باستغراب واضح قائلة:

-كيف عرفت كل هذا عني؟! لم نتقابل سوى مرتين، من أين لك بكل ما قلته ؟! عقد كفيه وضعهما تحت ذقنه قائلا:

-هل خطأ ما أخبرتك به؟! رفعت حاجب عينيها قائلة:

-ما يقلقني أنه حق وأن كل ما قلته هو فعلا لدي، لكن كيف عرفت؟! هذا هو السؤال، لا أعرف لم بداخلي صوت يخبرني أنه يعرفك، وما قلته الأن يثبت لي شعوري هذا، بخلاف شيئا هام ، أنني مستسلمة لك ، مطمئنة معك، لا أشعر بالغربة ولا بشئ به ريب تجاهك، ركبت معك سيارتك ، جئت معك إلى هنا دون أدني مقاومة ، لم ؟! لا أعرف غير شئ واحد هو أني أعرفك من قبل، ضحك وهو يرميها بنظرة حب كبير قائلا:

-أتركِ كل هذا جانبا الآن ، أخبريني ما الذى يشغلك وجعلك تتركين المستشفى هاربة هكذا؟! تنهدت بقوة وأخذت تروي له دون توقف كل شئ، كل ما أخبرها به مسئول الحضانة ،كل ما تعرفه عن سلوك "مهاب" ومخاوفها بأن هناك أشياء تحدث لا يعرفون عنها شئ، وعن شعورها تجاه "سيد" الذى هبط فجأة من السماء إلى المستشفى ولا يترك "مهاب" لحظة، روت له كل ما تحمله بداخلها وتخفيه حتى عن "نهال" و"خالد" ، فرغت من حديثها ، تراه صامت يستمع إليها بكل حواسه وكأنه ظمأن يرتوي من صوتها، نظرت إليه قائلة:

-لقد رويت لك كل ما أحمله، ولا أعرف كيف قولته ؟!ولا لم أخبرتك أنت به ؟!كل ما أعرفه أنني تحدثت لأنني وجدت معك ونس غريب لم أشعر به من قبل، مسح وجهه بكفيه قائلا:

-تحدثتي لأنك كنت بحاجة إلى أن تخرجي ما بداخلك و يرهقك، هل تعرفين أن "سيد" هو أبن الدادة التي ربتني بعد رحيل أمي ، وتعيش معي بنفس البيت، جحظت عينيها دون كلام، هز رأسه لها مردفا:

-نعم تلك حقيقة ، لكنها غاضبة عليه ورافضة تماما لتصرفاته وحياته ، وقامت بطرده من البيت، هي نفسها تعلم أن حياته كلها فاسدة، وأنه يعمل فى شئ مشبوه،يكفي علاقته "بمهاب" أكبر دليل على صدق أحاسيسنا، لكن لا تخافي أنا أراقبه منذ أيام، سوف أعرف ما يفعله قريبا، لكن عليك أن تحترس جيدا، لا تدعيهم يعرفون ما أخبرك به مسؤول الحضانة، ولا تفعلي شئ دون أن تخبريني به ، أتفقنا، أبتسمت وهي تهز رأسها بالموافقة قائلة:

-أتفقنا لكن لم كل هذا الأهتمام والخوف؟! نظر فى مياه النيل قائلا:

-كل هذا الخوف شئ قليل مما أحمله لكِ، يكفى ما ضاع منى ومن عمري وأنت لست معي، لو كان بيدي، كنت أخفيتك بين ضلوعي كي لا تذهبين مني مرة أخرى دقت المنضدة أمامها قائلة:

-لم تتحدث بصوت خافت هكذا؟! ومن هى التى تعبت حتى وجدتها؟! أشار إلى النادل يناديه كي يغادر قائلا:

-لا شئ سوف تعرفين كل شئ فى وقته، الآن هيا كي أوصلك إلى المستشفى، لا أريد ما حدث يؤثر عليك وعلى عملك ، نهضا سويا ، صارت بجواره، تمنت لو ألتصقت به ، شعور غريب وأمان أغرب تشعر بهما معه، دفء يتسرب منه إليها دون أن يلمسها، وكأنها وجدت به ومعه جميع أهلها وأصدقائها ومن تحبهم أجمعين، وصلا إلى المستشفى فتحت الباب تغادر، أستدارت ناحيته قائلة:

-شكرا لك على كل ما فعلته معي اليوم، شكرا على الشعور الذي أعطيتني إياه دون أن أطلبه منك، أبتسم لها دون كلام ، تركته وما أن خطت خطوة حتى ناداها لأول مرة بأسمها الذى غادره بكل شوق حتى كادت حروفه تذوب على شفتيه، توقفت مغمضة عينيها وكأنها هى الأخري كانت بحاجة لأن تسمع أسمها منه، لتشعر للمرة الأولى فى حياتها، أن أسمها يخصها وأن له وقع السحر، أستدارت تنظر إليه، أشار لها بيده ناحية قلبها قائلا:

-كيف هى الشامة الموجودة هنا فوق صدرك منذ ولادتك؟! أرتعشت كل ملامحها فجأة وكأن عاصفة مرت بوجهها، فغر فمها، نظرت ناحيته نظرة بها كل علامات الأستفهام، ضحك وهو يشير بيديه مودعا إياها، تركها وأنطلق بسيارته، ظلت واقفة مكانها واضعة كفها أيسر صدرها هامسة:

-يا الله كيف عرف أن هنا شامة حقا؟! كيف عرفت تفصيلة بي لا يعرفها مخلوق على وجه الأرض؟! بربك أخبرني من أنت؟!

      

                         "الفصل التاسع والعشرون"

                               "رؤية ضبابيه"

تأتينا أوقات تزدحم فيها الأشياء وتتفق علينا المواقف مرة واحدة، تسدد لنا الضربات فى مقتل وكأنها تتلذذ بوجع قلوبنا، تخبرنا بشدة دون رحمة أن علينا أن نتجرد من كل رقة وعفوية، نقف أمامها وجها لوجه، كمن يبارز خصم له،عليه أن يطرحه أرضا قبل أن يقتله، ويقتل بداخله كل شئ عذب، هكذا هى السحب حينما تنذرنا بقدوم المطر، يشتد بها الغيم.

قصدت "عشق" غرفة دكتور "عبد الرحمن"  كي تطمئن عليه ولاحتياجها الشديد، لرؤية "خالد" و" نهال" ، كانت خطواتها سريعة مضطربة، وكأن قدميها لا تحملناها، كانت تحاول أن تلوذ بأربع حوائط تحتمي بداخلهم ، كى لا تراها عين وهى هكذا، ضعيفة هشة، كانت تبحث عن أحد تروي له زحام روحها ، وتشتتها بين ما ألقاه "عمر" بقلبها من إحساس لا تستطيع أن تقاومه، ولا تريد أن تذهب بعيدة عنه، وبين خوفها مما سمعته يحدث بالمستشفى وما يخبرها به عقلها، من ثمة أمور مشينة تحدث دون علمها، تخاف أن تعترف بها حتى بينها وبين نفسها، فكرة واحدة صارت مسيطرة عليها بعد هذا الحديث الذى دار بينها وبين مسئول الحضانة، لكنها تموت رعبا من أن تصدقه، اصطدمت وهى فى طريقها بجسد أوقفها، قبل أن ترفع عينيها ترى من هو؟! كانت قد عرفته من رائحة عطره، جحظت عينيها وهي ترى أبتسامته السمجة و ملامحه القاسية، لم تنطق بشئ وإن كانت نظرة عينيها له، أخبرته كل ما تضمره داخل نفسها ناحيته، أمسكها من ذراعها كي لا تسقط من جراء اصطدامها به قائلا:

-لم أنت شاردة هكذا؟! أخبرتك من قبل أن من هم مثلك تطوى لهم الأرض طيا ، فى مقابل نظرة من تلك العينين الجميلتين، دفعته بعنف واضح بعيد عنها قائلا وهى تشير بأصبعها فى وجهه:

-"مهاب" مرة أخرى أخبرك ألا تعترض طريقي، ولا حديث لك معي ، لم أنت هنا الآن؟! ألا يكفيك ما فعلته بأبيك؟! الم يخبرك "خالد" ألا تعود ثانية؟! ما الذى جاء بك ؟! ضرب كفا بكف وهو يضحك بصوت مرتفع قائلاً:

-تسألين مالك الشئ لم أنت به؟! هل جننتي أم تراك نسيت أننى صاحب هذا المكان ؟! وجميع من هنا بما فيهم أنت تعملون عندي، فلتت من بين شفتيها ضحكة ساخرة قائلة:

-أراك أنت تحلم، أنا وكل من هنا يعملون مع دكتور" عبد الرحمن" مالك هذا المكان، إن كنت توهمت بأن ما تملكه من أسهم يعطيك الحق أنك تمتلكنا، فاسمح لي أن أوضح لك شئ هام فقط، أنت لا تهمني في شيء لدرجة أنني لا أراك أمامي،لأن عيني لا ترى سوى الشرفاء، ولا أظن أنك منهم، أحمرت أذنيه، كاد أن يرفع كفه يصفعها، لولا أنها رمته بنظرة أخرست كل شئ به مردفة:

-لا تنسي نفسك،ولا تندفع وراء حماقتك لأنني من الممكن أن أُنسيك  أسمك، والآن ليس لدي وقت أضيعه معك،أزاحته من أمامها بيديها، توقفت قائلة وهي ما تزال تعطيه ظهرها:

-"مهاب" سوف أعرف ماذا تفعل بثلاجة الموتى هنا؟! وما الذى تقوم به أنت وشيطانك الذي يدعي "سيد" ؟! ووقتها لن أدعك تحيا لحظة هانئ، إن كان ما يدور بعقلي حق، ضغط على أسنانه بشدة، حتى كادت تسمع صوتها هامسا:

-ما الذي عرفك هذا السر؟! من الذى وضع رقبتي تحت يديك؟! حسنا سوف أعرف ووقتها لن أرحمه ولن أتركك تحيين يا "عشق" إن وُضعت رقبتي أمام عمرك، وصلت إلى غرفة دكتور "على الرحمن" دخلت بهدوء كي لا تزعجه، وجدت "خالد" يجلس بجواره واضعا وجهه بين كفيه يتطلع إلى وجه أبيه بصمت، شعرت بما يشعر به ، وقفت أمامه قائلة:

-لا داعى لكل هذا القلق البادي بعينيك يا "خالد" ، أنه بخير مجرد أرهاق لعضلة القلب من جراء أنفعاله، غدا إن شاء الله سوف يكون أفضل ويعود معنا من جديد، رفع وجهه إليها تسبقه تنهيدة قائلا:

-أطمع فى كرم الله أن يعود كما كان بخير، نظرت حولها قائلة:

-أين "نهال"؟! عاد بظهره للخلف قائلا:

-ذهبت تمر على المرضى وترى أطفال الحضانة المقرر لهم عمليات قلب، بعد ما حدث من وفاة الطفلة وتناولها لبن مسمم، أعطيت أوامري للعاملين جميعا إنك أنت و"نهال" المسموح لهم بدخول الحضانة ،ويكفي دكتور" قاسم" ما لديه من حالات أخري، حتى موظف الصيدلية أوقفته عن العمل حتى ينتهي التحقيق معه، ترددت بعينيها بينه وبين وجه أبيه ، شعر أنها تريد أن تخبره شيئا ، ضيق عينيه قائلا:

-ماذا هناك ؟! أشعر أن لديك ما تريدين أخباري به ، أومأت برأسها هامسة:

-نعم هناك ما أريد أخبارك به ، لكن ليس هنا، دعه يستريح دون صوت حوله، تعال نذهب إلى الكافيتريا الخاصة بالمستشفى نتحدث، نهض وهو يلقي نظرة على أبيه مغادر الغرفة خلفها، جلسا قبالتها قائلا:

-تحدثي "عشق" أني أسمعك، أزاحت شعرها خلف أذنها قائلة:

-أخبرني أولا ماذا سوف تفعل بسفرك وعملك ؟! من المفترض أن تعود إليه غدا، أشار إلى عامل الكافيتريا يطلب منه كوبين من العصير قائلا:

-لا تشغلي بالك، لقد أخبرتهم بأن لدى ظرف طارئ وحصلت على إجازة ، وقد أخذ مكاني صديق لي ، لن أترك أبي دون أن يكون بخير، ولن أترك المستشفى دون أن أعلم من جلب هذا اللبن هنا؟! دقت المنضدة أمامها دقات متوترة قائلة:

-لم يعد الموضوع مقتصر على اللبن الفاسد فقط يا "خالد"، هناك أشياء كثيرة ظهرت مؤخرا هنا، وكأن حادث موت تلك الطفلة كان بمثابة جرس أنذار لنا جميعا، كى ينبهنا أن ثمة أشياء أكبر وأخطر تحدث دون علمنا، أنتبه لها أكثر، أتسعت عينيه قائلا:

-أشياء مثل ماذا ؟! تحدثي يا "عشق"، أقتربت منه وهى تشير إليه أن تحدث بهدوء قائلة:

-أهدأ وسوف أخبرك كل ما عرفته، لكن دون أن تخبر به "نهال" أجعلها هى خارج تلك الأمور تماما، صمت ناظر إليها ، تنهدت مردفة:

-أخبرني مسؤول الحضانة أن هناك أشياء تحدث بثلاجة الموتى هنا دون علمنا، وأن أهل الطفلة حضروا وتسلموا جثمانها دون علم أحد منا أو الحصول على إذن بالدفن، كما أخبرني أن هناك شئ غير مفهوم يربط بين أضلاع المثلث الثلاث "مهاب" و" سيد" وموظف الصيدلية ، شرد "خالد" بعيد يحاول أن يربط ما قالته ببعضه كى يصل إلى نتيجة أخيرة، مضت دقائق طويلة وهو هكذا، وهى تراقبه صامتة ، ضرب فجأة المنضدة أمامه بعنف مشير بيديه للخلف قائلا:

-تقصدين أنه من الممكن أن يكون هنا، هنا بالمستشفى جريمة ترتكب و"مهاب" صاحب تلك الجريمة دون علم أبي أو أحد منا؟! وأن تلك الجريمة من الممكن أن تكون؟ وضعت كفها فوق فمه بقوة تُسكته قائلة :

-نعطي لأنفسنا فرصة نتأكد مما نخمن، ليكن أمامنا وقت كي نطمئن على سلامة الدكتور" عبد الرحمن" وتأخذه إلى البيت كى يُكمل فترة راحته هناك بعيد عن الأحداث هنا ، وقتها فقط تكون الساحة أمامنا نفعل بها ما نشاء، نتأكد من كل ما يحدث، نراقب على مهل، دون أن يكون هناك من نخاف عليه، فهمتني يا "خالد" عض أصابعه بغيظ قائلا:

-فهمت وإن كان فعلا حقيقة ما نخمنه، أقسم بربي سوف أقطع رقبتك يا "مهاب" "عشق" هل أحد عرف ما أخبرتني به غيرنا؟! زاغت نظراتها قليلا، شعر أن هناك ثالث لهما يعرف كل شيء، زفر قائلا:

-من هو الثالث يا "عشق" ؟! بحثت عن صوتها الذى خرج من حنجرتها مبحوح قائلة:

-صديقك "عمر" من بين كل العواصف التي كانت تجتاحه وتعتصر روحه ، أبتسم، أبتسم إبتسامة صافية وسط الغيوم الذى يجتاحه قائلا:

-"عمر"! هل تقابلتما؟! هزت رأسها له وهى تنظر إليه بنصف عين مثل طفل صغير يحاول أن يخفي أمر فعله عمن حوله، أتسعت أبتسامته أكثر حتى خرجت منه ضحكة عالية جعلت وجهها يحمر خجلا قائلا:

-ولم أنت خجلة هكذا؟! لن أقول لك ماذا حدث بينكما ولا كيف تقابلتما؟! لأن هذا اللقاء كان من المفترض أن يحدث منذ ثلاثة وعشرون عاما، نظرت إليه نظرة إستفهام ، تنهد بقوة قائلا:

-لا تتعجلي الأمور، سوف تعرفين كل شئ بوقته، كل ما أريد قوله قبل أن أذهب إلى أبي ، أن تتركي نفسك ومشاعرك، لا تقيدها بقيد أدمي روحك زمنا طويلا يا "عشق" ، يكفي ما ضاع من عمرك وأنت تحبسين نفسك بين مرضاك وعملك والمستشفى فقط، من مثلك لا يليق به سوي الحب والحياة، من يشبهك يجب عليه فعل شئ واحد هو أن يحب حتى النخاع  "عمر" فارس نبيل مثلك، يشبهك حد التطابق، رغم كل ما لديه ومن حوله إلا أنه لم يحيا حياته، لا تخشين على نفسك معه، لأنه ببساطة أحق بك من نفسك.

                       

                              "الفصل الثلاثون" 

   

                                 "هي لي "

حينما نقابل أنصافنا التى فرقت بيننا السبل، وعطشت أرواحنا إليهم حتى كادت أن تموت شوق إلى الأرتواء من ماء وجودهم، لا نجد أمامنا شئ نفعله حيالهم ، غير أن نمسك بهم بكل ما أوتينا من قوة، مهما وقف أمامنا نعصف به ، لا نتردد لحظة أن نعلن الحرب على كل من يطالبنا بنسيانهم، نحتضنهم بين ضلوعنا كى يبقون معنا مهما حدث.

عاد "عمر" إلى بيته دون أن يعرف كيف عاد؟! هل حملته قدميه ؟! أم أنه كان طائر فوق السحاب ؟! كطائر نورس أبيض، محملة ريشاته بماء البحر الذي يعشق تفاصيله، كانت تملأه فرحة لم تمر عليه من قبل ، رغم كل نجاحاته، شعر أن هناك وريد ماء عذب تفجر فجأة وسط صحراء قلبه رواه، هناك شئ يتجول داخل أوردته يصب بدمائه شهد ، يجعله يشعر بحلاوة ما يحياه، ككل مرة حينما يعود إلى بيته، يدلف إلى مكتبه، يخرج صندوق ذكرياته ، جلس يبتسم وبعينيه لمعة جديدة،  يشاهد صورة "عشق" وهى ما تزال بضفائر، حينما سرق تلك الصورة من مصور قديم ، كانت قد ذهبت إليه كى يلتقط لها صور من أجل المدرسة ، ضحك بشدة وهو يتذكر يوم أن ذهب إليه يخبره أنه شقيق صاحبة الصور ويريد الحصول عليها ، لأنها لا تستطيع الحضور إليه، قرب الصورة من شفتيه يلثمها، وابتسامته تزداد اتساعا، عندما قذف أمام عينيه مشهد المصور وهو يقسم لها حينما ذهبت كى تحصل على صورها من عنده، أن شقيقها حضر بالأمس وحصل عليها، وهى تكاد تُجن وتخبره أن ليس لها أشقاء، يومها قام مرة ثانية بتصويرها صور جديدة غير تلك التى أخذها هو، صوت أتي فجأة من أمامه بنبرة حادة قائلا:

-لتلك الدرجة تهيم عشقا لمن تلثم صورته أو ربما تكون صورتها؟! أغمض عينيه بشدة ، كمن أعتصره آلم فجأة ناظر أمامه قائلا:

-للمرة المليون أخبرك أنه ليس من اللائق، أن تقتحمي خلوتي بتلك الطريقة، أنا لست ملك لكِ، أنا حر أريد أن أبقي بمفردي ، أليس هذا حقي؟!ضربت بيديها فوق المكتب أمامه قائلة بعنف، وهى تحاول أن تجذب منه الصورة التي بيده قائلة:

-كما هو حقك ما قلت، حقي أنا الأخرى أن أعرف ما سر هذا الصندوق الذى يأخذك من كل شئ حولك؟! ولمن تلك الصورة؟! قالتها وهى تجذبها من يديه، لتمزقها نصفين، أحمرت عينيه حتى كاد شرارها يحرقها، هب واقفا وهو فزعا كمن طعنه أحد على حين غفلة ، فكانت الطعنة بقلبه فمزقته، لم تهتم بما رأته من رد فعله، ولم يهزها ما فعلته بالصورة ، كل ما كان يهمها أن تعرف لمن تكون تلك الصورة؟ كانت تحتفظ بالجزء الكبير منها، رأتها جميلة هادئة كملاك هارب من السماء ، رفعت حاجب عينيها حينما رأتها، قلبت الصورة تقرأ ما كُتب خلفها، وجدت جملة واحدة تقول"عشق سوف تبقين عشق الروح والقلب" ، وإمضاء بأسمه أسفل الجملة ، أمسكت بنصف الصورة تنوى تمزيقه، ألا أنه وقف يخلصه من بين يديها ، ألا أنها كانت أسرع منه، مزقت النصف إلى نصفين أخرين، بجنون محموم دفعها بعيد عنه ، جلس يجمع أجزاء الصورة، أمسك بقاياها مطبق عليها كفه ناظر إليها بتحدي مرعب قائلا:

-طيلة عشر سنوات وأنا أحملك فوق رأسي، لم أرفض لك شئ يوما ما، أعطيتك من عمري وأعصابي حتى مشاعري طوعتها لكِ ، كى لا أكون ظالما فى شئ ، يحاسبني عليه الله، حاولت أن أعوضك كل ما فقدتيه، حتى ولو على حسابي، أخفيت عنكِ نار مستعرة بداخلي من فقد من أحببت، كنت لك صديق وأخ وزوج وأب، لم أقدم لك إلا الخير، صحيح لم أستطيع أن أعطيك قلبي، ليس تقصير مني  قدر ما كان غباء منكِ، لأنك أنانية ، ظننتي أنكِ كتبتِ عقد شراء لي ، وأني أحد أملاكك وأنك تملكين روحي، لم تستطيعي أن تأخذى قلبي، رغم أنها لم تكن هنا ولم أكن أعلم أين هي؟! لأنكِ فشلت فى أن تضعين حبك بقلبي، تعلمين لم؟! لأن القلوب بيد الله وحده، يضع بها حب من يشاء وقبول من يريد ، لم تستطيعي أن تنسيني أياها لسبب بسيط جدا، أنكِ لم تعرفين كيف يكون الحب؟! وما أستطعت أن تحبنى حقا، هل تظنين أن حب التملك حب؟! أنه أنانية وحب نفسك وطمع ليس أكثر، من يحبون بصدق يجعلون من أمامهم  يبادلونهم  نفس الشعور وأكثر، هي هكذا من تحبه يحبك، ومن يتصنع الحب مهما حاول لن يدخل القلب القلوب ذكية لا يمكن لأحد أن يُغفلها أو يضحك عليها، فعلت كل شئ من أجل أن تكوني سعيدة، رغم أننى لم أحيا يوم سعيد معكِ، تريدين أن تعرفي ما هو سر هذا الصندوق؟! ومن هي صاحبة تلك الصورة؟! حسنا سوف أخبرك، لكن عليك أن تعرفي شئ هام، أنني طيلة تلك السنوات كنت أحاول جاهدا ألا أجرح شعورك بشئ، حتى لو مجرد أحساس، لكن بعد ما فعلته الأن وتمزيق شئ يخصني بقي معي طيلة ثلاثة وعشرون عاما، صدقيني لن أشغل بالي بك لحظة واحدة من الأن ، لن أراعي مشاعرك كما كنت أفعل دوما ،لأنكِ لم تراعين مشاعري ،ولم تتركي لي حتى الذكري، أخطأتِ بحقها قبل أن تخطئ بحقي،صاحبة الصورة هى "عشق" ذلك أسمها ، لكن قبل أن يكون أسمها،فهي حقا عشق عمري بأكمله، هذا الصندوق الذى يحيرك، هو كل ما لديها عندي، لذلك أضعه داخل عيني، لم يستطع أحد أن يأخذ مكانها حتى من عشت معها تحت سقف واحد، وتقاسمنا سرير واحد وطبق واحد، رغم أنها لم تكن هنا،الأ أنها شغلت كل ما بي، أنظري إلى تلك العروق التى تجري بداخلي، كلها لها ، ممتلئة بها ، مكتفية بوجودها داخلها ،فقط من أجل أن أستمر وأكمل حياتي، كنت دوما أهرب إليها عند كل سقوط ونجاح واحتياج ، كي أستطيع أن أستمر وأكمل حياة أقل ما يقال عنها ،أنها مُر فرضته على نفسي، نعم أقولها لك وأمامك وأمام كل العالم ، لم ولن أحب أحد سواها، ومهما فعلت لن أحب سواها، ليس بيدي لكنها إرادة وأختيار الله ، لأنه وحده يعلم أنها تستحق هذا الحب ، لو لم تكن تستحقه ما حفظه الله لها بداخلي طيلة هذا العمر، هل الأن جاوبت لك على سؤالك العقيم، الذى ظللت طيلة عشر سنوات تلحين به؟! هل الآن هدأ غرورك وأناتيك؟! أم تريدين أن أعيد عليك مرة أخري كل ما أخبرتك به؟! أشار لها بيده مردفا:

- تركها غارقة فى شرودها، تحترق بنار أشتعلت لتوها بداخلها،وجد "حسنية" تقف أمامه عند باب المكتب،أمسكته من ذراعيه أبتسم فى وجهها قائلا:

-لا تخافي علي تلك هى المرة الأولى التى أكون بها بخير، تلك هى المرة الأولى التى أجد فيها نفسي و"عمر" الذي كان غائبا عني، أستدار ينظر إلى الواقفة داخل المكتب مردفا:

-نسيت أن أخبرك أخر شئ، "عشق" لي ولن أتركها مهما كلفني الأمر، حتى لو كان المقابل أنتِ.

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

2430 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع