كلنا يعلم الحديث النبوي الشريف " إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها " ولفظة ( من ) يعبر بها عن الواحد والأكثر ، وهذا معلوم لغة ، يعني ربما يكون المجدد جماعة من الناس في القرن الواحد ، أما أن لايوجد مجدد أو يمر القرن كاملا دون مجدد ، فهذا مما لايتوافق وهذا الحديث الشريف ، ولايتوافق كذلك مع مبدأ خلود الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان .
وقديما في كتب الطبقات لايكاد يمر قرن إلا ويتوافق مؤلفو هذه الكتب على عالم القرن المجدد ، وقد لفت نظري أنه حتى في عصور التقليد والركود العلمي : لم يخل قرن منها من مجدد شهد له علماء عصره وبعد عصره ببلوغه درجة الاجتهاد المطلق ، وبأنه مجدد المائة ، وربما شهدوا بذلك لأكثر من عالم في القرن الواحد .
فالمائة السابعة مثلا غلب عليها طابع التقليد والجمود ، ولكنها شهدت كوكبة من العلماء المجددين يتقدمهم الإمام ابن دقيق العيد ، المحدث الأصولي الفقيه ، الذي درس الحديث في المدرسة الكاملية والفقه في المدرسة الناصرية وولي القضاء، وتفقه على مذهبي مالك على يد والده ومذهب الشافعي على يد الإمام المجدد قاهر السلاطين العز بن عبد السلام ، وقد لازمه ابن دقيق العيد حتى مات رضي الله عنهما ، وبذا يكون ابن دقيق العيد من القلائل الذين جمعوا بين المذهبين : المالكي والشافعي .
وقدأخذ ابن دقيق العيد عن شيخه العزة والورع وتحري مواضع التقوى ، فكان يخاطب السلطان بقوله ياإنسان ، وكان في نفسه يلزم جانب التورع والاحتياط دائما ، فإذا أفتى للناس يسر عليهم ، وقد بلغ من شدة ورعه أنه كان يتحرى وبدقة كل كلمة يكتبها حتى قال هذه الجملة التي بجب أن تكون دستورا لكل كاتب :
ماكتبت كلمة حتى أعددت لها جوابا بين يدي الله عز وجل )
ومع هذا الورع الشديد كان رحمه الله يشعر بالاعتزاز برأيه وباجتهاده ، فنجده يتحدث عن نفسه بلغة المجتهد المطلق في المذهب الشافعي مع اعتزازه بإمامه رضي الله عنه ، حتى إنه ليقول في عبارة واضحة حين يتفق رأبه مع رأي إمام المذهب الشافعي فيما انتهى إليه اجتهاده :
( ماقلدنا الشافعي ولكن وافق اجتهاده اجتهادنا ) عظمة على عظمة !!!!
فاحترام الأئمة الأكابر المؤسسين لايعني أنه لاجتهاد بعدهم ، وليس من الكبر في شيء أن يعتز العالم بعلمه ، وأن يستشعر عظمة وقيمة فضل الله تعالى عليه فيما وهبه ، ثم قيمة مابذله ويبذله في مشواره العلمي من جهد ، فيبدو في لغته شيء من آثار هذا الشعور .
إذا علم هذا أقول : لاأدري من المسئول عن لغة التماوت وروحه التي سرت فينا نحن المتأخرين ، فكل يتحدث بلغة إنكار الذات والمحو حتى لو كان في داخله كبر بوزن كبر فرعون ، خشية أن يقال له : ومن أنت أيتها البقلة الصغيرة حتى تظن نفسك هكذا ، وماموقعك بين النخل الطوال ؟ تواضع وإلا....
ألفنا لغة المذلة ورباها الأساتذة في نفوس طلابهم حتى صار التقليد والانبطاح رداءهم ، وعجزوا تماما عن وضعً جملة مفيدة في رسائلهم العلمية من بنات أفكارهم ، حتى إن منهم أو أكثرهم وأقسم على ذلك من لايفهم ماينقل ، وقد حضرت مناقشات عديدة يسأل الباحث عن معنى مانقل فلاينطق بحرف ، أرأيتم الكارثة ؟
ثم أليس غريبا أن تتوالى القرون تلو القرون ولاتعترف جماعة العلماء ولو لعالم واحد فقط بكونه مجدد القرن ؟ وأين ذهب الحديث النبوي أيها المتشنجون تجاه كل مروية وإن كانت موضوعة ؟ أليس هذا الحديث الذي صححه العلماء ومنهم الشيخ الألباني إخبار ا عن أمر غيبي ؟ واعتقادكم أن عدم إثباته واقعا إنكار له ؟
وماذا لو ارتشف رحيق الشجاعة عالم من علماء هذا العصر الأفذاذ ، فقال نحو ماقال ابن دقيق العيد ( ماقلدنا الشافعي وإنما وافق اجتهاده اجتهادنا ) الإجابة الكارثية معلومة ، ببساطة سيتهم إما في عقله أو دينه .