كلما أغمضت عيني، أسرتني تلك الصباحات، حيث رائحة الخبز ما زالت تملأ أنفي. كان طريقي الممتد إلى المدرسة من التراب، لم يكن الأسفلت قد غزا الأرواح والطرق. النيل يساري والبيوت الطينية يميني، العصافير فوق الأشجار لا تكف عن الزقزقة والألحان. بعضها يحلق فوق رأسي حتى تفترق بيننا الطرق.
أراقب أوراق الشجر المتوضئة بالندى وبقايا ماء المطر. اللون الأزرق طاغي، السماء زرقاء وكذلك ماء النيل أزرق، حتى حقيبتي جلدها أزرق وحذائي به خطوط زرقاء. فقط الشمس ترسل أشعتها الذهبية ليزداد كل أزرق جمالًا. وما زالت عيني تعشق اللون الأزرق رغم سنواتي العجاف.
يمتد طريقي إلى المدرسة، فلا تخطئ أذني صوت عبد الباسط من داخل دكان الأقمشة يردد قصار الصور. من بعيد يداعبني صوت فيروز تغني للصيف والشتاء، بينما أم كلثوم تصدح "لسه فاكر كان زمان". نعم، ما زلت أسير تلك الصباحات. كلما أغمضت عيني وقعت أسيرًا لما مضى، وكأنني لا أنتمي لواقع فرضته الأيام وسنوات السفر وخصلات من الشعر الأبيض.
أصبحت الأن أخشى الصباحات، لا أطيق الاستيقاظ مبكرًا. الليل صديقي والأرق رفيقي والنوم فجرًا هروب من ذلك الصباح الذي يطاردني منذ كنت طفلًا. ذات صباح فرضته الظروف هالني تغير الصباح. لم يعد ذلك الصباح المطبوع في ذاكرتي الصماء.
صباح يعج بالضوضاء، صباح دنست براءته زعيق الرجال وصراخ النساء، غاب النيل قد حجبته البنايات، ولونه الأزرق أمسى باهتًا غطته النفايات. غادرت العصافير الشجر، لم يعد هناك شجر. في شوارع هذه الصباحات تزكم أنفي رائحة العرق. أرى في تجاعيد الوجوه الخوف والقلق.
يخترق أذني من السايبر صوت بيكا كأنما أصابه السعار، ومن داخل الهايبر صوت صاصا يهتك براءة النهار. ومن بعيد سعد الصغير يغني للحمار. ما عاد الصباح يحمل رائحة أمي. غاب الأمان مع أبي. سرق الزمن مني البراءة وسنوات عمري. وما زلت أقف حائرًا أراقب كل الصباحات، عساني أجد صباحًا يشبه ذلك الصباح.