دايمًا في شُغلي بحِس إني ابن البطة السودة، أو واقع من قَعر القُفَّة زي ما المثل التاني بيقول، وده لأن أنا الوحيد اللي أستاذ رشدي بيكلِّفني بشغل في أبعد الأماكن، ولمّا بتناقش معاه في الحكاية دي، بيرُد عليا ردوده المعتادة، وهي إني صحفي شاطر، وإنه مُش بيعتمد غير عليا في المهمات الصعبة، وكلام كتير من اللي بالكم فيه ده، وفي نهاية كل حوار؛ بوافق لأني مينفعش أعترض على كلام رئيس تحرير الجريدة اللي بشتغل فيها، عشان كِدَه دايمًا مشاويري بعيد، وحكاياتي غريبة، وهو ده اللي حصل النهاردة.
بمجرَّد ما وصلت الجريدة؛ لقيت نارمين زميلتي بتقول لي:
_اتأخرت ليه يا محمود؛ أستاذ رشدي بيسأل عليك.
أول ما سمعت كلامها قلت لها:
_بإيدي إيه أعمله يعني؛ الشوارع زحمة، ولا عاوزاني أطير من فوق العربيات.
_أنت هتطلَّع نرفزتك عليا ولا إيه!
_ولا أطلَّع ولا أنزِّل، هدخل أشوف هو عايز إيه، رغم إني عارف، أكيد حَدفَه من اللي بيحدفني فيها كل مرة.
_ما أنت بتاخد بدلات انتقال ومتروَّق عليك.
لمّا قالت لي كده خمِّست في وشّها وقلت:
_عينك يا نارمين.
طبعًا الكلام كان بهزار، وإحنا متعوّدين على كده..
المهم؛ سيبتها ورُحت على مكتب الأستاذ رشدي، خبّطت وانتظرت لحد ما سمعته بيطلب من اللي بيخبَّط إنه يدخل، فتحت الباب ودخلت، كنت مُستعِد للمحاضرة اللي هسمعها بسبب تأخيري، عشان كِدَه دخلت بقلب جامد وقُلت:
_صباح الخير يا أستاذ رشدي.
بَص لي لثواني بدون ما يتكلم، وفي الوقت ده كنت بستعد نفسيًا للي هسمعه، لكن اللي كنت متوقّعه محصلش، لأنه اتكلم وقال لي:
_اقفل الباب وتعالى يا محمود.
قفلت الباب ودخلت، قعدت بعد ما طلب منّي أقعد وأركّز معاه، ومن طريقته في الكلام، عرفت إن الموضوع مهم، خصوصًا لما لَف اللاب توب ناحيتي وقال لي:
_شايف الخبر ده؟
تركيزي اتنقل للخبر اللي كان نازل على صفحة من صفحات الفيس بوك، وباختصار؛ الخبر كان بيتكلم عن قرية بتحصل فيها حوا.د.ث قـ..ـتل بشـ..ـعة، الحـ..ـادثة بتتكرر مرَّة كل سنة، لدرجة إن جـ..ـثث الضحايا بيلاقوها على أجزاء وبيجمعوها على مراحل، كل ما يظهر جزء بيحطوه جنب باقي الأجزاء، لحد ما أجزاء الجـ..ـثة تكمل، واللي كاتب الخبر؛ بيقول إن الغول هو اللي ورا الحـ..ـوادث دي.
كنت ببلع ريقي بعد كل كلمة بقرأها، ولما خلصت قراءة؛ بصّيت للأستاذ رشدي، وقبل ما أنطق لقيته بيقول لي:
_إيه رأيك؟
_حضرتك عاوز رأيي في إيه بالظبط؟
_أنت فهمتني غلط، أنا مش عاوز رأيك، أنا عاوزك تروح هناك، وتعمل لي تحقيق صحفي عن الحـ..ـوادث دي، أنا واثق إن اللي ورا الموضوع ده قـ..ـاتل متسلسل ومفيش غول ولا كلام فاضي من دَه، وغالبًا القـ..ـاتل أوهَمهم إن في غول عشان يفضل مستمر في سلسلة الجـ..ـرايم اللي بيرتكبها.
أول ما طلب منّي أروح؛ لقيت نفسي بسأله عن المكان، ساعتها جاب الخبر من البداية وشاور لي على اسم الصفحة اللي منزلاه، واللي كانت باسم قرية بسمع عنها لأول مرَّة، وبما إن هو اللي مبلَّغني بالحكاية؛ سألته عن مكان القرية، وكالعادة، عرفت منُّه إنها في منطقة حدودية، وقبل ما أعلَّق أو أتناقش معاه في أي حاجة، لقيته بيقفل اللاب توب وهو بيقول:
-عايزك تكون هناك بُكره الصُّبح بالكتير، تعرف إيه الحكاية بالظبط وتكتب لي تحقيق صحفي بطريقتك، وطبعًا متنساش تصوَّر شوية صور على كيفك ينزلوا مع التحقيق.
كنت باخد نفس عميق، لأني عارف إني هروح يعني هروح؛ مفيش مفَر، وده نصيبي من بعد تحقيق عملته عن جـ..ـريمة قَتـ..ـل حصلت من كام سنة وكان عليه مشاهدات كتير، من وقتها الأستاذ رشدي بيعتبرني صحفي متخصص في التحقيقات اللي من النوع ده.
بعد ما خلَّص كلامه عن التحقيق فتح دُرج من أدراج المكتب، بعدها ناولني مفتاح عربية الجريدة وقال لي:
-العربية معاك وجاهزة، جهّز نفسك وخُد بعضك واطلع على هناك، وخلينا على تواصل.
أخدت مفتاح العربية وخرجت من عنده، قابلتني نارمين وهي بتبُص للمفتاح في إيدي، ابتسمت لي ابتسامة حافظها وقالت لي:
-طالما أخدت عربية الجريدة يبقى شكلَك متسوَّح.
-متسوَّح بس؟ عايز أقول لِك إن المشوار المرَّة دي في منطقة حدودية.
بعدها أخدت بعضي وطلعت من الجريدة، استلمت العربية وجهّزت نفسي، وتاني يوم الصبح كُنت في القرية اللي الحـ..ـوادث بتحصل فيها. لمَّا وصلت لقيت الدنيا هادية، الهدوء كان غير طبيعي، مُش شكل مكان بيحصل فيه حـ..ـوادث بالبشاعة دي، ولا شكل مكان اختفى فيه شَخص والمفروض إن الدنيا تكون مقلوبة.
ركنت العربية عند أول قهوة قابلتني، نزلت وقعدت على القهوة؛ اللي بالمناسبة كانت شِبه فاضية، ومفيش ثواني لقيت الصبي بيقرَّب مني وبيقول لي:
-تشرب إيه يا حضرت؟
-عاوز شاي بس يكون تقيل، ومن غير سُكَّر.
بعد ما سابني ودخل القهوة، تركيزي بدأ يتنقل لحوار كان داير بين اتنين قاعدين على ترابيزة قريبة، ساعتها سمعت واحد منهم بيقول:
-الغول مش هيخلّي حد عايش في القرية، كل سنة حد يختفي وبعدها الناس تبدأ تلاقيه على مراحل، مرَّة رِجل ومرَّة دراع.
ساعتها الشخص التاني رد على كلامه:
-وأنت مصدَّق حكاية الغول دي برضه؟
-ومصدَّقش ليه؟ لو كان اللي بيعمل كده بني آدم كان زمانه ساب وراه أثر والشرطة وصلت له، لكن مفيش حد قادر يوصل لحاجة، الناس بقت خايفة وكل واحد قافل عليه داره، محدش بيخرج غير للضرورة في الأيام اللي زي دي، وأول ما المغرب يأذّن أتخن شنب في القرية مبيقدرش يفتح بابه.
تركيزي معاهم اتشتِّت بمجرَّد ما الشاي اتحط قدامي، وساعتها اتفاجئت بسؤال الصبي:
-حضرتك غريب عن القرية يا أستاذ مُش كده؟
-أيون أنا مُش من هنا، وبعدين أنت متعوّد تحقق مع زباين القهوة ولا إيه؟
-لأ مش القصد، كل الحكاية إني بشوفك لأول مرة، أصل مفيش هنا غير القهوة دي وحافظ كل الناس.
-اسمك إيه؟
-علي.
-عاشت الأسامي يا علي.
-تعيش يا أستاذ، بس حضرتك جاي تزور مين؟
-أنا مُش جاي أزور حد، أنا بشتغل صحفي وجاي في شغل.
-أوعى تكون جاي تكتب عن الغول.
ابتسمت في وشُّه وقُلت له وأنا بحاول أختبره:
-الغيلان دي في عالم الحواديت بس يا علي، جدِّتي وجدِّتَك كانوا بيخوِّفونا بيهم عشان منسهرش كتير.
-بَس الحقيقة إن القرية ظَهر فيها غول، بيخطف واحد كل سنة وبعدها بيظهر متقطَّع، ومحدش عارف إيه اللي هيحصل بعد كده، وفي الفترة دي مفيش حد بيخرج فيها من داره بعد المغرب.
لمَّا قال كلامه ده؛ سابني وراح يشوف زبون لسَّه داخل القهوة، طلَّعت علبة سجايري وسحبت سيجارة، ولَّعتها وسحبت منها نفس عميق، القصيدة بدايتها كُفر زي ما بيقولوا، وشكلي هتعب في التحقيق ده، أكيد الأستاذ رشدي باعتني هنا عشان أكتب عن حقيقة اللي بيحصل، وأكيد الحقيقة مش الغول، ولا ينفع أكتب الكلام ده في تحقيق صحفي هيتنشر في جريدة، الناس عايزة السبب الحقيقي والمنطقي، ومن البداية كده، واضح إن الناس هنا بتؤمن بوجود الغول، يعني مهما أسأل غالبًا هسمع نفس الإجابة، وبالتالي مُش هلاقي شيء منطقي أكتبه.
على ما خلَّصت سيجارتي وكوباية الشاي، سمعت علي وهو بيقول لي:
-تشرب حاجة تاني يا أستاذ؟
انتبهت لكلامه وقُلت له:
-شكرًا يا علي.
طلَّعت من جيبي الفلوس وحاسبته، وبعدها سألته:
-متعرفش حد يأجَّر لي أوضة أبات فيها كام ليلة؟
بَص لي وهو بيعصُر في ذاكرته، وبعد شوية تفكير قال لي:
-بيت الحاج صابر القديم.
-يطلع فين البيت ده؟
-موجود في اليَمَّة التانية من القرية، ومن وقت الحاج صابر ما مات والبيت مقفول، وولاده بيأجَّروه لأي حد غريب وعاوز مكان يقعد فيه كام يوم، بيسترزقوا منه يعني.
-بس أنت فهمتني غلط، أنا عايز أوضة على قدّي.
-برضه بيت الحاج صابر، حد من ولاده يأجَّر لَك الأوضة اللي على السطوح؛ مُش ضروري البيت كله.
بعد ما عطيت علي بقشيش محترم خلَّص لي موضوع الأوضة، وكمان وصَّلني لحد البيت، ومكنتش متضايق إن الأوضة فوق السطح، خصوصًا وإني مش فارق معايا، كل اللي محتاجه مكان أنام فيه كام ساعة بعد ما ألِف لفِّتي لحد ما أوصل للحكاية وأخلَّص تحقيقي.
حطِّيت شنطتي وخرجت من الأوضة، وقفت على السطوح وبدأت أبُص على القرية، الدنيا هادية، والشوارع تكاد تكون فاضية، ولاحظت إن البيت قريِّب جدًا من المقابر، لدرجة إني ممكن أحصر عدد القبور من مكاني، كل ده كنت ملاحظه وأنا بفكَّر في النقطة اللي هبدأ منها، وملقتش أفضل من القهوة، اللي بتكون دايمًا مخزن الحكايات في المكان اللي هي فيه.
أخدت بعضي وطلعت على هناك، ولمَّا وصلت علي سألني عاوز أشرب إيه للمرة التانية، لكنّي صادرت على كلامه وقُلت:
-أنا مُش جاي أشرب يا علي، أنا عاوزك تحكي لي إيه الحكاية بالظبط، بما إنك يعني ماسك القهوة وعارف الناس، وأكيد بتسمع بيقولوا إيه.
لمَّا لقيته بيتلفِّت حواليه ومتردِّد في الكلام، طلَّعت من جيبي ورقة بعشرة جنيه، وقُلت له:
-دي عشانك، ولمَّا تحكي اللي بيحصل في القرية بالظبط، هتاخد كمان ورقة زيها.
لمَّا بَص للورقة وعينيه فَنجلِت؛ عرفت إني مشيت معاه في الطريق الصح، وبعد ما كرمِشها وحطها في جيبه بدأ يتكلم:
-من خمس سنين، في شاب اختفى من القرية، الدنيا اتقلبت ومحدش عارف هو اختفى فين، اللي يقول اتخطف، واللي يقول حَب واحدة وهرِب معاها، واللي يقول أكيد عَمَل عملة وطفش، وبعد كام يوم الدنيا اتقلبت أكتر، لمَّا جماعة من أهل القرية كانوا فايتين من المقابر ولقوا دراع بني آدم مرمي، الدراع كان مقطوع بكُم الجلابية اللي عليه، وساعتها أهل الشاب عرفوا إن ده دراعه ودي هدومه، وبعدها جـ..ـثته بدأت تظهر جزء ورا التاني، لحد ما الجـ..ـثة كملت، والغريبة إن أكتر الأجزاء كانت بتتلقي في المقابر، ومن بعدها بقى والحـ..ـادثة دي بتتكرر مرَّة كل سنة وبنفس الطريقة، من غير ما حد يعرف مين اللي بيعملها، بَس الناس الكبيرة في القرية قالوا إن اللي بيعمل دَه هو الغول، وإنه بياخد واحد من أهل القرية كل سنة، وكلام الناس الكبيرة هنا بيتصدَّق.
-مين الناس الكبيرة دي يا علي؟
-النَّاس الكبيرة في السِّن، اللي أدرى منّي ومنَّك بالدنيا.
أخدت نفس عميق وأنا مُش بالع كل الكلام ده، لكنّي حاولت أعرف منه أكتر، عشان كده سألته:
-وأهل الناس اللي اتقتلـ..ـت، مفيش حد منهم اتَّهم حَد؟
-مفيش حاجة من دي حصلت، دَه غير إن الشرطة مبتلاقيش دليل على حد، ودلوقت بقينا متعوّدين، أول ما حد يختفي فجأة، بنبدأ ننتظر جـ..ـثته تظهر على أجزاء، ومن وقت للتاني الناس بتدخل المقابر لحد ما تبدأ تلاقي إيد أو رِجل أو أي حاجة ظهرت.
كرمِشت إيدي في العشرة جنيه التانية وحطيتها في جيب علي، ودَه لأني وصلت لمعلومة مهمة من كلامه، المقابر، ليه البداية دايمًا بعد الاختفاء بتكون من هناك؟
ده السؤال اللي سألته لنفسي، ورغم إيماني بالجِن والعفاريت والغيلان وكل الكلام ده، لكن مكنتش أقدر أكتبه في تحقيق صحفي، لكن ارتباط اللي بيحصل بالمقابر كان لُغز، ومعرفش إن كان حد من أهل القرية فكَّر فيه ولا لأ.
أخدت بعضي ورجعت على الأوضة اللي أجَّرتها، فضلت قاعد وأنا بفكَّر، وسيجارة ورا سيجارة لحد ما العلبة خلصت، ومكانش قدامي غير إني أنزّل أشوف أي محل أشتري منه علبة سجاير.
لمَّا خرجت من الأوضة كان الليل قرَّب يدخل، ساعتها لقيت عيني راحت ناحية المقابر، لكن دَه محصلش بالصدفة، أنا لقيت نفسي ببُص هناك لأني لمحت ضوء أشبه بالبرق، وميض ظهر واختفى فجأة، أخدت بعضي ومشيت ناحية سور السطوح، فضلت واقف وأنا بحاول أتأكد من إن اللي شُفته حقيقة ولا هلوسة عين، لكن اللي حصل هو إن الحكاية اتكررت من تاني، ساعتها مسكت تليفوني وفتحت الكاميرا وبدأت أسجِّل فيديو، الوقت فات بدون ما يحصل جديد، لكن قبل ما أقفل الفيديو الوميض ظهر من تاني، فضلت مكمِّل في التسجيل، لكن الوميض في الفيديو كان مختلف عن اللي عيني شافته في الواقع، ولمَّا عملت زووم عشان أشوف مصدر الوميض، لاحظت إن الوميض عبارة عن جسم بيتحرَّك، لكن ملامحه مكانتش واضحة، والأغرب من كل ده، إني لاحظت راس الجِسم ده وهي بتبُص ناحيتي، لدرجة إنها فضلت ثابتة لثواني في الاتجاه اللي أنا فيه!
بطريقة لا إرادية، لقيت نفسي ببعِد عيني عن شاشة التليفون، بصيت على الواقع ناحية الوميض اللي كان خارج من قدام قبر في المقابر، ساعتها شُفته مجرَّد ضوء زي فلاش الكاميرا، لكن لما رجعت بصّيت في شاشة التليفون تاني، لقيت نَفَسي تقِل فجأة وضربات قلبي زادت، وده لأني شُفت ملامح مُخيفة ظاهرة على الشاشة، كانت عبارة عن كُتلة مُشوَّهة ومُش مفهومة.
كل ده تلاشى بمجرَّد ما الوميض اختفى، قفلت تسجيل الفيديو وبدأت أشوف اللي اتسجِّل من البداية، اللي شُفته مكانش تخاريف، وده لأن كل شيء كان مُثبت في الفيديو، عشان كده عرفت إن تخميني طلع صح، المقابر فيها شيء غامض، وأكيد هو السبب ورا كل اللي بيحصل في القرية.
أخدت بعضي ونزلت، نسيت السجاير ورجلي أخدتني لحد القهوة، مكانش في غيري ماشي في الشارع، ساعتها افتكرت إن مفيش حد هنا بيخرج من بعد المغرب الفترة دي، ولمَّا وصلت عند القهوة لقيتها مقفولة، فأخدت بعضي ورجعت من تاني على الأوضة، ومن وقت للتاني كنت بخرج على السطوح أشوف إيه الحكاية، لحد ما دماغي تقلِت، فردت ضهري على كنبة في الأوضة لحد ما النهار يطلع، غمضت عيني من شدة الصداع اللي كنت حاسس بيه، وبعد ثواني، فتحت عيني على نفس الوميض، الغريبة إنه كان جوَّه الأوضة، وفي اللحظة دي؛ شُفت باب الأوضة مفتوح والسطوح من برَّه كان مليان دُخان، ومن وسط الدخان ظَهر خيال شَخص، كان بيقرَّب من الباب، ولمَّا ظَهر بشكل كامل لقيت ملامحه مشوَّهة، وشُّه تركيبته غريبة ومش مفهومة، برغم إن تركيبه الجُسماني كان زيِّنا، بني آدم طبيعي.
فتحت بوقّي من الصدمة وفضلت مبحلق فيه، قلبي كان بيتنفض مع كل خطوة بيقرَّب فيها منّي، حسيت إني مشلول، مكنتش قادر أقوم من مكاني أو أهرب من الأوضة، لحد ما قرَّب منّي وفضل واقف مبحلق فيا، عينيه كانت ممسوحة ولونها أبيض، وكانت دي الحاجة الوحيدة اللي قدرت أفهمها من ملامحه، وفجأة لقيته بيقرَّب راسه المُخيفة منّي وقال بصوت غليظ:
-أنا عارف إنك هنا عشاني. بس أنا كِدَه مهمّتي خلصت، الباقي عليك أنت بقى؛ يا محمود!
فتحت عيني وأنا مفزوع، بصيت حواليا ولقيت نفسي نايم في الأوضة، الباب كان مقفول والدنيا طبيعية، وفي اللحظة دي عرفت إني شُفت أسوأ كابوس في حياتي، وقُلت أكيد دَه بسبب الفيديو الغريب اللي قدرت أصوَّره في المقابر!
لما بدأت أستعيد هدوئي، سمعت دوشة في الشارع، بصيت ناحية الشباك ولقيت النهار طالع، أخدت بعضي وخرجت من الأوضة، ولما بصّيت من السطوح، لقيت الشارع مقلوب، أخدت بعضي ونزلت، رجلي أخدتني لحد القهوة، وفي الطريق عرفت إنهم لقوا جزء من جـ..ـثة الشخص اللي اختفى وكان مكتوب عنه الخبر، وإن الجزء ده كالعادة ظهر في المقابر.
مشيت مع الناس لحد هناك، وبالمناسبة كان معايا علي صبي القهوة، ولما دخلنا المقابر، اتفاجئت إن الجزء اللي ظهر من الجُـثـ..ـة عبارة عن دراع، وإنه موجود قدام القبر اللي ظهر قدامه الوميض، فتحت تليفوني وبدأت أصوَّر المشهد البشع اللي قدامي، كلهم كانوا مركّزين مع دراع الجـ..ـثة، لكن أنا كنت مركّز مع القبر نفسه.
لمَّا الشرطة حضرت والإجراءات بدأت تاخد مجراها، رجعت مع الناس على القهوة، واتضح لي إن الناس هنا اتعوّدت على الحكاية اللي بتحصل كل سنة، لكن أنا كنت ناوي أعرف إيه السِّر بالظبط، عشان كده نويت أفضل في القرية لحد ما باقي الجـ..ـثة يظهر، كنت متواجد مع الناس في كل مرة، وبقوم بالمهمة اللي جيت هنا عشانها، لحد ما في مرَّة كنت قاعد على القهوة في انتظار الجزء الأخير من الجـ..ـثة، واللي كله كان متوقع إنه هيظهر في أي وقت، ساعتها لمحت شخص من اللي بيقولوا عنهم دراويش أو مجذوبين، لاحظت نظراته الغريبة ناحيتي، مُش لأني غريب عن الناس؛ لأ، دي النظرات دي كنت فاهمها كويس، زي ما يكون بيلفت نظري عشان أركّز معاه، ولما لقيت علي فايت من قدّامي شديته من هدومه وسألته:
-مين اللي قاعد قدام القهوة ده يا علي؟
لمّا بَص في المكان اللي شاورت فيه قال:
-ده سلامة المجذوب، بتسأل ليه يا أستاذ؟
-أصله مركز معايا.
-كبَّر دماغك؛ ده مجنون ومفيش حد بياخد له على كلام من وقت ما اتلبَس في المقابر.
لمَّا سابني ومشي حسيت إن بالي انشغل أكتر بسلامة المجذوب، خصوصًا لما سمعت كلمة المقابر، عشان كده خرجت من القهوة وبدأت أمشي بعيد، خطواتي كانت بطيئة وكُنت متعمّد أعمل كده، واللي توقَّعته حصل، لأني لقيته ماشي ورايا، ولما وصلت لمكان مفيهوش حد، وقفت عشان أشوف حكايته إيه، وساعتها قرَّب منّي وسألني:
-أنت أكيد شُفته.
استغربت كلامه ووقفت وقلت له:
-تُقصد مين؟
-الممسوخ.
-مين الممسوخ؟
-اللي بينتقم لنفسه من اللي جابوه للدنيا وقتلوه.
لمَّا لقيت الحكاية داخلة في لغز جديد قُلت له:
-لأ اهدى عليا كده اعمل معروف عشان أنا هضيع منك، أصل شكلك لا مجذوب ولا حاجة وعارف اللي فيها.
-أنا لا مجذوب ولا درويش، أنا راجل على باب الله والدنيا جَت عليا، عشان كده وصلت للحال ده، وجايز ربنا عمل كده عشان أكون شاهد على اللي حصل.
-أيون، إيه بقى اللي حصل؟
-من سنين دخلت القرية واحدة سِت محدش يعرف لها أصل من فصل، كانت فاقدة النُّطق وشكلها يصعب على الكافِر، الناس اتفاجأوا إنها عايشة في المقابر، عشان كده الكُل خاف منها وقال دي ممسوسة وراكبها جِن، ولأني أحيانًا ببات في المقابر عشان ماليش مأوى، فتحت عيني بعد الفَجر على صوتها، كانت بتحاول تستغيث، لكن صوتها مكانش طالع بوضوح لأنها خَرسَه، ولما رُحت أشوف إيه الحكاية، لقيت خمس شباب بيعتدوا عليها، ولأن ما باليد حيلة مقدرتش أتدخَّل، خُفت يخلصوا عليا ولا من شاف ولا من دري، لأن الخمسة دول كانوا والعياذ بالله، بيدخلوا المقابر من وقت للتاني عشان القُمار والكلام اللي بالك فيه ده، رغم إنه ميبانش عليهم، ونتيجة اللي حصل ده إنها بقت حامل، وساعتها أهل القرية قالوا إنها حامل من شيطان عشان بتبات في المقابر، ولأنها مبتقدرش تتكلم مقدرتش تحكي الحقيقة، لكن ربنا بعتني عشان أكون عينها ولسانها اللي هيشهد، والأيام فاتت والسِّت دي اختفت، والناس قالت بَرَكَة إنها غارت، لكن بعد اللي حصل بتسع شهور لمحتها داخلة المقابر، وفي اليوم ده سمعت صوتها وهي بتولِد، كُنت متابعها من بعيد، ساعتها نزل منها طفل مشوَّه، ملامحه ممسوخة، عنده عيب خُلقي زي ما الناس بتقول، وفضلت عايشة معاه في المقابر، وأنا اللي كنت بجيب لها أكل على قد ما أقدر، عشان تاكل وترضَّع ابنها. وفي يوم الخمسة دخلوا المقابر من تاني عشان يلعبوا القُمار، والست وابنها وقعوا في طريقهم، ساعتها خلصوا عليها ولا من شاف ولا من دري، وفتحوا قبر قديم صاحبه متوفي من سنين طويلة، وبعدها حطوا الست وابنها الممسوخ وقفلوا عليهم، ولحد النهارده محدش يعرف إيه اللي جوَّه القبر، ولا يعرفوا إن الست رجعت ولا ولدت ابنها في المقابر.
-ولمَّا أنت عارف كل ده، ليه مبلَّغتش؟
-عشان أنا مجذوب، ومفيش حد هيمشي ورا كلامي، ومش بعيد كانوا خلَّصوا عليا أنا كمان.
-أومال ليه بتبلَّغني دلوقت طالما خايف.
-لأن الحكاية خصلت، والخمس أشخاص اللي عملوا العملة دي، هُمَّا نفسهم اللي روح الممسوخ خلَّصت عليهم على مدار الخمس سنين، فضل ياخد منهم واحد كل ما تيجي الذكرى اللي قتلوهم فيها، وانتقم لنفسه ولأمه.
-وإيه الدليل على كلامك؟
-الدليل جوَّه القبر، ولأني مجذوب ودرويش زي ما الناس بتقول، فأنا أكتر واحد عارف إن اللي بيحصل انتقام للروح اللي جَت ظلم واتقتلـ..ـت ظلم، ومهما قُلت مكانش حد هيمشي ورا كلامي، عشان كده حطيت لساني في بوقّي وأنا عارف إن العدالة الإلهية هتاخد مجراها، ومفيش حد يقدر يقف قدام روح غضبانة بتنتقم لنفسها.
-والدليل اللي في القبر ده أوصل لُه إزاي؟
-أنت مينفعش تدخل المقابر لوحدك، لأنك غريب، وجايز رجلك تيجي في الموضوع، خلِّي الحكاية دي عليَّا أنا.
تاني يوم بعد الفَجر، خرجت من الأوضة على دوشة في الشارع، بَس المرَّة دي مكانش السبب اختفاء شخص أو ظهور الجزء الأخير من الجـ..ـثة، لأني لما نزلت الشارع، عرفت إن ناس من أهل القرية لقوا باب قَبر مكسور، ومن غير ما أسأل عرفت إن سلامة المجذوب هو اللي كسر الباب، وفي القبر، كان في هيكل عظمي لواحدة سِت ولطفل مشوَّه، كانوا موجودين مع صاحب القبر اللي كان مدفون فيه من سنين طويلة، ساعتها الشرطة وصلت والهياكل العظمية طلعت على مشـ..ـرحة المستشفى، وبعد إجراءات طويلة كلنا عارفينها، التحاليل والفحوصات أثبتت إن الطفل المشوَّه أو الممسوخ؛ يبقى ابن واحد من الخمسة اللي اتقـ..ـتلوا، وإن الست اللي مدفونة معاه تبقى أمه، ومن هِنا عرفت إن اللي قاله سلامة المجذوب كان حقيقة.
كنت حاضر في كل شيء، التليفون مكانش بيفارق إيدي، صوَّرت الهياكل العظمية، وخصوصًا جمجمة الطفل المشوَّهة، وساعتها لمحت تشابه واضح بينها وبين الراس اللي لمحتها في الوميض اللي ظهر في الفيديو، وبين الشخص المشوَّه اللي ظهر في الكابوس، ساعتها قناعتي زادت بإن مش كائنات العالم الآخر من جِن وشياطين بيقدروا ينتقموا من بني آدم لو حد منهم تجاوز معاهم، ده أنا بقى عندي قناعة تامَّة إن اللي بيتقتل ظُلم روحه بتقدر تنتقم له، وده في حالة إن الجاني قدر يتحايل على القانون ومحدّش قدر يوصل له، لأن في قانون إلهي، محدش يقدر يتحايل عليه.
بعد ما الجزء الأخير من الجـثـ..ـة الخامسة ظهر والحكاية خلصت، تليفوني رَن وأنا راجع على الطريق، كان الأستاذ رشدي، فتحت المكالمة وردّيت عليه، وساعتها قال لي:
-أنت أخدت العربية وهربت ولا إيه؟
-مهربتش ولا حاجة، الموضوع بس كان مُعقَّد شوية.
-أنا انشغلت في كذا موضوع ونسيت أتابع معاك، ولما افتكرت لقيت إنك محاولتش تتصل بيا.
-الأحداث كانت كتير ومكانش عندي وقت، بَس أنا راجع في الطريق ومعايا كل حاجة متقلقش.
قفلت معاه المكالمة وكملت طريقي، كُنت مجهِّز كل حاجة، التحقيق كان مكتوب، الصور كانت موجودة، حتى الفيديو وده كان أهم حاجة، راجعت عليه أكتر من مرَّة وكان مظبوط، لأني مقدرش أحكي الحكاية دي وأنشرها في تحقيق صحفي بدون ما يكون معايا أدلَّة قوية على كلامي، لأن من غيرها الناس هتقول إن كلامي مجرَّد خبر عشان المشاهدات.
لمَّا وصلت الجريدة قابلت نارمين، ساعتها قالت لي:
-حمد الله على السلامة، هو أنت كنت طالع رحلة ولا إيه؟
-لأ وأنتِ الصادقة، كُنت مع الممسوخ.
-هو كان تحقيق في جريـ..ـمة قـ..ـتل ولا فيلم رعب.
-الاتنين يا نارمين؛ الاتنين.
قطعت معاها الكلام ودخلت مكتب الأستاذ رشدي، ولما قرأ التحقيق اللي كتبته، لقيته بيرفض نشره، بحجة إنه كان متوقِّع إنه هيقرأ عن قـ..ـاتل متسلسل، وبحجة إن الناس مش هتقبل الكلام ده، وهيقولوا إن الجريدة بتنشر خرافات، لكنه لما شاف الصور والفيديو أكتر من مرَّة قدرت أقنعه يغيَّر رأيه، ولعبت على فكرة إن التحقيق بالشكل ده وبالأدلة دي هيعمل ضجة، وفي نفس اليوم، التحقيق اتنشر على موقع الجريدة، ومعاه الصور والفيديو.
التحقيق حقَّق أعلى نسبة مشاهدة، وكُنت فاكر إني هلاقي انتقادات كتير عليه، لكن اللي حصل العكس، لأن ناس كتير بدأت تحكي في الكومنتات عن حالات مشابهة، ناس اتقتلت ظلم وأرواحهم انتقمت، وساعتها بس عرفت إن ناس كتير على يقين بوجود العوالم الأخرى، اللي هي موجودة فعلًا، وكل اللي محتاجاه عشان تثبت وجودها، هي الأدلة فقط، وفي اللحظة دي بس قدرت أفهم جملة كانت محيَّراني طول الحكاية، لما سمعت الممسوخ في الكابوس وهو بيقول إن مهمِّته خلصت، وإن الباقي عليا، وأعتقد إن بعد ما التحقيق اتنشر؛ أنا كمان مهمّتي خلصت وعملت اللي عليا.
بالمناسبة، فات خمس سنين على الحكاية دي، مظهرش فيهم ولا حادثة، عشان يكون ده آخر دليل على إن كلام سلامة المجذوب حقيقة، أصل خلاص المجذوب انتقم من الخمسة اللي ارتكبوا الجريـ..ـمة، وأكيد روحه ارتاحت في مكانها، وارتياحها كان الضبَّة والمفتاح اللي قفل باب الخوف اللي كان عايش فيه أهل القرية.
تمت...