أسئلة عميقة وحارقة ، تسبر أغوار الكتابة الأدبية لدى الكاتبة فاطمة البسريني تفضل بطرحها الأديب الفاضل مهدي ناقوس مشكورا ، فجاء الجواب عليها كالتالي :

1 ــــ السؤأل الأول :

ـــ هناك تساؤلات حول علاقتك بالأدب والشعر والقصة في تجربة الأديبة والمحامية فاطمة البسريني ؟

ــــ ما سر هذا التحالف بين الأدب كفرع من العلوم الإنسانية والمحاماة كمهنة إنسانية ؟

ــ جوابي على هذين السؤالين بخصوص تجربتي الأدبية وعلاقتي بالأدب والشعر والقصة ومهنتي كمحامية، بسيط للغاية وهو أنه لا علاقة بينهما أبدا ، فقد استطعت أن أسير في طريقين متوازيين، محاولة قدر المستطاع أن أفصل نشاطي الأدبي عن ممارستي مهنة المحاماة ، أولا لأن انشغالي و اشتغالي بالميدان الأدبي كان سابقا وضاربا في القدم لسنين خلت ، بدأت منذ طفولتي بالمرحلة الابتدائية وتحديدا بالفصل الخامس ابتدائي حيث كان أول ظهور لي على يد معلمي للغة العربية وهو يناولني جائزة مدرسية وينوه بتفوقي في مادة اللغة العربية ونجاحي بمسابقة على صعيد فصله في كتابة قصة قصيرة على غرار ما كنا نقرؤه لكتاب قصص الأطفال منهم عطية الأبراشي وكامل الكيلاني آنذاك. 

منذ ذلك الحين وأنا مغرمة بالقراءة والكتابة ومدمنة عليهما مما جعلني أكتسب تجربة مع الوقت ويصبح لي قلم في الكتابة الأدبية والتمرس بقواعدها كلما تدرجت في الدراسة عبر المرحلة الإعدادية والثانوية وكذلك بعد تخرجي من كلية العلوم القانونية بفاس فقد انضممت إلى كلية مولاي إسماعيل للآداب والعلوم الإنسانية بمكناس ونلت الإجازة في الأدب العربي وتابعت الدراسات العليا في شعبة النقد الحديث بعد ذلك إلى أنني لم أستطع نيل الدبلوم لكون مهنتي كمحامية أصبحت ضاغطة ولظروف حياتية أخرى .

 ولا يمكنني أن أغفل دور أساتذتي في توجيهي ومساعدتي على الاستمرار في الكتابة وخاصة بالمرحلة الإعدادية .

أما عن تعالق الأدب كفرع من العلوم الإنسانية ، والمحاماة كمهنة إنسانية فقد واجهت هذا الأمر بكل ثبات ورزانة وحكمة وذلك بالفصل بين عملي المهني والمرافعات القانونية التي تعتمد على لغة قانونية بحثة ، لها مصطلحات معينة يجب استخدامها وعدم الحياد عنها وعدم خلط هذا العمل بالمشاعر أبدا وعدم شخصنة القضايا والبحث عن الحق عبر الفصول القانونية والوثائق والحجج المدلى بها ، وموهبتي الأدبية التي يجب أن تبنى على المشاعر والأحاسيس قبل كل شيء. 

لكنني لا أنكر أن شعورا قويا بالتحدي كان يستحوذ علي في الميدانين معا لحد الألم بعض الأحيان ، وهو كوني أنتمي إلى تلك الفئة من الناس التي لديها شعور فوق العادة بالخطأ والتي تستشرف الآفاق الإنسانية وتستشعر الظلم والغدر والخداع وتشتم رائحته عن بعد وهذا أثر على ممارستي مهنة المحاماة من جهة وعلى تمرسي بالكتابة الأدبية من جهة أخرى .

 فأنا أعرف ما هو الظلم والألم فقد تعرضت كثيرا للظلم ولهذا فأنا لن أسامح أبدا الظالمين الذين حاولوا تدمير حياتي وحياة إخوتي الذين تكفلت بهم منذ مرحلة المراهقة هذا على صعيد محيطي ولن أسامح من جعلني أتألم في وطني ومن يسرق لقمة العيش من أبناء الشعب المغلوبين على أمرهم ولن أسامح المرتشين والمحتالين النصابين الذين بسببهم تدهورت حالة بلادي ووطني الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية أيضا.

 ولن أسامح من جعلني أتألم منذ مرحلة الشباب لسقوط بغداد ودمشق في ربقة استعمار جديد وفي الشتات ومن يقوم بعمليات التطبيع على حساب فلسطين الحرة ولن أسامح من يستطيع أن يوقف إراقة الدماء في غزة ولا يفعل ،

ولن أسامح من يظلم المرأة ويعتبرها شخصا ضعيفا يجب سحقه ،ولا لن أسامح الكذابين . 

لن أسامح من يعمل على بقاء وضعية صحرائنا المغربية وأسبابها ونتائجها على ما هي عليه، وعلى سجون تيندوف لأكثر من نصف قرن .

   لذلك بعد تخرجي من جامعة العلوم القانونية بفاس قررت محاربة الظلم وتحديه ونصرة المظلومين والدفاع عن المقهورين ولا شيء غير الدفاع والذي هو أساس مهنة المحاماة .

ذلك التحدي الذي رافقني منذ نعومة الأظافر لصعوبة طفولتي وبالتالي دراستي وحياتي لسنوات عديدة امتدت منذ ولوجي المدرسة إلى حين تخرجي من المرحلة الثانوية على التوالي ، لأن مقر سكناي كان في ثكنة عسكرية بعيدا عن المدرسة بأكثر من خمسة عشر كيلومتر تقريبا ، فوالدي كان جنديا هناك . 

لذلك كنت مضطرة أن أظل في الشارع وما أدراك ما الشارع ، طول اليوم منذ الساعة السادسة صباحا إلى حدود الساعة السابعة ليلا تحت حراسة جندي أو إثنين من المكلفين بمراقبتي أنا وأمثالي من الأطفال الآخرين في نفس وضعيتي. 

لم أجد غير الكتاب والكلمات أغرق فيهما انتظاري الطويل ومللي وغضبي وبؤسي وروتيني المتمثل في الأكل والشرب والبقاء في الشارع عند انتهاء دوام المدرسة صباحا ومساءا ، على امتداد الفصول ، وكذلك تلافيا لأي عقاب من طرف والدي في حالة حصول مشاحنات أوشغب مع التلاميذ الآخرين ، فأصبحت وحيدة وغير اجتماعية كما كان الكثيرون يصفونني ، لكن أشرس وحدة كانت تبدو لي أفضل من مجتمع قاس، يقتات من ظلم الفقير واحتقاره .

 قد استوعبت هذا الأمر منذ طفولتي واستنتجت من التصرفات العنيفة للغير تجاهي أنه يجب علي أن أكون من هؤلاء الأشخاص الذين يواسون أنفسهم بأنفسهم ويجدون الحل لمشاكلهم وحدهم دون مساعدة من أحد.

 فقط الدراسة والكتابة والإدمان على القراءة هما اللذان ساعداني وأنقذاني من العاصفة المستمرة من الغضب العارم والوجع داخلي فكنت إذا لم أكن أكتب، فأنا أقرأ والعكس بالعكس.

  كان هذا هو حالي مع القراءة والكتابة إلى اليوم ، بعيدة عن ضجيج الناس متلفعة بالصمت العظيم ، فالكتابة كما تعلم تبدأ حيث ينتهي الكلام، وهذه هي المعجزة في الأمر، إنها المرور من الهواء إلى الجماد، فتصبح الكلمة والكتابة حلقتان لا تتقاطعان أبدا .

  2 ــــ السؤال الثاني : 

ـــ ما الإضافة النوعية للمهنة القضائية للهواية الأدبية في حياتك ؟

ــ لا أظن أن الكتابة الأدبية بالنسبة لي تكون عبارة عن هواية بل نعمة وهبة من الله تعالى أو لنقل موهبة و هي وسيلتي الوحيدة في إنقاذ نفسي والابتعاد عن المتداول وعما يروج في الشارع من ضجيج سواء أثناء طفولتي وكذلك أثناء ممارستي لمهنتي كمحامية .

لقد كانت الكتابة هي سيفي الذي أفصل به واقعي الممل المعيشي واليومي عن عالمي الخاص الذي كونته بالتحدي للظروف والضغوط ومحاربة أي شيء يبعدني عن أهدافي التي رسمتها للوصول إليها ،كتحدي لقرار والدي بفصلي من المدرسة قصد الزواج مثلا .

الكتابة ساعدتني كثيرا في تخطي أغلب الحواجز والعقبات التي صادفتها فلم أكن أصاب بمرض ما أو أتغيب عن الحصص الدراسية طول تلك السنوات رغم بعد السكن وقسوة الطبيعة والشارع ورغم كل تلك السنين ربما من الخوف الذي لازمني دائما وهو سحبي من المدرسة كباقي أغلب الفتيات في وضعي .

الكتابة كانت تحد مستمر والمحارب وحده يستطيع أن يسلك دروب العلم والمعرفة دون أن يشتكي أو يندم لأن التحديات الحقيقية لا يمكن أن تكون بشكل جيد أو سيء بل هي تحديات فقط .

أما عن السؤال والإضافة النوعية لمهنتي كمحامية لمسيرتي الأدبية فأستطيع أن أقول لك أن العكس هو الصحيح فلمدة أربعة وثلاثين سنة من ممارستي لهذه المهنة كنت أقرأ الأعمال الأدبية أكثر وأكتب في الأدب العربي أكثر ، ومكتبتي يتكون ثلثيها من الكتب الأدبية.

القراءة والكتابة الأدبية هما اللذان كانا يدفعاني أن أنجح في عملي ، وخلال كل تلك السنوات استطعت الحفاظ على السر المهني ولم أستغل قضايا الناس في الكتابة أبدا .

بالنسبة لي ، كتابة الواقع المستمد من القضايا أو من محيطي هو أصعب وأشد مرارة من كتابة ما يدور في خيالي ومهما كان مشوبا بالغموض والتجريد والسوداوية ،لأن القصص الواقعية هي فعلا ، أشد قسوة وضراوة من القصص الناتجة عن الخيال .

 لذلك يمكنني أن أؤكد لك أن مهنتي كانت عائقا ولم تكن إضافة كيفما كان نوعها حيث أن مهنتي هذه تسرق مني الوقت كأن تراودني أفكار كثيرة تروج في داخلي يجب التعبير عنها حالا بالكتابة ، لكنني أكون في قاعة جلسات ومطلوب مني الانتباه والتركيز في الفصول القانونية وحيثيات وملابسات القضية المعروضة على أنظار المحكمة الشيء الذي يجعل تلك الأفكار الأدبية تضيع لصالح المرافعة القانونية علما أن اللغة القانونية بعيدة كل البعد عن اللغة الأدبية ،ونفس الشيء ، لما أكون في مكتبي منكبة على كتابة المقالات والمذكرات القانونية وتجهيز ملفات القضايا الرائجة للمرافعات .

وصدقني، فذلك يغيظني كثيرا ، ويجعلني أتعذب بأفكاري التي تصب في الأدب وقد يدركني الوقت فتتشتت ، فلا أعود قادرة على القبض عليها من جديد . 

كل ذلك علمني على مدار السنوات وظروفي الحياتية المضطربة أن الشجاعة ليست هي غياب الخوف بل المقدرة أن ننتصر عليه فآمنت أن النجاح ليس نهائيا والفشل ليس قدرا ، الشجاعة في الاستمرار هي الأهم . 

وآمنت أيضا أن الأدب هو الذي يجب أن يعطينا الحل لكل القضايا الاجتماعية وأن يذهب بنا في أفكار عميقة وبعيدة عن الواقع المعاش،وأنه لا يجب أن يكون أداة لتكرار واقع ووصفه بحذافيره بل يجب أن نستعمل الأدب في استخلاص زبدة تلك الوقائع والأحداث المعاشة لإخراج القارئ والكاتب معا من حصارها المزدوج .

3 ـــــ السؤال الثالث :

ـــ حين نقرأ سرودك القصيرة نلمس نوعا من الصنعة ، إذ تتحررين من قيود الواقع وتأخذين القارئ بعيدا عن المعيش اليومي إلى فضاءات بعيدة ، مأهولة بالأشباح والهيولى والتجريد والتخييل وتتعدين تخوم الخاص المستهلك إلى العالم الإنساني وتتناولين مسائل كسموبوليتية وكونية انطلاقا من هموم بسيطة، فمن أرضية الحافلة المتسخة التي تصطبغ بالأوحال والجلبة تزجين بالقارئ في فضاءات رحبة من التخييل عن ( الروح السوداء ) في العلاقة المتذبذبة بين الفتاة والشاب ، عن الأجواء الكابوسية في نص ( القوارض ذات المناقير ) التي تغزو البيت وتذكرنا بقصة ( المسخ ) لكافكا ، عن الجحيم الذي يسببه الأخرون في قصة ( شراب الشياطين )حيث الإهانة والتمزيق والإبادة والتعذيب الجسدي والاستلاب الروحي الذي يتعرض له بطل القصة ، إلى الهروب من الواقع والرغبة في أن يمتد السفر والوقت والرغبة في أن لا تتوقف الحافلة والسفر إلى عوالم أخرى أكثر أمنا في قصة ( أحب ركوب الحافلة ) وهيمنة الكوابيس والألوان القاتمة على أجواء النصوص كافة ؟.

ـ لم أفهم جيدا ما تعنيه بالصنعة ، إن كان ما تقصده منها أنني بدل أن أسرد الوقائع ببساطة وأصفها كما حدثت ، فأنا أعمل على التحليق بها في كل العوالم المذكورة في السؤال وأغلفها بالغموض والسوداوية والعدمية وغير ذلك فأنا سأخبرك أن لا شيء من ذلك يحدث معي أثناء الكتابة الأدبية ، بل إن ذلك نتيجة لما مررت به في طفولتي ومراحل دراستي وظروف حياتي الصعبة وكذلك لما عاينته وتأكدت منه من خلال التصرفات المجتمعية السيئة من الظالم والمظلوم على حد السواء ، الشيء الذي لم استوعبه بتاتا وكون لدي ارتباكا وغموضا رافقني دائما خاصة لما لمسته من تجاهل للقيم والمبادئ الإنسانية في الكثير من القضايا التي تروج بالمحاكم كل المدة التي مارست فيها ومازلت ، مهنة المحاماة .وذلك كان صدمة حقيقية لي .

إضافة إلى أن مقولة إن :( الأديب ابن بيئته ) وهي مقولة تنطبق علي تماما وذلك لتصديقي كل حكايات والدتي والتي اختمرت في لا شعوري منذ الطفولة المبكرة والتي تتميز بغرابتها وغموضها لكنها استحوذت على مخيلتي مثل حكاية ( كنا بسبعة بينا واجلانا بابانا ) وحكاية ( احديدان الحرايمي وماما الغولة ) ذلك أن الغولة سجنت احديدان في سلة كبيرة فيها ما لذ وطاب لتسمينه قصد التهامه فيما بعد ، وكان هو لكي يمدد أجل ذلك كان يمد أصبعه من خلال ثقب في السلة مبينا لها أنه مازال هزيلا ولم يسمن بعد .

في رأيك ، أليس هذا ما يحدث حاليا في هذا العصر، في العالم الذي نعيش فيه ككل أستاذي الكريم؟ .

وبعد ذلك ترسخت في ذهني عدة حكايات وقصص لكامل الكيلاني وعطية الأبراشي على الخصوص .

أقول إن قراءتي النهمة لكل ما تقع عليه يداي، كل ذلك جعلني أتشبع بالغموض والعجائبي وما يطغى على العالم من سواد، فكثيرا ما أشرد وتسرح عيني في الفضاء، ففي الغيوم والضباب والسحب فقط أسمع صدى آلام الناس وتياراتها التي تقذف بي إلى مهب الريح وفي أفكاري هناك ارتعاشات وحمى .

وأقول إن هذه النزعة الممزوجة بالفانتازيا ، والهيولى والأسطورة والتجريد من الواقع إلى عالم مظلم قل من يستطيع السير فيه ليعري النفس البشرية من ظلامها الموغل في الوحشية ويوضح ما تخفيه من سواد الظلم والعذاب الذي يحادي كل واحد منا ويمسه بطريقة أو أخرى ولن يتأتى ذلك لي كأديبة ، إلا إذا مزقت هلاهيل المعيش اليومي المتداول التي تغطي تلك المشاعر والأحاسيس والأحداث لأصبغها بتلك الصبغة الكسموبوليتية وأغلفها بالسريالية وأصبغها بالرمزية لاخترقها إلى عالم أكثر إنسانية.

لدينا جميعا أشباح تركض في دماغنا وأفكارنا ، وهكذا فإنه من وقت لآخر فإن السحب وحدها تعطينا فرصة هروب ، نحن ، من نتأمل الأقمار ونعدها .

4 ــــ السؤال الرابع :     

ـــ ما هي رؤيتك للمشهد الإبداعي في المغرب ؟

ــــ رؤيتي للمشهد الإبداعي المغربي أستاذي الكريم مشوشة ومتذبذبة كما هو حاله وواقعه، فالكاتب المغربي يجد نفسه أمام إشكالية ومعادلة صعبة في تقديم ما يريده هو من أفكار مع الالتزام بقواعد الكتابة وما يريده القارئ العادي وما سينال إعجابه ورضاه باستحضار العناصر الفنية والجمالية لخلق التأثير المرجو والاستيعاب المنشود لديه .

فكما كان هناك زمن جميل في الفن والإبداع الموسيقي فأنني أرى أن هناك زمنا جميلا انتهى عهده مع عباقرة الأدب العربي وحتي العالمي أمثال نجيب محفوظ وجبران خليل جبران ومصطفى لطفي المنفلوطي وسارتر وكامو وجابرييل جارسيا ماركيز وسيمون دو بوفوار وغيرهم ممن خطوا لأنفسهم مسارا خاصا بهم في الميدان الأدبي، بالمقابل نجد الآن أن المسارات اختلطت ببعضها واشتبكت مع بعضها وأصبحت مسارا واحدا مهما اختلفت تسمياته ومحاولة الخروج به عن المتداول والمعيش اليومي ليست سهلة أبدا ، فكل الخيوط تشابكت والصور هي نفسها تتكرر وتتوالد بنفس الأسلوب في القصة والرواية وأيضا في القصيدة ، لأنه ليس هناك محاولة تطوير لكل ذلك بل نقل مباشر إلى القارئ لواقع يعيشه بصورة متكررة مما جعل الملل يسيطر عليه لدرجة العزوف عن القراءة .

لماذا الهروب من مواجهة حقيقة الكساد التي يعيشها الأدب المغربي والعربي بصفة عامة ، كتابة وقراءة ،فلا نجد كتابا قصاصين عرفوا في مجتمعاتهم وبلغوا حدا من الشهرة وتكوين جمهور قارئ لهم إلا قلة قليلة وذلك لعدم تطوير اتجاهات الكتابة الأدبية وعدم الخروج عن نفس النسق والعادي والمألوف والأنماط المتداولة والتي سبق تناولها والمدارس التي سبق وأن استنفذت أدواتها .

لذلك فإن المشهد الأدبي ككل يحتاج منا أن نطل عليه من خلال نوافذ جديدة نفك من خلالها حصار الواقع المتكرر الذي سبب نفور الأجيال الصاعدة من القراءة خاصة وأن ضغوطا خطيرة وكبيرة توقف مد الإبداع وتجعله في جزر وتراجع دائم إليكترونيا عبر الهواتف النقالة والمواضيع المكررة التي تستغرقها التفاهة والجهالة ولا تخدم الأدب المغربي والعربي بصفة عامة في شيء . 

قد يراني البعض متشائمة وأنني أصدر أحكاما على جيل كامل بعدم التوصل إلى ما وصل إليه السابقون من نجاح في الإبداع الأدبي سواء على صعيد الرواية أو القصة القصيرة أو حتى في ميدان الشعر سواء كان موزونا أو نثريا لكن هذا هو الواقع الذي لا يرتفع واسمح لي أن أورد هنا مثلا مغربيا معبرا عما يحدث وهو : ( كل واحد يقول فولي طياب ) .

قد يقول قائل أن هذا الزمن هو زمن الرواية وأنه المستحوذ على المشهد الأدبي المغربي المعاصر وأنه الشغل الشاغل للناشرين والمبدعين والقراء على حد السواء وأن القصة القصيرة نضجت على يد مجموعة من الشباب أقبلوا عليها دون غيرها وقد أصبغوا عليها مسميات منها :( طفلة الأدب المشاغبة ) ووظفوا ما أطلق عليه مصطلح ( الميتاسرد ) وهو الكتابة عن الكتابة في المجال السردي وقد يبين بعض النقاد أن القصة القصيرة بعدما كانت خاضعة للنسق الواقعي الكلاسيكي بدأت في الاتجاه نحو التجريب والتحديث وأصبحت استكشافا لمطابقة وإثارة الأسئلة بدل تقديم الأجوبة واختراقا للمجهول في محاولة للثورة على نظرية الإيهام بالواقع وقد نهجت نظرية الميتاسرد أو الميتاقص ، لكن كل هذا المجهود الكبير والمتعدد لا يزيد هذا الميدان سوى بلبلة وضياع بين نظريات متشعبة ومشتتة في محاولات قد تنجح أو لا تنجح في إثارة حماس القراء والكتاب أيضا .

5 ـــ السؤال الخامس :

ـــ ماذا تعني لك الكتابة الأدبية ؟ 

كثيرا ما اعتبرت أن الكلمات لها سحر صاف ، إنها أقوى وأجمل هدية أعطيت للبشر ولكنهم يستخدمونها ضد مصالحهم وضد أنفسهم .

نخلق أنفاقا مظلمة بالكلمات داخل النفوس ونشعل نيرانا بين الأجناس والأشخاص والعلاقات والأوطان المختلفة بالكلمات .

نحن نسيء استعمال الكلمات لأن خوفنا والذي تقوم عليه الحياة بأكملها وليس الحب كما يدعي البعض لأننا في الحب نخاف أكثر فأكثر، وهذا هو ما يدفع البشرية لصنع عالم من كوابيس جهنم .

أن نعيش هو أكبر خوف لدينا وليس الموت ، وأكبر خوف هو أن نكون أنفسنا وهذا هو ما يؤرق كل واحد منا.

لقد تعلمنا أن نعيش ونحن نجتهد بكل قوانا لإرضاء رغبات الآخرين ، نعيش حسب نظرتهم إلينا خوفا من عدم قبولهم لنا لذلك نقوم بكل ما نستطيع لنكون أفضل وأجمل في أعين الناس ونخفي داخلنا ذواتنا الحقيقية بكل آلامنا وتعاستنا التي يسببها لنا ذلك الخوف المسيطر علينا . 

لهذا فالجميع لديه شخصية أخرى لا يبرزها للآخرين ويعمل جاهدا أن يخفيها عن الأعين ، فكم منا يريد أن يصرخ في وجه العالم بكل أحزانه ، غضبه ، اشمئزازه ، بكل السوء الذي ينخر داخله ، وبكل همومه واضطراباته وثورته التي خزنها وراكمها داخله ، لكنه لا يفعل .

لذلك كان وما يزال هدفي الأسمى الوصول بكتابتي الأدبية وبالإبداع فيها إلى أن ألمس وأصل إلى تعرية ذلك الخوف الكريه المتمكن من النفس البشرية والتعريف به لكل من لا يستطيع مواجهته والانفلات من قبضته ومن وجع تلك الوحدة الداخلية التي يتسبب فيها للجميع والتي تنتاب كل البشر على حد السواء دون أن يتمكن أي شيء خارجي ، مادي أن يملأها ، فنحن نعرف تمام المعرفة أننا نعيش في عصر يبدو فيه الكل يحتفل ، لكن لا أحد من المحتفلين يبتسم .

الكتابة الأدبية جعلتني أتخذ المكان الوسط بين كل ذلك ، بين أن أغضب حد الموت أو أترك كل شيء على حاله ، أن أغلق على نفسي بمفتاح أو أترك الجميع يدخل .

علمتني الكتابة الأدبية أننا كلنا نرتع في بئر عميق ، مظلم ، لكن هناك من يستطيع أن ينظر إلى النجوم وأن أي كاتب أو شاعر فوق الأرض ملزم بالكفاح ضد البؤس والفقر ، والكاتب الذي لا يضايقك بما يكتبه ، فلا قيمة لما يقوله .

لذلك في تعريفي للكتابة الأدبية أقول : ( إن الشاعر لص ينظر إلى النجوم ، إنه يمر وهو يلامس السحاب والكاتب ليس إلا مسافرا ضائعا ، لكنه يستمر في المسير أمامه ، بعض الأحيان يتساءل : ( ماذا يحصل ؟)( لماذا ذلك الشيء يلمع ؟) و( لم يموت الناس)، وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة .

وهكذا تجد الكتاب والشعراء على السواء يكتبون ( لا نعرف لماذا ، لكننا نبكي).

6 ــــ السؤال السادس :   

ــــ في فترة ما نشأ لديك هذا الهم بالكتابة ، كيف كان ذلك الاهتمام ؟

في الحقيقة ، لم أشعر يوما أن الكتابة قيد أو ثقل يجب أن أتحرر منه ، بل إن الكتابة هي من يحررني ، أستطيع أن أسميها حريتي المطلقة ، لأنها بالنسبة إلي هي عملية خلق ترافقني على الدوام ، فقد تراودني أفكار كثيرة ألتقطها من مسرح الحياة اليومية ، لكنني أجد نفسي أخترق تخوم تلك الأفكار بكل جرأة إلى ما وراءها وما يمكن أن تخفيه من غموض أستشفه من تفاصيلها الخفية مهما كانت صغيرة ولا تظهر للكل وذلك من خلال طرح أسئلة في محاولة لإظهار حقيقتها والألم والوحدة والوجع والسواد الكامن وراءها .

ولا أنكر أنه كثيرا ما تحكمت تلك الظواهر غير الطبيعية بكتابتي واستحكمت بوعيي ولا وعيي الشيء الذي يجعلني أنبهر شخصيا مما يتدفق على ذاكرتي وورقتي، أفكار ليست بالضرورة مؤلمة ، لأن الأفكار واللحظات السعيدة نفسها قد تؤدي بي إلى التعبير عنها وتشكيلها بأسلوب يجعلها عنوانا لمأساة ما ، وأحزان تمتح من الغريب والعجيب بشكل فني جمالي راق وسام ، يؤدي بالقارئ إلى اللهاث وراءها لاستكشاف خباياها .

وللجواب بدقة على السؤال فإن عملية الخلق هذه اكتشفت أنها بدأت معي منذ الطفولة كما سبق أن وضحت لأنني كنت أصدق كل القصص مكتوبة أوشفوية والتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من خيالي والتي قد يتولد عنها قصصا أخرى داخل رأسي ، لم تكن في الحسبان ، وقد اكتشفت لا حقا أيضا أن هذا ما يسمى بالموهبة .

بصيغة أخرى ، لما وعيت أن هناك كتب وروايات ، علمت أنني سأعيش داخلها وفهمت أن في كل قصة أو رواية هناك مكان لي ، فقط يجب أن أحرك الشخصيات والأثاث والديكور لأجد مكاني .

7 ــــ السؤال السابع :  

ــــ في ظل أزمة الكتاب الورقي ، جراء العزوف عن القراءة لدى جمهور عريض ، يتجه البعض إلى النشر الإليكتروني ، ما هو تقييمك للوضع ؟

أقول لكم يا أصحاب دور النشر ، يا من توجهون الكتاب نحو النشر الإليكتروني، يا من أدخلتم الكلمات المجال الضوئي ، الشعاعي ، المشع الإشعاعي المضر بالنفس والعين والجسد ككل ، أقول لكم : 

ــ تراجعوا عن ذلك ، فالكتاب يقبلون بالنشر الإليكتروني على مضض ، والقراء لا يقبلون على قراءة كتبكم الإليكترونية ، لأنهم يحبون دخول مجاهل الكتاب الورقي الملموس باليد ، والكتاب دون استثناء أو من أعرفهم على الأقل ، لا يتجهون إلى النشر الإليكتروني إلا هروبا من الشروط والأسعار المغالى فيها فيما يتعلق بالنشر الورقي وما يعترضهم في هذا الباب من مشاكل ومعوقات كثيرة.

أقول لكم : 

ـــ إذا أخذتم منا الكتاب الورقي ، سنضيع حتما ، سنفقد كل شيء ، سنتوه ولن نجد أي شيء نتشبث به في هذه الحياة ، وما يعلمنا كل المبادئ في الوجود وما نحبه وما نكرهه وما نحترمه وما نحتقره .

الجمال هو لغز كبير ولن نجد حلوله أبدا على شاشة ما ،فلا تضيعوه من أيدينا ، فكلنا موهوبون، مبهرون ، لدى كل واحد مزايا ومهارات مخفية داخله تنتظر فقط أن تتفتح ، ولن يقوم بهذا الدور سوى الكتاب الورقي . 

  أقول لكم : 

ـــ أتركوا لنا الكتاب الورقي ، فهو مؤرخ للحب بينما الكتاب الإليكتروني يؤرخ لخيانة الكلمات وطمسها في عمق فراغ بئر أجهزة إليكترونية مصيرها التلف والضياع فلا فائدة ترجى منها ولتعلموا أن الكتاب الورقي خالد يبقى مدى الحياة وبتوالي الأزمنة والعصور.

أيها الإلكترونيون ،إذا قتلتم الكتاب الورقي ،فإنكم سترتكبون جريمة شنعاء وسنموت كلنا كتابا وقراء .

8 ـــــ السؤال الثامن :

ـــ اتجه اهتمام العديد من الأدباء إلى كتابة القصة القصيرة جدا وإلى أجناس تعبيرية بديلة ، ما هي رؤيتك لهذا الاهتمام ؟ 

نعم ، القصة القصيرة جدا ، اعتبرها البعض ثورة في عالم الأدب في الوطن العربي ككل وقالوا إن لها تـأثير جذري عليه فقد أحدثت تحولات عميقة على مستوى اللغة والحجم والأسلوب مختلطة بالقصيدة حينا ، مغيبة الحدث وممارسة التجريب إلى أبعد حد كما جاء على لسان إبراهيم نصر الله .

وقد لعب التطور التكنولوجي على حد قول العديد من الباحثين دورا كبيرا في اتنشارها لأن قراءتها لا تحتاج بذل الكثير من الجهد ولا الكثير من الوقت.

وقد عملت بعض العوامل على إنجاحها مثل تأييد النقاد لهذه الظاهرة الجديدة والاعتراف بها كجنس أدبي مقبول ومعترف به ، لكن ما فتئت سلبياتها أن ظهرت إلى السطح، فكتابتها من طرف غير المتمرسين بقواعدها أدى إلى ضياع المعايير التي تنظمها والقواعد التي تحكمها .

إن القصة القصيرة جدا عكس القصة القصيرة والرواية لا تعتمد على الوصف ونفتقد فيها الحبكة والحوار وغيرها من مقومات السرد الفنية بل إن لغتها يجب أن تكون سهلة وفي متناول القارئ العادي والأحداث مكثفة ، ذات إشعاع برقي، لحظي،يجب أن يحدث عند نهايتها لدى القارئ دهشة أو اندهاشا ما .