أكثر من مائة آية في القرآن الكريم تأمر المسلمين بالصفح والعفو عن أعدائهم من المحاربين وعمن يؤذونهم بشكل عام ، وأكثرها نزل قبل الإذن بالقتال لدفع العدوان .
وكتب التفسير تقول بمجرد الإذن بالقتال نسخ التعامل بالعفو والصفح مع المعتدين ، وتأسس على ذلك القول بأن الأصل في التعامل مع غير المسلم هو الحرب لاالسلم .
وهذا كلام غير مستقيم لعدة أمور:
الأول : أنه لايمكن عقلا أن تنسخ آية واحدة أكثر من مائة آية ، لتظل هذا الآيات التي يقال عنها منسوخة للتلاوة فقط و غير معمول بها ، فهذا نوع من العبث أنزه كتاب الله تعالى عنه .
الثاني : أن أول آية في القرآن الكريم أذنت بالقتال جاءت معللة لبيان العلة من هذا الإذن ، وذلك في قوله تعالى " أذن للدين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله …"
لم تأذن الآية إذن بمباغتة أحد بالعدوان ، فقط أذنت بدفعه بعد طول معاناة من الفتنة في الدين والتهجير من الوطن .
وجاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية لتؤيد تماما هذا المنحى ، فما قاتل صلى الله عليه وسلم إلا دفاعا ، وهذا ماتضافرت الحقائق التاريخية والنصوص القرآنية على تأكيده، ويكفي أن أذكر هنا بآية الممتحنة فهي نص في هذه المسألة
" لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله بحب المقسطين "
فالآية لم تأمر بكف العدوان عن غير المسلمين وكفى ، وإنما أمرت ببذل البر لهم والإقساط إليهم ماداموا مسالمين غير محاربين ، هذا مما يؤكد على أن الأصل في علاقة المسلم بغيره هي السلم وليس الحرب .
وفي كتابي حقوق الإنسان في القرآن الكريم تفصيل واف وتوضيح في هذه القضية لمن أراد .
الثالث : أن القول بالنسخ معناه أن لا عفو ولاصفح عن أي معتد حتى وإن تضاءل جرمه ، وهذا في حد ذاته ضد العمران الكوني واالاجتماعي والإنساني ، بل وضد الفطرة والطبيعة الإنسانية الراقية ، فالإنسان لاتتحقق سعادته إلا بأن يعيش سلما حقيقيا داخليا وخارجيا ، وهذا هو الأصل ، أما حالة دفع العدوان أو رده بمثله ،فهذه استثناء من هذا الأصل ، وهي حالة بغيضة إلى النفس الإنسانية السوية على كل حال ، كما عبر القرآن الكريم في قوله تعالى
" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم "
الأصل إذن هو العفو والصفح مع الإنسان بشكل عام مادام مسالما ، أما المعتدي المتفحش فلابد من ردعه ، وقد يشرع العفو عنه إن كان في العفو عنه مصلحة عامة أو خاصة ، ولكل حال لبوسها ، ومن هنا جاء قوله تعالى " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين"
يعني يبقى خيار العفو والصفح مسموحا به مادام هذا الاعتداء لم يخرج الى حيز الاعتداء العام على الدين أوالوطن ، فالفرار من القتال لأجلهما والدفاع عنهما خيانة وجريمة كبرى ، ولايشرع عفو ولاصفح .
أما العدوان الخاص حتى وإن كان على النفس الإنسانية ذاتها ، فالعفو مشروع وهو حق لأولياء الدم إن شاؤوا اقتصوا وإن شاؤوا عفوا وأخذوا الدية ، وإن شاؤوا تصدقوا على الجاني بالعفو التام وأجرهم على الله .
الرابع ؛ أنه لايمكن أن تستقبم حياة وكل إنسان منا يحصي على الآخر هفوته وزلته ، وتمضي به الحياة وشغله الشاغل هو رد الاساءة بمثلها ، تمسكا بأن آيات العفو والصفح منسوخة ، وأن هذا الخلق قد ارتفع بنسخها .
وبدراسة سياقات الآيات التي أمرت بالعفو والصفح في القرآن الكريم ، نجد أن كثيرا منها ورد في شأن أعتى الظالمين من أهل مكة ، ليتأكد بذا أن العفو عن زلات اللسان وعثرات التصرفات إذا صدرت عن ذوى المروءات يكون من باب الأولى ، بل هو الواجب ودونه نقص مروءة وربما إنسانية .
واقول لمن ينتصرون لفقه رد الاعتداء بمثله ، ولاعفو ولاصفح :
ماقولكم في صفة عباد الرحمن " وعباد الرحمن الذي يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "
وماقولكم في قوله صلى الله عليه وسلم " أنا نبي المرحمة وأنا نبي الملحمة"
نحن في الاصل دعاة سلم لاحرب ، وأخوة لاشقاق ، ونحن في الوقت نفسه المفترض أننا ذووا شجاعة وبأس ولانقبل الدنية في ديننا ، والعفو والصفح الجميل عندما يستدعيهما المقام قوة ،وأي قوة !!.
ومن أرجى الآيات التي تعين الإنسان على نوازع الشر والانتقام في نفسه ومكابدة ذلك بالعفو والصفح قوله تعالى " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم "
وأقو ل:
لو لم يكن في فقه العفو والصفح غير هذه الآية لوسعتنا جميعا ، والحمد لله رب العالمين على نعمة القرآن العظيم .