الحقيقة أنني حاولت كثيرا عدم إثارة قضية حجاب المرأة على صفحتي ، لأنه ليس من منهجي تكرير المكرر وإعادة المعاد واستهلاك الوقت في المستهلك.
ولذا فلن أجيب هنا عما سئلته مرارا وتكرارا من قبيل : هل النقاب فرض ؟ أم إن الفرض يقتصر على ستر جميع البدن ماعدا الوجه والكفين ؟ لأنني على قناعة تامة بأنه لاأنا ولاأحد غيري يملك حسم الجدل في مثل هذه القضية الخلافية، ولسوف يظل كل فريق فيها على قناعته ، وإذا كان الأمر كذلك فلن أضيف جديدا ، والوقت أثمن عندي من أن أنفقه في مجرد نقل للآراء، التي هي موجودة في كل كتب التفسير والفقه ،وكذا الكتب المعنية بشأن المرأة فقهيا ، فليراجعها من شاء .
ودعوني أنقل لكم كلاما مختصرا في المفهوم الحقيقي للحجاب ، بعد أن ألفنا ممارسة كثير من تعاليم ديننا بشكل طقوسي أجوف ، ومنه اللجج في قضية الحجاب الشكلي أو الظاهري دون كلل .
هذا الكلام أنقله عن الأستاذ العقاد ،الذي نظر إلى حجاب المرأة نظرة شاملة مستوعبة ،تجمع بين أسس تشريعه وفلسفته وحكمته ، وهي النظرة التي كثيرا ما تغيب عن الفقيه حين يخوض في الدليل بنظر ظاهري ينقصه التدبر ، فإذا بالفقه يتحول عن طبيعته إلى مواد قانونية مجردة عن الحكمة والمقصد ، ويتحول التكليف ومنه الحجاب إلى شكل ومظهر مجردا عن القيمة والأبعاد التشريعية والمقاصدية ، وهي كذلك النظرة التي تنقص المفكر الذي يتحرر من سلطان النص في القضايا ذات الشأن الديني ليجعل العقل هو حاكمه فقط ، فيجانبه الصواب في كثير مما ينتهي إليه نظره ، ومنه الحجاب إذ يراه مجرد عادة ولاعلاقة له بدين ولاخلق ، ولايصلح لأن يكون قيمة ولامظهرا لها ..
في ماهية الحجاب الشرعي يقول الأستاذ العقاد في كتابه المرأة في القرآن :
" لاحجاب في الإسلام بمعنى الحجر والحبس والمهانة ، ولاعائق فيه لحرية المرأة حيث تجب الحرية وتقضي المصلحة ، وإنما هو مانع الغواية والتبرج والفضول وحافظ الحرمات وآداب العفة والحياء "
وبناء على ذلك أقول :
الحجاب الذي يصفه الأستاذ العقاد رحمه الله - من حيث اللغة - هو أقرب إلى معنى الحشمة والتحشم منه إلى معنى الحجاب الذي يكاد ينحصر مفهومه لغة في الستر والتغطية ، خاصة وأنه لم يرد في القرآن الكريم ولافي السنة المطهرة هذا اللفظ - الحجاب - للدلالة على لباس المرأة وتسترها حال لقائها الرجال الأجانب عنها .
فالحشمة في لغة العرب تعني : الحياء والستر والوقار ، يقال : عليه الحشمة ، يعني الحياء ، وحشم الرحل : استحيا وخجل ، ومن نواقض الحشمة : تعمد الإثارة وتحفيذ الانجذاب إلى الطرف الآخر ، فكل مايدعو إلى مثل هذا السلوك ليس بحشمة ولاتحشم ، سواء أكان في زي أم نظرة أم عبارة أم مسلك .
الحشمة إذن خلق يجلل الشخص كله مظهرا ومخبرا ، في أخلاقه وحركاته ونظراته ولباسه ومشيته ومنطقه ، ويشمل الرجال والنساء ، يقال رجل متحشم وامرأة متحشمة .
وعليه ، فالحجاب الشرعي لايمكن أن يتحقق في غطاء رأس على جسد بارز بكل تفاصيله ، وألوان صارخة في الزي وعلى الوجه وتغيير حي لخلق الله ، فهذه دعوة إلى الغواية وفضول النظر وهو التبرج بعينه .
ولايمكن أن يتحقق الحجاب كذلك في تغطية كاملة للجسد بحيث لايرى منه قدر أنملة ، على نفس متكبرة ترى نفسها وحدها في الجنة وغيرها في النار، لأن صاحبته بذا تفتقد شرط الحياء من الله والأدب مع الخلق ، وقد أعلن الله تعالى في كتابه الكريم " إنه لايحب المستكبرين " ومن أعلن الله تعالى بغضهم في كتابه ،لايمكن أن يكونوا أهل فضيلة أوحشمة .
كما لايمكن أن يتحقق الحجاب في غطاء رأس على قلب فظ ، ولسان خواض في الأعراض وتهتك وميوعة في الحديث ، ونظرات جريئة مثيرة لافته ، فهذه كلها صفات ليست من الحشمة في شيء .
الحجاب الشرعي إذن تحشم وأدب في الظاهر والباطن معا ، وفي الباطن قبل الظاهر .
وهذا هو مراد الشارع الحقيقي من تستر المرأة ، إنه ستر للبدن على نفس متحشمة مهذبة ظاهرا وباطنا .
وهذا هو مايجب أن نحرص عليه في تربيتنا لبناتنا وحديثنا عن زيهن وتسترهن ، حتى اذا غطت الفتاة شعرها وجسدها ، كان هذا الغطاء عبارة عن تتمة وتكميل لما تتحلى به من حشمة داخلية وتقوى وأدب.
ودون ذلك يكون هذا الذي يسمونه حجابا تمييعا للفضيلة ، وممارسة طقوسية لقيمة خلقية وفريضة دينية ، ومخالفة واضحة للحكمة من تشريعه المنصوص عليها نصا في قوله تعالى " ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله عفورا رحيما "