"قال رحمه الله تعالى "
مادمت حيا ؛ فقدرك ياعالمنا الجليل -إذا أردت أن تحيا مصان العرض موفور الكرامة ،تأكل الذهب من جماجم من سبقك من المصنفين- أن تقف عند حدود النقل عن هؤلاء السابقين ، مصدرا كلامك بالعبارة الشهيرة " قال رحمه الله تعالى "
وكلما حفظت أكثر ونقلت أكثر وأكثر فأنت الحافظ المحدث الفقيه النحرير ، فريد عصرك وخاتمة أهل التحقيق في دهرك …
أما إذا كنت من أولائك الذين يحرصون على التحرير والتمييز والنقد ، أو الإضافة إلى جهود من سبقهم -فضلا عن التفرد والتجديد والإبداع -فقدرك ياعالمنا الجليل أن تظل في الخفاء مدفونا في أرض الخمول الأبدي ،ولن تبصر أفكارك وهي تشق طريقها إلى النور مادمت حيا ، وإن حدث فسيكون حين تأفل شمش غروبك عن هذه الدنيا ، وقت أن يستوي عندك التبر بالتراب ، أو حين ترد إلى أرذل العمر وقد صرت كالأرض الهامدة ولاتدري من بعد علم شيئا.
فقدر كل مفكر أو مصلح في عالمنا العربي والإسلامي ( العالم المنكوب ) أن ينتقل إلى جوار ربه قبل أن تشق أفكاره طريقها إلى النور ،لأننا ببساطة لانقدر أية فكرة أو معلومة مهما ثبتت صحتها إلا إذا صدرت بقولنا " قال رحمه الله تعالى ……"
ثم بعد أن يوارى ذلك العالم المغمور الثرى ، تتبارى الأقلام في وصفه بالعلامة الفهامة ، خاتمة أهل التحقيق في عصره ودرة أهل التصنيف في دهره ، أما أفكاره التي طالما وصفت بالضلال والانحراف ، فتصبح في غداة واحدة مشدودة الوثاق بالكتاب والسنة ومقاصد الشريعة والمنطق والعقل ،وكل مايمكن أن يسمى برهانا ومالا يمكن .
وأسوق لكم مثالا واضحا على ذلك من مئات الأمثلة أؤكد به على أن هذا الداء في هذه الأمة قديم ، وأن الحديث فيه حديث ذو شجون .
إنه العلامة المبدع " الخليل بن أحمد الفراهيدي " مبدع علم العروض الذي هو علم موسيقى الشعر وأوزانه ، والذي لم يصنف فيه قبل الخليل عالم قط .
والخليل كذلك هو أول من وضع معجما لغويا عربيا أعني :معجم العين ، المصدر الأساس لجميع معاجم العربية على الإطلاق ، منه نبعت وعنه تفرعت واكتملت ، وقد أكمله ورتبه تلميذه الليث بن المظفر الكناني ترتيبا فريدا ،حسب مخارج الحروف العربية ، بدءا من أقصى نقطة في الحلق ، وهو حرف العين مرورا بحركات اللسان ،وانتهاء بأطراف الشفتين حيث مخرج حرف الميم ، ولذا سمي المعجم كله بالعين.
ونتعجب حين تذكر المصادر أن هذا العالم المبدع الخليل بن أحمد مات وهو مجهول السنة والشهر واليوم ، بعد أن عاش فقيرا يتقوت الخبز اليابس في بيت من الخوص في البصرة ، ولايقدر على فلسين ، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال ، كما قال عنه تلميذه النضر بن شميل .
وسمعت من أحد أشياخي هذه العباره " مات الخليل فقيرا مجهولا وتلامذته من بعده لايزالون يأكلون الذهب من جمجمته "
ومما ترجم به الزركلي في أعلامه للخليل :
" عاش الخليل بن احمد فقيرا صابرا ، شعث الرأس ، قشف الهيئة ، مغمورا في الناس ، لايعرف "
ترجمة مأوساوية تدعو للعجب …..
ولكن إذا عرف السبب بطل العجب .
فها نحن على مستوى الخاصة من المهتمين بالعربية وعلومها ، نقدر الخليل بن أحمد لأنه ممن "رحمهم الله تعالى "
أما على المستوى الشعبي والعام ، فالجماهير العربية من المحيط إلى الخليج ، تعرف جيدا سيدة الغناء العربي أم كلثوم ، وتعرف كذلك من شدت بشعره ومن لحن لها حق المعرفة ، ولكنها لاتعرف من ضبط إيقاع الشعر العربي كله ،ولولاه ماكان غناء ولاتلحين ولن تعرفه .
أقول : ومن الخير للخليل أن يظل عند العامة مجهولا غير معروف ، فإذا كان الغناء كله عندهم فسقا ، والشعراء قوم ماجون ، فما بالنا بمن حبر لهم شعرهم وغناءهم !!
فليرحمك الله ياخليل ويرحم أمثالك ، وليرزقنا الصبر على هذا الواقع المر .