انطلقت التكبيرات لترتسم الابتسامات على الشفاه رغم الحزن والألم البادي على الوجوه، تعالت صيحات التكبير ما بين متشائمٍ ومتفائلٍ ومحذِّر، علا صوت أحدهم قائلًا:
- ما زال لديه نبض، لكنه ضعيف جدًّا.
تبِعه آخر قائلًا: ما زال يتنفَّس!
جهودٌ حثيثةٌ يبذُلها رجال وشباب فوق أنقاض المنزل المتهدِّم، لاستخراج أجساد قاطني المنزل؛ سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا، كُتَل خرسانية ضخمة تبرز منها أسياخ من الحديد، الغبار يكسو جميع الوجوه، أثاث مُحطَّم وجُدران سقطت بما عليها من صورٍ وذكريات، بعد جهدٍ ومعاناة، وبسبب خبراتٍ متراكمةٍ حصلوا عليها من كثرة ما عايَنوه واختبروه من انفجاراتٍ متكرِّرة أدَّت إلى تهدُّم معظم المنازل وسقوطها فوق رؤوس سُكَّانها.
تمكَّن المُتواجِدون من قص الحديد وإزاحة الكُتَل المتهدِّمة وتمزيق ملابس الطفل الصغير ذي الوجه الملائكي المخضَّم بالدماء والغبار، من حُسن حظ الصغير أنَّ والديه أو رُبَّما أحدهما كان قد وضعه بين الكثير من الوسائد والمراتب القطنية، لحمايته من المواد الصلبة، وهذا ما ساهم بشكلٍ كبيرٍ في الحفاظ على حياته.
ما إن أخرجوه من تحت الرُّكام حتى استدعوا أحد المُسعِفين، ليفحصه بما تيسَّر له من إمكانيات تكاد تكون منعدمة.
كان جسد الصبي يرتعش في شدةٍ تتلاحق أنفاسه بعُنف، كلما أخذ نفَسًا تملَّكَه السُّعال من أثر الغبار المُتراكِم على وجهه وأسفل أنفه، رغم كل ما تعرَّض له من رُعبٍ فإنه كان يحمل دُميةً صغيرةً بين كفَّيه الصغيرتين، حاول المُسعِف نزع الدُّمية من بين يديه، لكن أصابعه كانت تحكم التمسُّك بالدُّمية، بعد عدة محاولاتٍ فاشلةٍ من المُسعِف تركها بين يديه من ثَمَّ فحَص جسده بعناية، ليتأكَّد من عدم وجود كسورٍ أو شروخٍ مؤثِّرة، وبعد أن تأكَّد أنها فقط بعض الرضوض والكدمات نظَّف أنفه ووجهه من الغبار، من ثَمَّ تركه جانبًا، ليتابع مع بقية المسعفين أي حالات قد تخرج من تحت العقار المتهدِّم.
تجمَّع الشباب والصِبية من حوله يحدِّثونه في محاولةٍ منهم لبثِّ بعض الطمأنينة إلى قلبه، لكن دون جدوى، كان الفتى ينظر إلى الفراغ باتجاه السماء، تناهى إلى أسماعهم صوتٌ قادمٌ من صوب البيت المتهدِّم وهو يقول في حزنٍ وألم:
- للأسف، مات الجميع.
تبعه صوتٌ آخر يقول في حسرة:
- لم ينجُ أحد.
كانت الأجساد مُمدَّدةً على الأرض، أجساد تنزف الدماء، قد غادرتها الأرواح لتصعد للسماء تشكو لله قهرًا وظُلمًا، كُفِّنت الأجساد باللون الأبيض، لتذهب إلى مثواها الأخير.
بينما الجميع منهمكون في سَتر الأجساد وهم يردِّدون في تحدٍّ ويقين:
- الله أكبر.. الله أكبر!
أخرج الفتى دُميته ليُخرِج حشوها، الذي كان يحمل بين طياته ذهب وحُلِيَّ أمه وبعض النقود وصورةً تجمعه بوالديه وإخوته.
تذكَّر آخر كلمات أمه له ولإخوته أثناء القصف على حيِّهم، بينما كان يحاول أبوه إيجاد مخرجٍ لهم من المنزل عندما اقترب القصف واشتدَّ بالقرب منهم، تذكَّر قولها عندما نظرت نحوهم في خوفٍ وحُب قائلة:
- رُبَّما يكون هذا آخر لقاء بيننا على الأرض، لكنني على ثقةٍ ويقينٍ أننا سنجتمع بالسماء.
نظر نحو السماء وأطلق العنان لدموعه لتنساب في غزارةٍ وبلا توقُّف وقال في حزن:
- عندما ألحق بكم يا أمي "سأخبر الله بكل شيء".
- تمت