استفتاء مهم في أمر عمت به البلوى بين السيدات ، وقد سئلت فيه كثيرا على الخاص ، ومن ثم رأيت أن أجيب عنه هنا لتعم الفائدة ، لاسيما وأن صاحبة السؤال من الداراسات .
👇👇👇👇
السؤال نصا :
تقول السائلة : لما درست الفقه الشافعي، علمت أن الإفرازات المهبلية تنقض الوضوء، وأن منها ما هو نجس وغير نجس لكن كلها تنقض،
ولأني شابة ولا أستطيع التحكم بها إطلاقا صرت أتبع حكم طهارة أصحاب الأعذار على ما فيه من مشقة الوضوء لكل صلاة خاصة خارج المنزل.
سؤالي يا دكتورة، هل توجد بنت أو سيدة تستطيع التحكم في هذا الأمر، وهل بذلك نصير كلنا من أصحاب الاعذار؟
وكيف أميز بين ما ينقض منها وما لا ينقض؟ قرأت كثيرا عن الفروق ثم دخلت في وسوسة ، فضلت عليها مشقة إعادة الوضوء.
ممكن حضرتك تفيديني؟
الجواب :
هذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء قديما نتيجة توصيفهم لهذه الحالة وتكييفها فقهيا ، فمنهم من ألحقها بمايخرج من الإنسان عند ثوران الشهوة وهو مايعرف بالمذي ، أو بما يخرج بعد البول وهو مايعرف بالودي ، ومن ثم حكموا بنجاستها وأوجبوا الطهارة منها ، وهؤلاء جمع كبير من فقهاء المذاهب المختلفة ، وهي الفتوى المعلومة والمشهورة .
ولكن وجد من الفقهاء المحققين من لم يلحقها بأي من هذين التوصفين ، وأفردها بتوصيف خاص بها باعتبارها رطوبة للمكان ليس إلا ، ومن ثم حكم بطهارتها ، ومنهم الإمام النووي رحمه الله ، فقال نصا " رطوبة المكان فيها خلاف مشهور عندنا- يقصد الشافعية - وعند غيرنا والأظهر طهارتها .
وهناك من فقهاء المالكية وبعض الشافعية والحنابلة من ألحقها بالعرق ، يقول الإمام البهوتي - من فقهاء الحنابلة - في كتابه الروض المربع " رطوبة المكان طاهرة كالعرق والريق والمخاط "
وقد حكم بطهارتها كذلك الإمام ابن حزم رحمه الله قولا واحدا .
وهذا التوصيف السابق نقله " رطوبة المكان " عن الإمام النووي رحمه الله يكاد يتطابق مع التوصيف الطبي الحديث لهذه الإفرازات ، فبالرجوع إلى أهل الاختصاص من الأطباء .، أكدوا على أن هذه الإفرازات مخرجها إما الغشاء المبطن للمهبل ، أو عنق الرحم في أعلى المهبل ، قالوا وهذا المخرج منفصل تشريحيا تماما عن مخرج البول ، وأضافوا : وهذه الإفرازات عبارة عن مرطبات للمكان لمنع الجفاف عنه ، حتى لاتتأذى المرأة حال العلاقة الزوجية، هذا بالاضافة إلى فوائد أخرى صحية ، فهي تعدل الوسط الكيمائي للمهبل فتحمي أنسجته من العدوى بالإبقاء عليها رطبة ، وتحمل الخلايا الميتة والبكتريا إلى خارج الجسم ، ولايخفى مالهذا من آثار صحية على المرأة .
وعليه ، فمعلوم أن ماينقض الوضوء في الأصل هو مايخرج من السبيلين، لكونهما المخرج المعتاد لخروج النجاسات من البدن ، والإفرازات لم تخرج من أي منهما ، فمخرجها من غير مخرج البول بتأكيد أهل الاختصاص ، وماكان كذلك يكون غير نجس وغير ناقض للوضوء فقها وطبا .
والذي يؤكد على أن هذه الإفرازات طاهرة ، ولايجب منها الوضوء مايلي:
أولا : أن الاحتراز منها يشق بل ويتعذر ، والقاعدة " مايشق الاحتراز منه يعفى عنه "
ثانيا : المشقة التي تتحملها المرأة حال الحكم بنجاستها ، والله تعالى لم يجعل في دينه من حرج ، وماكلف عباده بغير مقدورهم ، أو بما يخرج عن حدود استطاعتهم ، وإلا كان تكليفا بما لايطاق ، وهذا محال شرعا .
وللشاطبي في هذا مايشبه القاعدة ، يقول " متى كانت المشقة خارجة عن معتاد المشقات فمقتضى الشارع منها رفع الحرج" بل إنه رحمه الله تعالى ليقرر أن تعمد المشقة على النفس حال العبادة باطل ، فيقول في قاعدة أخرى " قصد المكلف إلى المشقة باطل "
ثالثا : كونها من الأمور التي عمت بها البلوى بين السيدات ، والقاعدة : أن عموم البلوى مما يوجب التيسيرفي الفتوى " فلا تكاد توجد أنثى إلا وهي تشكو هذه الشكوى، كما بدا في واقعة السؤال .
وأزيد على ذلك : أن جميع الأحاديث التي أمرت بالوضوء مما يخرج من الإنسان من نجاسات ، لم يرد منها قط حديث أمر بالوضوء مما يخرج من المهبل أو عنق الرحم ، ولاورد كذلك حديث واحد يأمر بالوضوء من مرطبات المكان أو الإفرازات الرحمية .
ومن ثم كان الخلاف بين الفقهاء محله الاجتهاد في عملية التوصيف والتكييف والإلحاق على حالات أخرى ، على النحو الذي بدأت به إجابتي .
ويعذر هؤلاء الفقهاء قطعا ، لأنه لم يتح لهم قديما هذه التفصيلات الطبية الآنف ذكرها ، وأظنهم لو كانت قد أتيحت لهم ، أعني التوصيف الطبي الحديث لهذه الإفرازات ومخرجها ، لما خالف أحد في طهارتها ، تحقيقا لمقاصد الشريعة في التيسير ورفع الحرج.
وعلى كل : فإن هذا الذي قدمته يظل من قبيل الرأي والاجتهاد ولايلزم أحدا ، فمن ترى طمانينة قلبها في اتباع من يرون نجاستها ووجوب التطهر منها من الفقهاء ، كان لها ذلك ، خصوصا إذا انتفت المشقة بالنسبة لها .
أما من ترى فيها مشقة خصوصا إذا كانت تعمل وتتطلب طبيعة عملها التواجد خارج المنزل بصفة مستمرة ، وكان التطهر لكل صلاة أو لوقت كل صلاة يشق عليها ، فما جعل الله تعالى في دينه من حرج ،"والمشقة تجلب التيسير " وهذه أحد أهم القواعد الخمس الكبرى التي تأسس عليها علم الفقه ، لتضافر الأدلة على اعتبارها .
والله أعلم .