"نحنا بخير.. ديروا بالكم على حالكم"
رسالة وصلت من شقيقتي فاتن، عبر تطبيق الواتس آب.. لم أرها ولم أر أحدًا من أسرتي الكبيرة منذ اندلاع الحرب الأخيرة في السابع من أكتوبر، أعيش وسط القصف، لا مكان آمن وكل الوجوه خراب، لا أستطيع إلا أن أكون جزءًا من الأحداث وأنا أراسل القناة التي أعمل بها، فجذري مغروس بتلك الأرض منذ ستة وثلاثين عامًا، ست عشرة منهم تحت الحصار، تراب يحوم ورائحة الدم تعبق الجو، لا أرى أولادي إلا من خلال مكالمات الفيديو، بعد أن عز التواصل بيننا، أستودعهم الله كل ليلة وهم ينامون بين ضلوع زوجتي، التي تتحسس طريقها على ضوء آخر شمعة كانت بخزانتها، بعيدًا عنهم؛ لتبكي وتبثني خوفها ألا يطلع النهار وهم يلهون تحت ردائها وبين عينيها، لا أجد ما أمنحه لها سوى اليقين الذي تربينا عليه، وثقتنا بأن الله سوف يزيح تلك الغمة، تغمض جفنيها، ملتحفة إسدالها، خوفًا من أن يداهمها القصف، فيخرجونها من تحت الأنقاض مكشوفة، كل الأمهات في حالة استعداد، تجهز حقيبة لحفظ الأوراق والملابس الضرورية، كي تتمكن من الإخلاء قبل القصف هي وأطفالها، وسط هذا الترقب للموت وقلب الأم الذي يتمزق في كل لحظة وهي ترى بيتها كنخلة عجفاء وسط الهدم والخراب ولا تعرف متى سيصيب بيتها الدور وهل ستكون خارجه ساعتها أم سيتوقف هذا النبض تحت رزح الحجارة والحديد؟ وهل سيتألم صغارها أم سيموتون في حلمهم بحياة طبيعية كباقي أطفال العالم؟ ترى الواحدة منهن أطفالها وهم يلعبون وسط الحجارة وربما وقف أحدهم صارخًا لأنه وجد قدمًا أو يدًا أو أشلاءً متناثرةً جرّاء القصف، فتجري نحوه، تغطي عينيه ورأسه في حضنها وتنتحب وهي تعرف أنها ربما غدًا ستأوي أجزاءه الصغيرة في حجرها، وفوق هذا فعليهن التحلي بالقوة أمام أطفالهن، رغم الألم الذي يتشظى داخلهن تقول لي زوجتي: "أشعر بأن جسدي يؤلمني كله بسبب إخفاء حزني وبكائي عن أطفالي، أشعر بأن الطاقة السلبية تسبب التشنج لعضلات جسمي وتتلف أعصابي، أحاول أن أكون قوية أمام أطفالي"، أحاول أن أبدو جلدًا أمامها، رغم أنني أعاقر نفس الخوف، فأملأ عيني منها ومن أولادي، أتلمس خطواتي، فوقي القصف ومن تحتي الأشلاء وأدعو الله أن يمر اليوم دون أن أعود؛ لأحمل أحدهم جثة من تحت الأنقاض أو أهرع إليه وقد بترت ساقه أو ذراعه في أحد المستشفيات التي لم يعد فيها أسرّة ولا أدوية، بل صارت مسرحًا للجثث التي إن لم تمت من القصف، تموت لقلة الأكسجين وقلة العلاج بل حتى وقلة المازوت الذي يدير أجهزة المستشفى التي بلا كهرباء ولا ماء، أتأمل، بعيون الكاميرا، الشارع الممتد يعوي فيه الصراخ وتلتهم الأنات الصدور المترقبة خلف الجدران والبيوت التي ابتلعت سكانها وسجدت؛ لتفترش الأرض، جثث لأطفال وكبار، وجثث أخرى ما زالت لم تخرج، وشعار الناس (الحي أبقى من الميت) فالبيت الذي يعرفون أن تحته أحياءٌ يقوم الرجال بإخراجهم، أما من مات فيدفن تحت الركام. حتى الآلات التي كانت تساعدنا بدائية، فنجد مشقة كبيرة ونحن نحاول إنقاذ من قُصف بيته وحُشر هو وذويه دون أمل في إنقاذه إلا من كان له في العمر بقية، عند الساعة التاسعة من مساء الأربعاء الماضي، حلّت الكارثة واستهدف القصف الإسرائيلي حينا (القصاصيب في مخيم جباليا) لم أعلم أن المبنى الذي تقطنه شقيقتي من بين المباني التي تحوّلت إلى ركام؛ لترحل شقيقتي فاتن الأخت الحنونة والأم الصابرة، التي فقدت زوجها قبل تسع سنوات بقصف استهدف منزلهم، كرّست نفسها لتربية أولادها السبعة، حاولت كل ما في وسعها أن تؤمّن لهم ولو أدنى ما يحتاجونه من خلال مساعدات الجمعيات، سبعة عشر شخصًا، من بينهم تسعة أطفال أغمضوا أعينهم إلى الأبد، بعدما أطبق المبنى المؤلف من أربعة طوابق عليهم، وإلى الآن لا يزال ستة منهم، من بينهم ثلاثة أطفال تحت الركام، وإن كان إكرام الميت دفنه، فحتى إكرامه في غزة أصبح أمرًا صعب المنال، بعدما استشرس الموت وعلا صوت الدمار، في وقت تعجز فرق الإنقاذ أمام هول المصاب، ذلك اليوم، كانت فاتن ومن معها في المنزل يترقبون نهاية رحلتهم على الأرض كما بقية سكان قطاع غزة، فجميعنا يدرك أن الدورَ آتٍ عليه، فشبح الموت يحيط بنا من كل الاتجاهات من دون أن نعلم اللحظة التي سينقض فيها علينا، ربما وأنا أتحدث في الميكرفون الآن لأبث مقطعًا أو لأصوِّر بشاعة ما تصنعه بنا إسرائيل على مرأى من العالم الخانع أو المتعاطف أو المساند، أصبح ذكرى كما الآلاف ممن ابتلعهم القصف، ماتت فاتن بلا وداع ولا عزاء، كأن رسالتها السابقة كانت رسالة الوداع من دون أن أعي، فارقتني رفيقة الطفولة قبل أن أتمكَّن من رؤيتها أو حتى تقبيل جبينها قبل دفنها، حرمت منه، بعدما أن تحوّل جسدها وأجساد من كانوا معها في المنزل إلى أشلاء، ألم وقهر صار هذا هو المذاق الدائم الذي نشعر به، اعتدنا الموت، صار وجهه حاضرًا في كل مكان، في الغبار الذي يغطي وجه أم فقدت أبناءها، وفي دموع أب، يحمل أشلاء أبنائه ويصرخ، وفي عيون طفلة تربت عليها يد الأطباء وهي تنادي على أمها وأخوتها الذين لن تراهم مرة أخرى، وبين أصابع شابة تحتضن حذاء زوجها الذي مات بعد ستة أشهر من زواجهما تتطلع إلى ابتسامة تورق على وجهه وتسقيها بدموعها، الموت والشهادة هو الحديث الدائر والضيف القائم في كل بيت، وقدري أن أطالع كل هذا وفي كل عين دمعة وعلى كل لسان صرخة ثكلى أو دعاء أو سب لنخوة العرب الجبناء، اعتدنا الموت ولكن فراق الأحبّة صعب، استُشهدتْ شقيقتي وبسبب انقطاع الكهرباء والإنترنت وعدم قدرتنا على متابعة الأخبار لم أعلم باستشهادها إلا من خلال زوجة ابنها المقيمة وإياه في بلجيكا، فلم يتبق من عائلتها سواه وشقيقه المقيم بتركيا. علمت بعدها بالمأساة من التلفاز، قصدت المستشفى؛ لأصدم بأنه لم يبق من شقيقتي وأولادها سوى أشلاء، صلّيت عليهم في المستشفى، قبل أن أتوجه برفقة ثلاثة أشخاص، لدفنهم في قبر جماعي، ففي غزة حُرِم الميت من الصلاة عليه في المسجد، كما أنه لا يمكن لأكثر من أربعة أشخاص التوجه لدفنه أو إقامة عزاء له خوفًا من القصف، لا الأحياء ولا الأموات لديهم حقوق في القطاع، يومًا بعد يوم يضيق السجن الذي نعيش فيه في غزة أكثر، فحتى الانتقال إلى مبنى شقيقتي المنهار كان مستحيلًا بسبب الصواريخ التي تنهار على مدار الوقت، انتظرت يوم الجمعة وذهبت؛ لأقف على أطلال أشخاص كان لديهم كما بقية أهالي غزة أحلامًا وآمالًا، لكنهم حُرموا من أبسط حقوقهم، حتى أصبحوا يتمنّون الموت، فقد كان أقصى أمنيات فاتن وأولادها اللحاق بزوجها ووالدهم، أجبرتنا الحرب في القطاع على السكن مع بعضنا البعض، فمنا من خسر منزله ومنا من يرغب ألا يفرّقه الموت عن أفراد عائلته وأهله، فإما العيش معًا أو الرحيل معًا، ففي منزلي تسكن خمس عائلات، عبارة عن ستة وأربعين شخصًا، إضافة إلى عائلتي المؤلفة من زوجتي وأولادي الستة، لم أستطع أن أقاوم هذا الحنين لأولادي، أعلم أنني سأُحرم منهم إما بقصفي أو بقتلهم، فكان لزامًا أن أراهم، طرقت الباب ففتحت لي زوجتي لأشاركهم العشاء، عدس وبعض قطع الخبز اليابسة؛ فحتى الخبز هنا رفاهية، تفحصت وجوههم وتلمست خدودهم الغضة، نامت صغيرتي "تاليا" التي لم تتعدَ الأربع سنوات بين ذراعي؛ لأحكي لها قصة لتنام وكلما هدأت سمعت دوي الصواريخ، ترجف في حجري فالخوف يقتل أطفالنا قبل الصواريخ.
تفتح عينيها؛ لتمسح على لحيتي الخشنة التي شيبتها الأهوال، وتقول: "هايدا قصف يا بابا؟" لأقول لها: "لا يا "تاليا" مو قصف هاد صوت المطر"، لم أكذبها فالملاعين يمطروننا بالموت، من دون أن يعني ذلك أن الأموات سيرقدون في سلام، وآن وقت الفراق ركضت نحو ابني الصغير كي أحتضنه، لكنه مضي مبتعدًا.. أزاحني من طريقه وواصل مسيره، ثم انحنى بجسده والتقط البندقية ووضعها على كتفه.