الحاج أبو مجاهد توقظه نسمات الفجر قبل موعد الفجر بساعة ليصلي ما يستطيع من قيام الليل، وما شاء الله له أن يصلي. فهو يعلم أن لقيام الليل ثمارًا عديدة؛ تُستجاب الدعوات، وتُغفر الذنوب، وتُقضى الحوائج، وزيادة الإيمان، ونور اليقين، والتلذذ بالمناجاة، ورفع الدرجات، وطرد الأمراض والهموم عن الجسد، ونزول السكينة، ونيل الطمأنينة، واكتساب الحسنات، وقربه إلى الله، وتكفير السيئات. وهو من وسائل الثبات على الدين، من خلال قراءة أبو مجاهد للأحاديث وآثار الصالحين.
ويعلم أيضًا من خلال مطالعته في كتب الإعجاز العلمي أن قيام الليل له فوائد متعددة للقلب والجسم، حيث يُسهم في طرد الأمراض من الجسم، ويقلل من مخاطر الموت المفاجئ، ويقلل من مخاطر تخثر الدم، كما يؤدي إلى تحسين وليونة العمود الفقري وغيرها من الفوائد التي اطلع عليها أبو مجاهد في كتب دينية وإعجازية. وليُرطب لسانه بما شاء الله له من قراءة القرآن والذكر، من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، والصلاة على النبي واستغفار، و قبل أن يحين موعد أذان الفجر بربع ساعة.
يكرب أزاره ويضع الحطَّة على رأسه ويشده بالعقال الأسود، ويحمل عكازَه رفيقة دربه، فهي من يسند عليها تعب وإرهاق السنين و مسافة الطريق، ولتكون له عوناً على هوامّ الأرض من عقارب وأفاعي. فيخرج من بيته المتواضع، ويتوجه بخشوع وخضوع قاصداً المسجد ؛ ليؤدي صلاة الفجر جماعة. وكان في البلدة مسجدان، وقد حصل خصام وجدال بين إمام المسجد الكبير وأبو مجاهد، لأن أبا مجاهد كان يؤذن دون علم الإمام، وإذا تأخر الإمام كان أبو مجاهد يؤم المصلين. فمنعه الإمام خشية أن يذهب أحد المصلين ويشتكي على إمام الحي لمديرية الأوقاف.
لهذا السبب، أراد أبو مجاهد أن يغادر المسجد الكبير ليصلي في المسجد الثاني الأقل مساحة، والذي يُسمى عند أهل القرية بالقديم. ولأن أبو مجاهد يعلم أن المؤذنين هم أطول الأعناق يوم القيامة، كان يتسابق إلى المسجد لكي يؤذن.
ولبركة الصف الأول وفضله وما فيه من أجر عظيم، يتسابق المسلمون عليه ويتنافسون. وعلى المسلم، إن لم يستطع أن يأتيه، فليحاول ولو حبوا لنيل فضله العظيم.
وكان المسجد الذي قرر أبو مجاهد الذهاب إليه يفصل بينه وبين المسجد الكبير مقبرة القرية، وفي منتصف المقبرة يوجد طريق قصير مختصرة توصل إلى المسجدين بسرعة.
خرج أبو مجاهد قاصدًا الصلاة في المسجد القديم، فهو يعلم فضل كثرة الخطى إلى المساجد، وكثرة الخطى يمحو الله بها الخطايا، إذ إن كل خطوة ترفعه درجة وتحط عنه خطيئة. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزلاً كلما غدا أو راح). وفي طريقه، تجاوز المسجد الذي كان يصلي فيه، وسكنت روحه فيه، فرفرفت الروح وتنفس الصدر بالإيمان. وأثناء مروره بالمقبرة، وكان الفصل شتاءً والساعة الرابعة والنصف فجرًا، كان هناك هدوء، وقرأ الفاتحة لأرواح موتى المسلمين.
ثم قال: السلام عليكم دار قوم مسلمين. أنتم السابقون، وأنا إن شاء الله بكم لاحقون. يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين. إذ سمع صوتاً من داخل المقبرة يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. ففزع أبو مجاهد ووقف شعر رأسه، وزادت نبضات قلبه،
واسودّ وجهه وازداد الشيب في رأسه.
وهرع هارباً عائداً إلى المسجد الكبير الواسع الذي كان يصلي فيه. والتزم الصف الأول، متوجهاً نحو القبلة، ترتعد فرائصه، يهلل ويوحد الله ويستغفر، ويدعو الله قائلاً: اللهم سلم، اللهم اللطف، عفوك يا رب.
وبعد برهة قصيرة دخل المسجد أبو معاذ، فأخذ يتصفح وجوه المصلين ليستدل على مكان أبو مجاهد. نظر جيدًا ودقق، فاستدل على مكان أبو مجاهد، فذهب متوجهًا إليه فسلم عليه
وعاتبه قائلاً: لم تنتظرني يا ابو مجاهد حتى أرافقك إلى المسجد؟ فقد بح صوتي وأنا أناديك ولم تسمعني. وفي لحظة، زال الخوف عن أبو مجاهد وسكن الهدوء عنه، وقال لأبي معاذ:
أنت الذي كنت تسير في الطريق الترابي وسط المقبرة، وعندما ألقيت السلام على الأموات، أجبتني.
كنت أظنك شبحاً بلباس أبيض، أخفتني يا أبا معاذ، ونشفت الدم في عروقي. فقال له أبو معاذ: نعم، وهل أنت يا أبا مجاهد ما زلت تؤمن بهذه الخرافات؟
دينك وإيمانك ضعيف، يا أبا مجاهد. لا تعبد الله على حرف، فليكن إيمانك بالله قوياً، والتقوى هي الأقوى، يا أبا مجاهد.